نص المحاضرة2
مقدّمة
من خلَال التّصفح المتأمل لمنهَج سيبويهِ في دراسته لمدونة الكلام العربي، نجد كتابه قد احتوى على أهم الضوابط والمعايير في التأسيس لعلم العربية، مع شرحٍ وافٍ لتلك الضوابط، بعضها كان في مقدمة الكتاب وبعضها في ثناياه.
وقد تمثلت إجمالاً: في استعمال القواعد الكليّة، والتعريف بالمسائل النحوية في بداية الأبواب، وحسن اختيار المثال، وربط المسائل وتعليلها ومعرفة مراتب الكلام العربي، وحدوده التي لا يمكن تجاوزها، والقياس والاستنباط، وشرح الشاهد الشعري والنثري والشاهد القرآني والحديثي. بالإضافة إلى تفسير اللّهجات العربية المخالفة لمعهود الكلام العربي الشائع وبيان منزلتها في مراتب السّماع.
كما لم يخلُ بحثه من تقعيد القواعد وتأصيل الحدود، التي تحكم الكلام العربي، وقد استرعى انتباهنا طريقته الذكيّة في عرض المادة العلميّة، وعمِلْنا على محاكاتها في قاعات التدريس فوجدناها طريقة تجمع بين تعليم النحو وبين فلسفته، كما أنها طريقة تجعل من المتعلم مشاركا في العملية التعليمية وليس مجرد متلقٍ. وذلك بالحفاظ على ذهنه متيقظا ومتابعا ومستنتجا في الوقت نفسه، حتى يرتقي إلى درجة القياس على منوال الكلام العربي.
من هنا جاءتنا فكرة استلهام بعض ما في هذا الأسلوب العلمي من آليات في تدريس اللغة العربية عموما والنحو والصرف خصوصا، ولا يمكن الإحاطة في هذا البحث بجميع ما استعمله سيبويه، ولكنّنا سنورد منها أمثلة، ونترك الباقي لدراسات تالية إن شاء الله.
أولا: الاهتمام بالقواعد الكلية بين يدي الدرس النحوي
الكتب تفهم بمقدماتها، وتعتبر مفاتيحها الأساسية، ولذلك فقد اهتم سيبويه في مقدمة كتابه بتأصيل الأصول النحوية الكلية التي كثر استعمالها والرجوع إليها في متن الكتاب، فكان من الحكمة بَدَاءتُهُ بتوضيح معانيها، حتى لا يحتاج القارئ إلى الاستفسار عنها في كل مرة.
فمن ذلك قوله في مقدمة الكتاب:" هَذا بابُ الاستقامَةِ من الكلامِ والإحالةِ[1]، فمنهُ مستقيمٌ حسنٌ، ومحالٌ، ومستقيم كذبٌ، ومستقيمٌ قبيحٌ، وما هوَ محالٌ كذبٌ، فأمَّا المستقيمُ الحسنُ فقولُك: أتيْتُكَ أمسِ وسآتيكَ غدًا. وأمّا المحالُ فأنْ تنقضَ أوّلَ كلامكَ بآخرهِ، فتقولَ: أتيتكَ غدًا، وسآتيكَ أمسِ، وأمّا المستقيمُ القبيحُ فأنْ تضعَ اللفظَ في غَير مَوضعه نَحو قولكَ: قَد زيدًا رأَيت، وكَي زَيد يَأتيَكَ وأشباهِ هذَا"[2].
إن المتابع لمواضيع الكتاب يجد هذه المصطلحات مستعملة من بداية الكتاب إلى نهايته، فكان من الحكمة إدراجُها قبلَ صُلب الموضوع، لشدّة الحاجة إليها في البحث النحوي.
ولم يكتف بهذا فحسب، بل أشار إلى كثيرٍ من الأمور التي تتعلق بفقه الكلام العربي، من الحذفِ الذي تستعملهُ العربُ في كلامها، وتعوضُ عنهُ، أو تحذفُ أحيانًا ولا تعوضُ عن المحذوف، ومن مثلِ استغنائهمْ بالشيءِ عنِ الشيءِ الذي أصلهُ في كلامهم أن يستعمل حتى يصير ساقطا ...
هذا الصنيع من سيبويهِ نأخذُ منه وجوب اهتمام معلم العربية بالمقدّمات والمسائل المجملة قبل التفصيل فيها، وباستعمال الحصص الأولى والبدايات في التأسيس للقواعد التي يحتاجها في الدراسة، ويهتم مع ذلك بشرح مصطلحاتٍ يكثرُ دورانهَا في مسيرة تعليمه للعربية، وشرح بعض الأسرار والظواهر البارزة والمميزة في الكلام العربي.
ومن المثال على ذلك: تقديمُ الحديثِ عن الإعرابِ وعلاماتهِ علَى سائرِ الأبوابِ النحوية، كما فعل سيبويهِ حينَ حصرَ أقسامَ الكلام ومثلَ لهَا وبينَ الأوجه التي تكون عليها الكلمة المعربة أو المبنية، والمصروفة والممنوعة من الصرف، وحال الاسم والفعل والحرف. كما تحدث عن الضرورة الشعرية وأوجهها إجمالا، وما يجوز في الشعر دون النثر.
كما نجده يدرك مواضع الإجمال ومواضع التفصيل، ويستعمل كل نوع في مكانه اللائق به ولا يعكس على المتعلم الأمر، فلا يفصّل له المسألة في غير محلها، إلا أنه يشير إشارة ويحيل على موضع تفصيلها اللائق بها، أو يذكّرُ بما سبق أن تناوله منها، إذا أراد استكمال تلك الإشارات التي لم تكن في محلّها.
ثانيًا: التّعريفُ بالمسائِلِ النّحوية
لا يبدأُ سيبويهِ بباب نحويٍّ إلاّ وألزم نفسه بتعريفنا بهذا الباب، تعريفًا يزيل عنه كل إشكال، ويربط بينه وبين ما سبقه من أبواب، ويبين أوجه الاختلاف بينها.
فهو يقول مثلا: "هذَا بابُ المسندِ والمسندِ إليهِ وهمَا مَا لاَ يَستَغني واحدٌ منهمَا عن الآخَر، ولاَ يَجد المتَكلمُ منهُ بدًّا، فمن ذلك: الاسمُ المبتدأُ والمبنيُّ عليه[3]، وهو قولك: عبدُ اللهِ أخوكَ وهذَا أَخوكَ، ومثلُ ذلكَ يَذْهَبُ عبدُ الله، فلاَ بدّ للفعل من الاسم[4]، كما لم يكن للاسم الأوّل بدٌّ من الآخَرِ في الابتِداءِ"[5].
ومن أساليبه في التعريف بالأبواب بداءته الأبواب النحوية بذكر المتفق عليه عند العرب قبل ذكر المختلف فيه، وذلك تأسيسا منه للأصول قبل الفروع، وحفظا للبناء العقلاني المنسجم للمفاهيم النحوية في ذهن المتعلم، وعدم القفز إلى خلاصة المواضيع قبل إحكام مقدماتها وأوائلها، ويبتعد عن اختصار المسائل ما أمكن ذلك، لما يتركه الاختصار من خلل في الوضوح والبيان لدى العقل، وقد أشار ابن خلدون إلى أن اختصار العلوم والاقتصار فيها على المهمات لا يسلم من ترك بعض الخلل لمن يريد أن يكتفي بالمختصرات في العلوم[6].
ولذلك يذكر في باب الحروف الخمسة –إنّ وأخواتها-عند التّمثيل لمسائلها قوله: " إنّ بك زيدًا مأخوذٌ، وإنّ لكَ زيدًا واقفٌ، ...ورَوَى الخليلَ أنّ ناسًا من العرب يقولون: إنّ بكَ زيدٌ مأخوذٌ، فقالَ: هذَا علَى قوله: إنّهُ[7] بكَ زيدٌ مأخوذٌ، وشبّههُ بما يجوزُ في الشّعر، نحو قوله، وهو ابن صريمٌ اليَشْكُريّ:(طويل)
وَيومًا تُوافِينَا بوَجْهٍ مُقَسّمٍ |
كَأَنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَمْ |
وقال الآخر: (هزج)
وَوَجْهٍ مُشْرِقِ النَّحْرِ |
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حقَّانِ |
لأنّه لا يحسن ههنا إلا الإضمارُ...والنصبُ أكثرُ في كلام العرب"[8].
وهكذا وجدنا منهجه في الكتاب، يعتمد على الأكثر في كلام العرب، فيبني عليه المسائل، ولا يهمل بعد ذلك ذكر القليل والتعليل له بما يناسبه[9].
وذكر أنّ "إنّ" المشدّدة إذا خفّفت جاز إهمالها وهو الأكثر عند العرب، وجاز إعمالها وهذا قليل عندهم، فقال: "واعلم أنهم يقولون: إِنْ زَيْدٌ لَذَاهبٌ، وإنْ عَمرٌو لخَيْرٌ منْكَ، لما خفّفها جعلها بمنزلة (لَكِنْ) حينَ خفّفها، وألزمها اللّام؛ لئّلا تلتبس بـ:(إِنْ) التي هي بمنزلة (مَا)، التي تَنفِي بها...وحدّثنا من نثقُ به أنه سمعَ من العرب من يقول: (إِنْ عَمْرًا لَمُنْطَلقٌ)، وأهلُ المدينة يقرؤون: (وَإِنْ كُلًّا لَمَا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) (هود:111) يخفّفون وينصبون، كما قالوا:
...................... |
كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حقَّانِ |
وذلك لأنّ الحرف بمنزلة الفعل[10]، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله، كما لم يغير عمل (لَمْ يَكُ وَلَـمَ أُبَلْ) حين حذفَ، وأما أكثرُهم فأدخلوها في حروف الابتداء حينَ حذفوا، كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها (مَا)"[11].
ونستفيد من هذا الصنيع أن معلم العربية لا ينتقل بالمتعلم انتقالا سريعا في ذكر المختلف فيه من المسائل قبل إحكام المجمع عليه، ولا يمكن إهمال هذه الحيثية لأنها بناء منطقي متدرج، متى خولف كانت النتائج عكسية تماما، وأثّرَ ذلك خلَلًا في ترتيب المعلومات، ونقصًا في إدراك المفاهيم.
ثالثًا: اقترانُ المسائل بأمثلتها
لا يقدّم سيبويهِ مادّته العلمية إلا مشفوعةً بأمثلتها، فلا يتعرض للشّاهد النحويّ قبل أن يشرح المسألة النحوية شرحًا مبنيًّا على الأمثلة المصنوعة أو المأخوذة من الواقع الذي كان سائدا في زمانه سالكا في ذلك سبيل الوضوح ما أمكن، فهو يمثّل للفاعل بقوله: "ذَهَبَ زَيدٌ وجَلَسَ عَمرٌو"[12].
ويمثّل للنائب عن الفاعل بقوله: "ضُرِبَ زَيْدٌ ويُضْرَبُ عَمرٌو"[13].
ويمثل للمفعول به الذي تعدى إليه فعل الفاعل بقوله: "ضَرَبَ عَبْدُ اللهِ زَيْدًا".
ومما هو شائع في الأمثلة ألا يكتفى بالمثال والمثالين، بل يتوسع في الأمثلة بأسلوب متدرّج، جاعلا كلّ فئة منه تمثل حكما نحوياً أو أكثر، وله اهتمام بتقليب أوجه النظر والاحتمال في كل مثال، بادئا في كلّ ذلك بـقوله مثلا " فإِنْ قُلتَ: (رَأَيْتُ) فأردت رؤية العين، و(وَجَدْتُ) فأردت وِجْدَانَ الضّالّة، فهو بمنزلة (ضَرَبْتُ)"[14].
ويستتبع مسألةَ التمثيل مسألةٌ مهمّةٌ ينبغي استخدامها في التعليم، وتلكم هي: قياسُ التراكيب والألفاظ بعضِها على بعضٍ، ومحاولةُ إيجادِ أوجهِ شبهٍ بينها، في العمَل أو في تَرك العمَل.
فنجد قياس عمل (لاَ) النافية للجنس على عمل (إنَّ) في قوله: " هذَا بابُ النّفي بـ: (لاَ)، و(لاَ) تعملُ فيما بعدَها فتنصبُه بغير تنوينٍ، ونصبُها لمـاَ بعدَهَا كنَصبِ (إِنَّ) لـمَا بعدَهَا. وتركُ التنوينِ لما تعملُ فيه لازمٌ، لأنّـهَا جُعِلَتْ ومَا تعملُ فيه بمنزلة اسمٍ واحدٍ نحو: (خَمَسةَ عَشَرَ)؛ وذلك لأنها لا تشبه سائرَ مَا ينصبُ ممّا ليس باسمٍ وهو الفعلُ ومَا أُجرِيَ مُجْرَاهُ، لأنّها لَا تعمَل إلاّ في نكرةٍ.
و(لاَ) وما تعملُ فيه في موضع ابتداءٍ... فـَ "لاَ" لا تعملُ إلاّ في نكرةٍ، كما أنّ (رُبَّ) لا تعمل إلا في نكرةٍ"[15].
وقد يكون القياس برمته منقولا عن شيوخه، إثباتا منه لسند العلم ورد الفضل لأهله، واحتراما للسبق في الكشف عن حيثياته. كمثل ما جاء في الكتاب "وقال الخليل: يدلك على أن (لاَ رَجُلَ) في موضع اسم مبتدأ مرفوع، قولك: (لاَ رَجلَ أَفْضَلُ مِنْكَ)، كأنّك قلتَ: (زَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْكَ)، ومثل ذلكَ: (بِحَسْبِكَ قولُ السُّوءِ)، كأنّك قلتَ: (حَسْبُكَ قَوْلُ السُّوءِ)، وقال الخليل: كأنك قلتَ: (رَجُلٌ أَفْضَلُ مِنْكَ)، حين مثله"[16].
فيلاحظ هنا استعمال فكرة القياس في تقريب المسألة النحوية، ولا يكتفى بقياس واحد، بل نجد القياسات تتداخل بحسب تداخل الكلام على جوانب الموضوع الواحد. فقياس "لاَ" النافية للجنس في عملها النصبَ على عمل "إنّ".
وقياسها من جهة محلّها الإعرابي في أول الكلام هي وما تعمل فيه على الاسم المبتدأ به، الخالي عن العوامل اللفظية المزيلة لارتفاعه على الابتداء، فهما بمنزلة مبتدأ مرفوع، ويمكن تغييب النظر إلى الحركة التي في آخر اسمها ظاهرا، إذ كان المعنى يخدم هذا التأويل.
وقياس ترك التنوين مع ما تعمل فيه "لاَ" ولزومه، على التركيب "خمسةَ عَشَرَ" عندما ترك التنوين في خمسة، وصارت مع (عشرَ) كالكلمة الواحدة تعرب من محل واحد، ويلغى النظر إلى الحركة الوسط.
وقياسها في ضعفها في العمل وأنها لا تعمل إلا في نكرة على، ما ليس بفعل وهو ينصب، فهي نازلة عن رتبة الفعل في الإعمال؛ لأن الفعل قوي في العمل يعمل في النكرات والمعارف، ويعمل مقدما ومؤخرا، وله خصائص أوسع بكثير من (لاَ) الملحقة به في العمل على ضعف فيها.
وهذه القياسات تجعلنا ندرك حقيقة المسألة النحوية من جميع جوانبها، ونلحقها بما هو شبيه بها في كل حالة من حالاتها، ونوازن بدقة بينها وبين غيرها مما يمكن أن يلتبس بها، وهو لا يعمل عملها.
ويقول أيضا:" واعلم أنك لا تفصل بين "لاَ" وبين المنفي كما لا تفصل بين "مِنْ" وبين ما تعمل فيه وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: "لاَ فِيهَا رَجُلٌ"، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه: "هَلْ مِنْ فِيهَا رَجُلٌ؟" ومع ذلك أنّهم جعلوا "لَا" وما بعدها بمنزلة "خَمْسَةَ عَشَرَ" فقبُحَ أن يفصلوا بينهما عندهم، كما لا يجوز أن يفصلوا بين "خمسةَ" و"عشر" بشيء من الكلام لأنها مشبّهةٌ بهَا"[17].
فلا يخلو جزء من أجزاء تعليم العربية عن عملية تشغيل الذهن بقياس المسائل بعضها ببعض، لأن فيها تقريبا للمفهوم، مع أن المسائل المتشابهة تبقى غير متطابقة ولكن القياس فائدته كبيرة في تقريب الأفكار لدى المتعلمين.
ونلاحظ أيضا أن كثرة القياسات يحاول من ورائها سيبويه بيان خاصية من الخصائص الدقيقة، لا يمكن بيانها لو اقتصر على بعض القياسات، لأن كل قياس يهتم بكشف جانب خفي من العلم المتعلق بالمسألة المراد درسها، ولذلك فربما يرى الرائي أن هناك ترفا في القياسات، وأنه يمكن الاستغناء ببعضها، إلا أن المتأمل يرى أن كل قياس قد أصاب به المؤلف حيثية من البحث تستدعي منه أن يفعل ذلك.
كما أن فيه دليلا على أن لكل باب خصائصَهُ المميزةَ لهُ، وأن التشابه في تلك الخصائص يقضي بالتشابه في النتائج المترتبة عنها.
وفتح باب القياس في مسائل التعليم لا يقتصر على باب دون آخر في النحو، وإنما يشمل كل المواضيع، فنجد سيبويه يستعمل القياس حتى في الشواهد ففي قول الشاعر:
هَذَا لَعَمْرُكُمُ الصّغَارُ بِعَيْنِهِ |
لاَ أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلاَ أَبُ |
فزعم الخليل أنّ هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال:
........................... |
فَلَسْنَا بِالْـجِبَالِ ولَا الحَدِيدَا |
أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضا قول العرب: "لاَ مَالَ لَهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ"، رفعوه على الموضع، وإن شئت قلت: "لاَ مَالَ لَهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا"، إذا جعلت الكلام على "لاَ"، فجعلته صفةً، كما تحملها على "مِنْ" إذا قلتَ: "مَا أَتَانِي مِنْ مَالٍ قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ"، ولو حملت على الموضع رفعت"[18].
فلا يكتفى في وصف الأبواب، حتى تمتد عملية القياس على الشواهد العربية شعرا ونثرا، وتقليب احتمالات التوجيه فيها، وقياس كلّ توجيه على ما يشاكلُه من شواهدَ أخرى. كما تُلحقُ التراكيبُ والصيغُ بعضُها ببعض فيما اتفقت فيه.
رابعًا: ربطُ المسائلِ النّحوية وتعليلُها
لا يسوق سيبويه المسألة النّحوية إلا وهي معلّلة، وكما أنه يشرح أسباب ورودها على الوجه الشائع عند العرب، فإنه لا يفوته أن يذكر لها أوجهًا أقلَّ شهرةً أو أندرَ، مع التزامه أيضًا بتعليلها.
يقول في باب ما يجري على الموضع في المشبّهاتِ بليْسَ: "هَذَا بَاُب ما يُجْرَى عَلَى الموضعِ لاَ علَى الاسْمِ الّذِي قَبلَه، وذلكَ قولك: (لَيْسَ زَيْدٌ بـِجَبَانٍ وَلاَ بـَخِيلًا، وَمَا زَيْدٌ بِأَخِيكَ وَلاَ صَاحِبَكَ)، والوجْهُ[19] فيه الجرُّ؛ لأنّكَ تريد أَنْ تشركَ بينَ الخَبرَين، وليسَ ينقضُ إجراؤُه عليهِ المعنَى، وأَنْ يَكُونَ آخرُه علَى أوّلهِ أوْلَى، ليكوَن حالهُمَا في البَاءِ سواءً، كحَالِهمَا فيِ غيرِ البَاءِ، مَعَ قُربهِ منهُ"[20].
ويقول معلّلًا عدم جواز الاقتصار على أحد المفعولين في الفعل المتعدي إلى مفعولين: " هَذَا بابُ الفَاعلِ الّذِي يتعدّاهُ فعلُه إلَى مفعولَينِ، وليسَ لكَ أن تَقتصرَ علَى أَحدِ المفعُولينِ دونَ الآخَرِ وذلك قولُكَ: "حَسِبَ عَبْدُ اللهِ زَيْدًا بَكْرًا"، و" ظَنَّ عَمْرٌو خَالِدًا أَبَاَك"، و "خَالَ عَبدُ اللهِ زَيْدًا أَخَاكَ"،... ؛ وإنّما منعَك أنْ تقتصر على أحد المفعولين ههنا أنكَ إنما أردتَ أن تبينَ مَا استقرّ عندكَ منْ حالِ المفعولِ الأولِ يقينًا أو شكًّا، وذكرت الأولَ لتُعْلِمَ الذِي تُضيفُ إليه ما استقرَّ لهُ عندكَ، فإنّما ذكرت (ظَنَنْتُ) ونحوَهُ لتَجعلَ خبرَ المفعول الأول يقينًا أو شكًّا، ولم ترد أن تجعلَ المفعولَ الأولَ فيه الشّكّ أو تعتمدَ عليه في اليقينِ "[21].
يشير سيبويه إلى عمل الذهن في تكوين المعنى مقرونا باللفظ، وأن اللفظ المعين خادم لمعنى معين، فلما اختلفت المعاني في الأذهان اختلفت الألفاظ المعبرة عنها[22].
هكذا يسعفنا بتعليل نفسي خالص لقضية الابتداء والخبر إذا دخلت عليهما النواسخ، وكيف يتكون المعنى في ذهن المتحدث وينتقل إلى ذهن المخاطب، إنه يفكك المرحلة الزمنية اليسيرة إلى مراحل جزئية يبنى فيها المعنى إلى أن يكتمل بين متخاطبين.
ويقول في أبواب الصرف مستنتجا قاعدة من قواعد العرب في كلامها، ومبرهنا عليها بالأمثلة، " والعَرَبُ ممَّا يَبنُونَ الأَشْيَاءَ إذَا تقارَبَتْ عَلَى بنَاءٍ واحدٍ..."[23].
وهو يحاول دائما ربط المسائل في نظم متشابه ولو في إحدى الخصائص المشتركة، "فمن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك: "النّزوَانُ" و "النّقَزَانُ" و "القَفَزَانُ"، وإنما هذه الأشياء في: زَعْزَعَةِ البَدَنِ واهْتِزَازِهِ فيِ ارْتِفاعٍ...ومثلُ هذَا "الْغَلَيَانُ"؛ لأنّه زَعْزَعَةٌ وتحرُّكٌ، ومثلُهُ "الْغَثَيَانُ"؛ لأنّه تـَجَيُّشُ نَفسٍ وَتَثَوُّرٌ، ومثلُه "الخَطَرَانُ" و "اللَّمَعَانُ"، لأنّ هذا اضطراب وتحرّكٌ ومثلُ ذلك "اللّهَبَانُ" و "الصّخَدَانُ" و "الْوَهَجَانُ"؛ لأنّه تحرّكُ الحرِّ وثُؤُورُهُ، فإنما هو بمنزلة "الغَلَيَانِ"... وقد جاؤُوا بـ "الْفَعَلَاِن" في أشياءَ تقاربتْ. وذلك: "الطّوَفَانُ"، و"الدّوَرَانُ"، و"الجَوَلَاُن"، شبّهوا هذا حيث كان تقلبًا وتصرفًا بـ "الغَليَان" و"الغَثَيَان"، لأنّ "الغَلَيَانَ" أيضا تقلّبُ ما في القدر وتصرُّفُهُ"[24].
فاكتشاف الروابط بين المواضيع وتعليلها بعلل تربط بينها في الحكم، من أهم مهمات المعلم حتى يفتح ذهن المتعلم لميدان فسيح من فنّ الملاحظة والقياس والتعليل، والإصابة في كل ذلك والخطأ حتى يصقل فكره شيئا فشيئا، ويربي فيه ملكة ذوقية، تحسن النظر فيما بين يديها من ظواهر اللغة العربية. وتحسن أداءها لغيرها من العلوم بالموازاة مع ذلك.
خامسًا: تعليمُ الطالبِ مراتبَ الكلام العربيّ
ينبه سيبويه مثلا على أن العرب وضعت بين الألفاظ حدودا، فلا بد من الوقوف عندها؛ لأن في العربية من الألفاظ ما لا يحتمل تقديما ولا تأخيرا لضعفه عن مقاومة هذا التقديم والتأخير فلا يستطيع في الوقت نفسه البقاء على عمله في الجملة والكلام، والأمثلة على ذلك نجدها في المشبّهات في العمل بالأفعال على اختلاف أنواعها، مثل الحروف النافية المشبهة بـ (ليس)، والحروف الناصبة للمبتدأ، يقول سيبويه:" فإذا قلت: "مَا مُنْطَلِقٌ عَبْدُ اللهِ"، أو "مَا مُسِيءٌ مَنْ أَعْتَبَ"، رفعتَ، ولا يجوز أن يكون مقدّمًا مثلَه مؤخّرًا، كما أنه لا يجوز أن تقول: "إنَّ أخوك عبدَ الله"، على حدّ قولك: "إنّ عبدَ اللهِ أخوكَ"، لأنها ليست بفعل وإنما جعلت بمنزلته، فكما لم تتصرف (إنَّ) كالفعل كذلك لم يجز فيها كل ما يجوز فيه، ولم تقوَ قوّتَه، وكذلك (مَا)" [25].
نلاحظ أن موازين القوة في نظر سيبويه لها أولوياتٌ في اللغة العربية، ففي سبيل الحفاظ على التقديم والتأخير فالعربية قد تتسامح في الإعراب وتزيل عمله إذا اختلف الترتيب الأصلي للجملة، كل ذلك مراعاة لما يأتي به التقديم والتأخير من المعاني النفسية والوجدانية التي لا يستغنى عنها ولا يقوم غيرها مقامها في سبيل التبليغ السليم للأفكار.
وهذا الأمر ينطبق أيضا على حالة دخول "إلاّ" على الحروف العاملة عمل "لَيسَ"، فيلاحظ سيبويه أيضا تغيّرَ اللفظ وزوالَ الإعمال بسبب التقديم والتأخير، ففي قولك:" مَا زَيْدٌ إِلاَّ مُنْطلِقٌ"، لم تقو "مَا" حيث نقضتَ معنى "لَيْسَ"، كما لم تقو حين قدّمتَ الخبر"[26].
إنّ سيبويهِ يذهب إلى أن يضعّف ما سمع عن العرب في التقديم والتأخير في الأحرف المشبهة بـ "لَيسَ" وأن من سنة العرب في كلامها إذا قدمت وأخّرت في هذه الأحرف أن تتخفف من الإعراب فيها؛ لأنها لا تحتمل أي خروج عن الأصل الذي وضعت عليه، ومن ذلك ما قاله الفَرَزدقُ: (البسيط)
فَأَصبَحُوا قَدْ أَعَادَ اللهُ نعمَتَهم |
إِذْ همْ قرَيشٌ وإذْ مَا مثلَهمْ أحدٌ |
قال سيبويه: "وهذا لا يكادُ يُعرفُ"[27].
وَنَجد سيبويه يعقد مقارنة تأكيدية بما أن التقديم والتأخير خروج عن الأصل، فتغيير الحروف الملحقة والمشبهة بالأفعال، لا يقوى على جعلها تثبت على عملها مع مخالفة الأصل في الترتيب، وإنما الذي يقوى على الأصل ومخالفة الأصل هو الأفعال، فالأصل في العمل هو الذي يثبت مع التقديم والتأخير.
فَيلاحظ سيبويه أنّ "ليسَ" تفيد النفي، و "كَانَ" تفيد الإثبات، وإذا دخل على" لَيسَ" و "كاَنَ" ما يغيّر معناهما الأصلي إلى عكسه، فيجعل "لَيْسَ" تفيد الإثبات ويجعل "كَانَ" تفيد النفي، فإنّ ذلك لا يضعف عملهما كما أنهما لم تضعفا بسبب التقديم والتأخير، وبقيتا على عملهما الإعرابي الذي كان لهما في الأصل.
سادسًا: اللّغةُ لها حدود لا تتجاوز
لا بد من تعليم الطالب الوقوفَ عند ما توقفت العرب، والالتزامَ بالمسموع عنها في المواضيع التي لم تتوسع فيها ولم تقس عليها. فلو تابعنا تأصيل سيبويه لقواعد النحو لوجدنا (فعلَ التعجّب) فعلا مقيسا على الفعل المتصرف في بعض أحواله فقط لا في جميعها، فهو يعمل عمله، ولكن في حدود ضيقة جدا، لأنه ملحق بالفعل في العمل.
يَقول سيبويه في باب ما يلحق بالأفعال في العمل ولم يقو قوة الأفعال، وهو يشرح ويحلل عبارة التعجب: (مَا أَحسَنَ عَبدَ الله): " ولا يجوز أن تقدمَ "عبدَ اللهِ" وتؤخر "مَا"، ولا تزيلَ شيئا عن موضعه، ولا تَقولَ فيه: "مَا يـُحْسِنُ"، ولا شيئًا مما يكون في الأفعال سوى هذا"[28].
وهكذا نجد باب التعجب محاطا بمنع التقديم والتأخير في صيغه، ونجد سيبوَيه يشير إلى اطّراد العلة نفسها في منع التقديم والتأخير في الأحرف التي ليست بأفعال، فَالعرب لم ترد لهذا النوع من الصيغ أن يتصرف فجعلوا له مثالا واحدا يجري عليه، فأشبه ما ليس من الفعل، نحو "لاتَ"، و"مَا" ([29]).
إن سيبويه يؤكد لنا أن صيغة "ما أحسنَ عبدَ الله"، يعمل فيها لفظ "أحسن" عمل الفعل، ولكنه مع ذلك لم يتمكن في العمل تمكنّه، ولم يجر مجراه في جميع أحكامه. ولا يجوز بناءً على ذلك التقديمُ فيه والتأخيرُ، لأنه ملحقٌ بالأفعال ولا يتصرف تصرف الأفعال، فكأن العلة في التقديم والتأخير مرتبطة بالقوة في العمل، والثبات عليه تقديما وتأخيرا، فما لم تتحقق هذه القوة في الكلمة فإنّ العرب تعاملها على قدر ما فيها من تلك القوة في إنجاز المعنى المراد إيصاله.
خلاصة المحور 2
لقد بان لنا بأن سيبويه كان فقيها في كلام العرب، وفقيها في طرائق تعليم كلام العرب، فنجده في مقدمة الكتاب بدأ بالكليات والمصطلحات التي تتعلق بسنن العرب وطرائقهم في التعبير، وبما يجوز في الشعر دون النثر، وبذكر مجموعة لا بأس بها من خصائص العرب في كلامها، كل ذلك كان على سبيل الإجمال، وكان له مع ذلك وزنه في متن الكتاب، لأنه في كل مرة يرجع إلى ذكر تلك الخصائص ويحيل عليها في تفسير الظواهر الكلامية عند العرب، كما أنه لم يغفل عن تقسيم الأحكام التي يوصف بها الكلام في مقدمة الكتاب، وكانت تلك الأحكام مما تكرر استخدامه في المتن.
لقد لا حظنا في هذه العُجالَةِ شيئا من الأسس الواضحة في تعليم العربية عند سيبويه، فهو يعتمد على شرح الأبواب شرحا يزيل عنها الإبهامَ، ثم ينتقل إلى التمثيل لها بمجموعة كبيرة من الأمثلة، وتكثير الأمثلة وتنويعها له فوائده الدقيقة، ثم يذكر ما يتفرع عن ذلك من مسائل، ثم يعرض لما سمع مخالفا للقواعد المشهورة ويوجهه ويعطينا حكمه، ثم يستدل بالشواهد القرآنية والشعرية المختلفة.
لقد كان كل بحثه معتمدا على فكر قياسي، معقود على المقارنات والموازنات بين الأبواب، ومحاولة إيجاد الروابط المناسبة بينها، ووضع الحدود المرسومة التي لا يمكن تجاوزها في الكلام العربي.
إننا بحاجة اليوم إلى الاسترشاد بما يمكن أن ينفعنا في سبيل تقوية طرائق نشر اللغة وتحصيلها، حتى لا نغفل عن حلول ربما هي بين أيدينا ولكن يحتاج استخراجها إلى شيء من التأمل وإعمال الفكر، ولابد في كل ذلك من الابتكار بما يتماشى مع متطلبات عصرنا الذي نعيش فيه. هذا سيكون أفضل من استيراد الحلول الجاهزة التي وضعت مراعية في الأساس لبيئة وأشخاص ربما لا تنطبق علينا أوصافهم، فتأتي النتائج دائما على غير ما نرجوه.