نص المحاضرة 1
لقد اكتسبت البحوث اللغوية في العصر الأول وهو عصر النشأة أهمية بالغة لدى علماء الإسلام، فظهر من بينهم المتخصص في علم اللغة عموما واستطاعت العربية أن تظفر بألمع من تصدى لتحصيلها وضبطها من أفواه المتكلمين بها، ووضع الضوابط والقواعد والمعايير، التي تنير سبيل المتبع فيما يعقب من أجيال، سواء كانوا من أصحاب اللسان العربي أم من غيرهم.
وفي خلال ذلك كان على الدارسين للعربية اختراع مجموعة مساندة من العلوم التي ساعدتهم في تنظيم أفكارهم وتجميع وتصنيف أبواب العربية ووضع المؤلفات بطريقة ممنهجة وكان من أوائل ما استعمل علم الجغرافيا اللغوية والإحصاء للوصول إلى تصنيف دقيق لمراتب الكلام العربي.
ومن الآليات التي استعملها سيبويه والعلماء في عصره وقبله بقليل آلية الملاحظة لإيجاد تشابهات وعلائق وترابطات بين الأبواب النحوية والصرفية التي كانوا يهتدون إلى تبويبها، وأثر ذلك إيجابا على متعلم اللغة، لأنه كان علما معتمدا على التفكير والاستنباط والملاحظة والمقارنة، لا على التلقين كما هو الحال اليوم، ولعلنا في تتبع طريقة تناول هذه الآلية نكتشف المستوى العلمي العالي الذي كان عليه تعليم اللغة في العصور الأولى، ثم نتأمل في كيفية توظيف هذه الآلية لإيجاد الباحث اللغوي المعاصر الذي يخترع علمه مما لديه من معلومات ومعطيات دون انتظار من ينوب عنه في استكشاف لغته.
- معنى التشابه والهدف منه
نقصد في هذه الورقة بلفظ التشابه: ما يعقده سيبويه من روابط يستنتجها بين بابين أو أكثر من أبواب النحو العربي، ليبين بواسطة هذا التشابه أن الأحكام قد تتفق في بعض الجزئيات وتختلف في بعضها، وأن الكلام العربي له نسق يسري عليه وأن اللغة لا تلبس على الإنسان فإذا تشابهت الخواص تشابهت الأحكام النحوية، وإذا اختلفت الخواص اختلفت الأحكام النحوية.
ولذلك فالتشابه كإجراء في منهج الدراسة وجدناه من أوسع مزايا كتاب سيبويه، بل وكتب المتكلمين في النحو من القدماء من أمثال الفراء في معاني القرآن، وابن جني في الخصائص، وأبي علي الفارسي في التعليقة على شرح كتاب سيبويه، وأبي عيسى الرماني في شرح كتاب سيبويه، وعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وغيرهم، أما كتب النحو المتأخرة فإنها لما كانت مختصرة فقد حذفت هذه الخاصية من متن النحو العربي، وركزت على الأفكار النحوية مجردة منها ومثال ذلك ما نجده في شرح ابن عقيل على الألفية وقطر الندى لابن هشام[1]، والنحو الوافي لعباس حسن.
ولا ريب أن الحديث عن الكلام العربي مربوطا بعضه ببعض يكون أكثر حيوية واستدلالا للقاعدة النحوية، وأكثر إثباتا لما في هذه اللغة من المزايا الكثيرة في نظامها، وهو أسلوب يرسم صورة متكاملة للنظرية النحوية العربية، مقرونة بفقه اللغة وأسرار العرب في كلامها، كما يفتح أمام الذهن آفاقا رحبة للتعليل المناسب لكل وجه من كلام العرب.
ولقد قيل عن سيبويه وكتابه الكثير مما يميزه عن غيره في عرض أبواب النحو.
قال الزبيدي الأندلسي يحث من أراد الكتابة في النحو أن يعتني بكتاب سيبويه:" ينبغي له أن يتصفح كتاب عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه، فينظر إلى مبادئ كتابه، وعنوانات أبوابه، ويرى لطائف معانيه، ودقائق حجاجه".[2] ولم يزل العلماء ينبهون على ما في هذا الكتاب من دقائق تحتاج إلى إظهار واستخراج.
1.2 من أهداف التشابه
ومن أهم ما يهدف إليه سيبويه في استعمال تقنية البحث عن المتشابهات بين الأبواب النحوية والصرفية هو: التقريب على المتعلم في التعليم، وذلك بإيجاد ما يشبه المسألة من الوجه المراد تعليمه، أو بيان أحكامها، ثم يذكر ذلك الوجه لكونه تنطبق عليه الأحكام نفسها، وتستنتج منه القواعد عينها، فيجد المتكلم نفسه قد فهم المسألة وتوضحت بين عينيه، وفتحت طريقا في عقله وبابا من القياس العلمي، بحيث يمكنه إعادة استعمال ذلك القياس في مواضع متعددة، وهذا قد أشار إليه الفراء في كتابه معاني القرآن حين قال: " نصب "حذرَ" على غير وقوع من الفعل عليه، لم تُرد "يجعلونها حذرًا"، إنما هو كقولك: "أعطيتُكَ خَوْفًا وفَرَقًا"، فأنت لا تعطيه الخوفَ، وإنما تعطيه من أجل الخوف، فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: (يدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)(الأنبياء:90)، وكقوله:(اُدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)(الأعراف:55)، والمعرفة والنكرة تفسران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من"، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم"[3].
فهذا الفراء يشير صراحة بأن من أهداف المشابهة تيسيرَ عملية التعليم وتقريبَها لذهن المبتدئ، حتى يتدرج في معارج المعرفة ويقطع أشواطها فيكتسب تلك الملكة العلميةَ ويصيرَ بدوره يمتلك طريقة تشبيه المسائل بعضها ببعض.
2.2 التعبيرات التي استعملها سيبويه في الدلالة على المشابهة
حينما تكلم سيبويه عن المشابهة استعمل ألفاظا مختلفة تدل في مجملها على فكرة التشابه بين الأفكار والأبواب النحوية، منها لفظ الشبه، والمثل، والنحو، وكاف التشبيه، ولفظ المنزلة، وغيرها مما لا يمكن إحصاؤه في هذا البحث ولكن نكتفي بالتمثيل لبعض تلك الصيغ.
استخدام لفظ المنزلة
يستخدم سيبويه لفظ المنزلة كثيرا في الكتاب ولم تكد تخلو منه صفحة من صفحاته، للدلالة على المشابهة بين شيئين، فهو يقول: "وإن قلت: رَأَيتُ فأردت رؤية العين، ووَجَدْتُ فأردت وِجدَانَ الضّالة فهو بمنزلة ضَرَبْتُ".[4]
ويقول: " صُيِّرَ فعلُ المفعول والفاعل حيث انتهى فعلهما بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى فاعلَه ولا مفعولَه".[5]
" واعلم أن المفعول الذي لم يتعدَّ إليه فعلُ فاعلٍ في التعدّي والاقتصار بمنزلته إذا تعدّى إليه فعلُ الفاعلِ".[6]
ويقول في التقديم والتأخير في معمولي كان النكرتين:" والتقديم والتأخير في هذا بمنزلته في المعرفة، وما ذكرت لك من الفعل".[7]
استخدام كاف التشبيه
ويستخدم في الدلالة على المشابهة كاف التشبيه، يقول في المشابهة بين الفاعل والنائب عن الفاعل:" والفاعل والمفعول في هذا سواء، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل".[8]
ويقول في التقديم والتأخير بين مفعولات ظننت: " وإن شئت قلت: كَانَ أَخَاكَ عبدُ اللهِ، كما فعلت ذلك في: ضَرَبَ، لأنه فِعلٌ مثلُه، وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في: ضَرَبَ".[9]
ويقول في باب كان وأخواتها: "ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل كما لم يجز في: ظَنَنْتُ الاقتصار على المفعول الأول، لأن حالك في الاحتياج إلى الآخر ههنا كحالك في الاحتياج إليه ثَمّةَ".[10]
استخدام لفظ "النحو"
يقول في باب كان وأخواتها: " وذلك قولك: كانَ ويكونُ، وصارَ ومَا دامَ، وليسَ، وما كان نحوهن، من الفعل مما لا يستغني عن الخبر".[11]
هذه بعض الأمثلة المحصورة التي تبين تعدد مصطلحات المشابهة عند سيبويه، ولكنها تؤدي الغرض نفسه، وهو إظهار التناسق في الكلام العربي من خلال إيجاد ما يربط بينها من أوجه أو تختلف فيه.
- تطبيقات التشابه في الخصائص
1.3 المشابهة في الإسناد وتوابعه
المشابهة بين المبتدأ والفاعل
يعقد في باب المسند والمسند إليه مشابهة بين الفاعل والمبتدأ في فكرة الإسناد، والاحتياج إلى ما بعده في تمام معناه، وذلك لأن المبتدأ يفتقر إلى الخبر، وكذلك الفاعل يفتقر إلى الفعل في تمام معناه، يقول: "هذا باب المسند والمسند إليه، وهما ما لا يستغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًّا، فمن ذلك: الاسمُ المبتدأ والمبنيُّ عليهِ، وهو قولك: عبدُ اللهِ أخُوكَ، وهَذَا أَخُوكَ.
ومثل ذلك: يَذْهَبُ عَبْدُ اللهِ، فلا بدَّ للفعلِ من الاسمِ، كما لم يكنْ للاسمِ الأوّلِ بدٌّ منَ الآخرِ في الابتداءِ"[12]. فهو يقرن بين المتماثلين ما أمكنه ذلك، خاصة إذا كان المفهوم الذي يتفقان فيه جوهريا مثل مفهوم الإسناد.
ويتعدى التشابه في فكرة الإسناد المبتدأ والفاعل، ليشمل ما زيِدَ على جملتَيهِمَا من نواسخَ أو مفاعيلَ، فلا يتكلم سيبويه في باب إلا ويربطه بما بعده، وكذلك يربط أجزاء الباب الواحد فيما بينها، وكيف لا يكون ذلك وهم لا يضعون الباب من العلم إلا بعدما يرون ما بين أفراده التي تكوِّنُه من تشابهٍ، وهذا مكّنَهم من وضع الأبواب النحوية على الوجه الذي يلاحظ فيه ما بينها من مضارعة في بعض الخصائص أو في كثير منها.
ومن ذلك ربطه بين المبتدأ والخبر وبين ما يدخل عليه من نواسخ في فكرة الإسناد فيقول: "وممّا يكون بمنزلةِ الابتداءِ قولكَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ مُنْطَلِقًا، وَلَيْتَ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، لأن هذا يحتاج إلى ما بعده كاحتياجِ المبتدأ إلى ما بعده"[13]. ففكرة الإسناد لها حضورها في ما زاد على المبتدأ والخبر، وكذا فيما زاد على الفعل والفاعل.
المشابهة بين الفاعل والمفعول
يعقد سيبويهِ مشابهةً بين المفعولِ بهِ وبينَ الفاعلِ، وذلكَ متى كانَ المفعول به مَرفوعا، ويُرفَع المفعولُ بهِ حينما يحذف الفاعلُ الحقيقيُّ، ويبقى الفعلُ متفرّغًا للمفعولِ ولا فاعلَ لهُ، فحينئذٍ يكونُ المفعولُ مرفوعًا في الّلفظِ، مفعولاً في المعنَى، فهو من جهة اللّفظ يضارع الفاعل في الحركة التي هي الرفعُ، وفي ذلك يقول سيبويه: "والفاعلُ والمفعولُ في هذا سواءٌ[14]، يرتفعُ المفعوُل كما يرتفعُ الفاعلُ لأنّك لم تشغل الفعلَ بغيرهِ، وفرّغتهُ لهُ، كما فعلتَ ذلكَ بالفاعلِ. فأمّا الفاعلُ الذي لا يتعدّاهُ فعله فقولك: ذَهَبَ زَيدٌ وَجَلَسَ عَمْرٌو. والمفعول الذي لمْ يتعدَّهُ فعلُه ولمْ يتعدَّ إليهِ فعلُ فاعلٍ فقولك: ضُرِبَ زَيْدٌ ويُضْرَبُ عَمْرٌو".[15]
ولو تتبعنا المسألة لوجدناها تتشابه مع الفعل المتعدي إلى مفعولين، مثل قولك: "كُسِيَ عَبْدُ اللهِ الثَّوْبَ، وأُعْطِيَ عَبْدُ اللهِ الْمَالَ، رفعتَ عبدَ اللهِ ههنَا كما رفعتَه في ضَرَبَ، حين قلت: ضَرَبَ عَبْدُ اللهِ، وشغَلتَ به كُسِيَ وأُعْطِيَ كما شغلتَ به ضَرَبَ، وانتصب الثَّوْبُ والْمَالَ لأنّهمَا مفعولان تعدّى إليهِمَا فعلُ مفعولٍ هو بمنزلة الفَاعِلِ".[16]
التشابه في التقديم والتأخير
إن الأمر يمتد إلى المشابهة في العمل، ولو مع التقديم والتأخير لأن فكرة العمل واحدة في كلتا الجملتين
يقول: " فإنْ قدّمتَ المفعولَ وأخّرتَ الفاعلَ جرَى اللّفظ كمَا جرَى في الأوّلِ، وذلك قولك: ضَرَبَ زَيْدًا عبدُ اللهِ؛ لأنّك أردت به مؤخّرًا ما أردتَ به مقدّمًا، ولم تردْ أن تَشغلَ الفعلَ بأوّلَ منهُ، وإن كانَ مؤخّرًا في اللّفظِ، فمن ثـَمَّ كان حَدُّ[17] اللّفظِ أن يكونَ الفاعلُ مقدّمًا، وهو عربٌّي جيّدٌ كثيرٌ، كأنَّهُم إِنـّمَا يُقدّمُونَ الّذِي بَيانُهُ أَهَمُّ لهَمُ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعْنَى، وإنْ كَانَا جِميعًا يُهِمَّانـِهِمْ وَيَعْنِيَانِهمْ".[18]
ويستمر التشابه في التقديم والتأخير مع الفعل والفاعل والمفعول، إذا تعدّى الفعل إلى أكثر من مفعول واحد، فإنه يأخذ الحكم نفسه " وإن شئتَ قدّمتَ وأخرتَ فقلتَ: كُسِيَ الثّوْبَ زَيْدٌ، وأُعطِيَ المالَ عَبْدُ الله، كما قلت: ضَرَبَ زَيْداً عبدُ الله، فأمرهُ في هذا كأمْرِ الفاعل". فهو يشابه بين الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول، وبين المفعول المقدّم والمؤخّر.
ويقول في التشابه في التقديم والتأخير بين الفعل الناسخ والفعل التّام: " وإن شئت قلت: كَانَ أَخَاكَ عَبْدُ اللهِ، فقدّمتَ وأخّرتَ، كما فعلتَ ذلك َفي (ضَرَبَ)، لأنّه فعلٌ مثلُه، وحالُ التّقديم والتّأخير فيه كحاله في (ضَرَبَ)، إلا أنّ اسمَ الفاعل والمفعول[19] فيه لشيء واحد".[20]
وتستمر المشابهة في الخصائص التي يأخذها الفعل الناسخ من الفعل التام فنجده يستعمل أحيانا المشابهة بين كان التامة والفعل التام حينما يأتي مكتفيا بفاعله كاكتفاء الفعل التام بفاعله، وذلك قولك: " قَدْ كَانَ عَبْدُ الله، أيَ: قَدْ خُلِقَ عَبْدُ اللهِ، وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ، أيْ: قَدْ وَقَعَ الأَمْرُ، وقَدْ دَامَ فُلاَنٌ أيْ قَدْ ثَبَتَ، كما تقولُ: رَأَيْتُ فتريدُ رؤْيةَ العَينِ، وكما تقولُ: أَنَا وَجَدتُّهُ تريدُ: وِجدَانَ الضّالةِ، وكما تكونُ أَمْسَى وأَصْبَحَ مرّةً بمنزلةِ كانَ ومرّةً بمنزلةِ استَيْقَظواْ ونَامُواْ".[21]
ويشابه بين حالة التقديم والتأخير مع دخول الناسخ على الجملة التي فيها معرفة ونكرة وهي جملة اسمية، في عدم التباس معناها وجواز التصرّف بالتقديم مثلما يجوز مع الفعل (ضَرَبَ)، يقولُ: " وهمَا في كانَ بمنزلتهمَا في الابتداءِ إذاَ قلتَ: عَبْدُ اللهِ مُنْطَلِقٌ، تَبتدئُ بالأعرفِ ثمّ تذكرُ الخبرَ، وذلك قولك: كَانَ زَيدٌ حَلِيمًا، وكَانَ حَلِيمًا زَيْدٌ، لاَ عليكَ أقدمتَ أم أخرتَ، إلاّ أنّهُ علىَ ماَ وصفتُ لكَ في قولك: ضَرَبَ زَيدًا عَبْدُ الله".[22]
التّشابه في اللّزومِ
يذكر سيبويه في فكرة لزوم الفعل، أنّ الفعلَ المتعدّي الذي يستوفي ما يتعدى إليه يصير له كافة أحكام الفعل اللّازم، لأن الفعل المتعدي إذا استوفى ما تعدّى إليه فكأنّه صار لازمًا، بحكم أنّه لا يستطيع أن يعمل بعد ذلك في مفعول، وهو بسبب هذا الامتناع من مجاوزة التعدي يكون مشابها للفعل اللازم.
يقول: " واعلم أنّ هذه الأفعالَ إذا انتهت إلى ما ذكرتُ لكَ من المفعولِينَ، فلم يكنْ بعد ذلكَ مُتَعدَّى، تعدّتْ إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعلُ الذي لا يتعدّى الفاعلَ...".[23] ولو رسمنا الأمثلة لكانت كالتالي:
فمثلما اكتفى الفعل اللازم بفاعله ولم يستطع التعدي إلى مفعول أصلا، كان الفعل المتعدي مشابها له من جهة عدم استطاعة تعديته فوق ما يحتاجه من مفاعيل.
ويتبع هذا الشبه شبه الأفعال المبنية للمفعول، فلها نفس الحكم من جهة التعدية واللزوم كالذي يأخذه الفعل المبني للمجهول، فمثلما تقول: ضُرِبَ زيدٌ ضربًا، فإنك تقول أيضا: كُسِيَ عبدُ اللهِ الثوبَ كَسْوًا، وأُعْطِيَ عَبدُ اللهِ المالَ إعطاءً.
ومثل ذلك الفعل المتعدي إلى ثلاثة مفعولين إذا كان مبنيا إلى المجهول، فإنه يشابه الفعل المتعدّيَ إلى ثلاثة مفعولين وهو مبني للمعلوم إذا قلت: "نُبِّئْتُ زَيْدًا أَبَا فُلاَنٍ تَنْبِيئًا".[24]
2.3 الجمعُ بينَ المتشابهاتِ في اللّفظ
تشابهُ ألقابِ الإعرابِ والبناءِ
يحاول سيبويهِ التقريبَ بين ألفاظ الإعراب والبناء، مع ذكر سبب التفريق بينهما، وعدم جعلهما شيئا واحدا رغم ما بينهما من تشابه، لأن الذي يفرق بينهما لا يزال قائما في حقهما، فالإعراب والحركة فيه جَلَبَهَا العَاملُ، وهو الذي يغيّرها إذا تغير، والحركةُ في البناءِ ثابتة لأنّ العامل لا يؤثّر فيها، وليس هو الذي جلَبَهَا. فالإعراب له ألقاب وهي: الرّفع والنّصب والجر والجزم، والبناء له ألقاب وهي: الفتح والضمّ والكسر والوقف، ولكنها تجتمع وتتشابه في اللفظ فتصير أربعة، "لأنّ النّصب والفتح في اللفظ ضربٌ واحد، والكسر والجر فيه لفظٌ واحد، وكذلك الرّفع والضّم، والجزم والوقف"[25].
فهنا نجد المشابهة في اللّفظ، والمفارقَةَ في السّبب المـُحدِثِ لَه، ففي حين نجد ألقاب الإعراب تحدث بسبب العامل الذي يسبقها، ويؤثر فيها، فإن ألقاب البناء حدثت لا بسبب العامل، ولذلك فهي ثابتة ولا تتغير وإن تغير العامل الداخل عليها. فمن هذه الجهة فُرّقَ بينهما في الألقابِ إلى ثمانيةٍ دون الاكتفاء بالأربعة فحسب.
تشابه حركات الإعراب في الفعل والاسم
وإذا نظرنا إلى حركات الإعراب في الفعل المضارع الذي اتصلت به ألف اثنين أو واو جماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة، فنجده ينصب ويجزم بحذف النون، وتكون هناك موافقة بين الإعرابين، فنقول: (لم يفعلا، ولن يفعلا، ولم يفعلوا ولن يفعلوا، ولم تفعلي ولن تفعلي)، كل ذلك بحذف النون.
كذلك الاسم إذا كان مثنى أو مجموعا جمع مذكر سالما، فإننا نجد بينه وبين الفعل المضارع المسند إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة شبهًا في الإعراب، وذلك أن حركة النصب والجر في الأسماء هي الياء والنون، في التثنية وجمع المذكر، وهي الكسرة في جمع المؤنث السالم، فنقول:(رأيتُ المسْلمَينِ وَالمسْلِمِينَ والمسْلِمَاتِ، ومَرَرْتُ بالْمُسْلِمَيْنِ والمسْلِمِينَ والمسْلِمَاتِ). كلّ ذلك بعلامة واحدة في النصب والجر. "فوافق النصب الجزم في الحذف، كما وافق النصب الجر في الأسماء؛ لأنّ الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء".[26]
المشابهة بين حركة نونات التثنية والجمع
نجد سيبويه يعقد شبها بين نونات التثنية والجمع في الفعل المضارع والاسم[27]، ففي قولنا: المسلمَيْنِ والمسْلمَانِ، ويَفْعَلانِ وتَفْعَلَاِن، نجد شبها بين النونين في أنّ كليهمَا مكسورٌ، لأنهما يدلان على المثنى في الاسم والفعل، وكذلك كلمة (يَفْعَلُونَ وتفْعَلُونَ، والمسْلِمُونَ والمسْلِمِينَ)، نجد النون مفتوحة، لأنها في كليهما للدلالة على الجمع، وينطبق الأمر على نون جماعة النسوة في (يَفْعَلْنَ وتفْعَلْنَ وفَعَلْنَ)، فكلها نونات مفتوحة لأنها نونات جمع، مثلها في جمع المذكر أو جمع المؤنث، مثلها في الفعل والاسم.
أما بالنسبة لنون (تفعلين) فإنه يعقد بينها وبين نون (مسلمين) في كون كليهما مفتوحة، مشابهة في اشتراكهما في حركة ما قبلهما، لأن ما قبل نون (مُسْلِمِينَ) هو نفسه بمجموع الحركات والسكنات الذي قبل نون (تفْعَلِينَ)، وهو كسر ما قبلها.
3.3 الجمع بين المتشابهات في الأوليّة
يعقد سيبويه شبها ومضارعة في الأولية والأصْل، حينما يتحدث عن الاسم المتمكّن والاسم غير المتمكّن، فكلّ ما خرج عن الأصل فهو أثقلُ، وكلّ ما كان على الأصل فهو أخفُّ، ويلزم من الخروج عن الأصل ما لا يلزم مع البقاء على الأصل، يقول: " فالمبتدأ أولُ كما كان الواحد أولَ العددِ، والنكرةُ قبلَ المعرِفةِ"[28].
ويقول: " واعلم أن الاسم أولُ أحواله الابتداءُ، وإنما يدخلُ الناصبُ والرافعُ سوى الابتداءِ والجارُّ على المبتدأ، ألا ترى أن ما كان مبتدأ قد تدخل عليه هذه الأشياء حتى يكون غيرَ مبتدأ، ولا تصل إلى الابتداء ما دام مع ما ذكرت لك إلا أن تَدَعَهُ..."[29].
ويقول قبل ذلك: " واعلم أن النّكرة أخفُّ عليهم من المعرفة، وهي أشدُّ تمكّنًا، لأن النّكرة أوّلُ، ثم يدخل عليها ما تُعرفُ بهِ، فمن ثَمَّ أكثر الكلام ينصرفُ في النكرة".[30] وهنا نجد كلام سيبويهِ يفسّرُ بعضُهُ بعضًا، لأنّه يربط بين الأصل والخفة، وبين الأوّليّة والخفّة، فما كان أولاً فهو الأخفّ، وما كان أصلا فهو كذلك أخفُّ، وما كان أصلا هو المنصرفُ، وما كان ثانيا وفرعا هو الذي يعتريه منع الصرفِ لما في ذلك من الثّقل إذا بقي منصرفا[31].
ويقول: " واعلم أن الواحد أشدّ تمكّنًا من الجمع، لأنّ الواحد أوّل، ومن ثـَمَّ لم يصرفُوا من الجمع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد نحو: مَسَاجِدَ ومفَاتِيحَ".[32]
فهو يبين أن ما خالف الإفراد أثقل في اللسان العربي من المفرد لأن المفرد هو الأصل، والأصل هو الأخف، وما خرج عن الأصل فهو أثقل، ولذلك يكون أقرب إلى المنع من الصرف لما في ذلك من زيادة ثقل تعتريه.
ويقول: " واعلمْ أن المذكّر أخفُّ عليهم من المؤنّث، لأن المذكّر أوّل، وهو أشدّ تمكّنًا، وإنما يخرج التأنيثُ من التّذكيرِ، ألا ترى أنَّ (الشيءَ) يقعُ على كلّ ما أُخْبِرَ عنهُ، من قَبْلِ أنْ يُعْلَمَ أَذَكَرٌ هُوَ أوْ أُنْثَى، و(الشيءُ) ذَكَرٌ".[33]
فههنا نجد سيبويه يجمع بين هذه الأشياء من جهة الخفة والثقل، ومن جهة الأصل والفرع، ومن جهة الأولية والسبق، لأنها تجتمع في هذه الميزات وهي ملحوظة في جميع اللسان العربي، وكان من حسن التعليم الإشارة إلى هذه الخصائص في مقدمة الكتاب حتى يكون قارئ الكتاب على بيّنةٍ من أمره فيما يلي المقدمة من أبواب الكلام العربي، وحتى يمكّنَ المؤلفُ نفَسهُ من الإحالة عليها إذا ما احتاج إلى التذكير بها فيما يلي من أبواب صلب الكتاب.
4.3 المشابهةُ بين الأفعال
المشابهةُ بينَ الناسخ وغير الناسخ
يذكر في باب الأفعال الناسخة الناصبة حينما تُسْتَعْمَلُ وتُلْغَى، وهي ظَنَنْتُ وأخوَاتُها، أنّها: " إذا جاءت مُستعملةً فهي بمنزلة رَأَيْتُ، وضَرَبْتُ، وأَعْطَيْتُ، في الإعمالِ، والبناءِ على الأولِ، في الخبرِ والاستفهامِ وفي كلِ شيءٍ".[34]
وتقول في الإعمال فيهما: " أظنُّ عمْرًا مُنْطَلِقًا وبَكْرًا أَظُنُّهُ خَارِجًا، كما قلت: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا كَلَّمْتُهُ، وإن شئت رفعتَ على الرفع في هَذَا"[35].
فهو هنا يجعل الإعمال بين الفعل الناسخ وسائر الأفعال لهما الحكم نفسه، خاصة إذا تقدم الناسخ أو الفعل، فهما واجبا الإعمال إذا تقدما[36]، ويجوز في الناسخ الإعمال والإهمال كما يجوز في سائر الأفعال.
ومن باب المشابهة أيضا ما يعقده بين (تقولُ) و(تظنُّ) في الاستفهام خصوصا، من شبهٍ جزئيٍ، ولم يجعلوها مثل: يظُنّ وأظنّ، في الاستفهام، لأنه لا يكاد يُستفهَمُ المخاطَبُ عن ظنّ غيره، ولا يستفهم هو إلا عن ظنه، فإنما جعلت كـ(تَظُنُّ)، كما أن (مَا) كـ(لَيْسَ) في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها، فإذا تغيرت عن ذلك، أو قُدّمَ الخبرُ رجعتْ إلى القياسِ، وصارتْ اللغات فيهَا كلغةِ تميمٍ، ولم تجعلْ قلتُ كـ (ظننتُ) لأنها إنما أصلها عندهم أن يكون ما بعدها محكيا، فلم تدخل في باب (ظننت) بأكثر من هذا، كما أن (ما) لم تقو قوة (لَيْسَ) ولم تقع في كل مواضعهَا، لأن أصلهَا عندهم أن يكون ما بعدها مبتدأً ...وذلك قولك: (مَتَى تَقُولُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا)، و(أَتَقُولُ عَمْرًا ذَاهِبًا)، و(أَكُلَّ يَومٍ تَقُولُ عَمْرًا مُنْطَلِقًا)...فإن قلت:(أَـ أَنْتَ ـ تَقُولُ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ)، رَفَعتَ، لأنّه فُصِلَ بينهُ وبين حرفِ الاستفهامِ...فصارت بمنزلة أخواتها وصارت على الأصل".[37]
إن هذا النص على طوله يرسي قاعدة كبيرة في التشابه بين الأشياء في العربية، ويبين أن التشابه لا يلغي الحدود الفاصلة بين الأبواب، ولكنه مسوّر بسور الأخذ من خصائص المشابه في حالات معينة، ثم إذا لم تتوفر شروط الشبه فإن المسائل ترجع إلى أصولها الأولى التي وضعت عليها في بداية الأمر. وهذا يحيلنا إلى عدم إطلاق القول بالتشابه بين لفظتين أو تركيبين إلا عندما ندرك مع التشابه الاختلاَفَ والتّمَيُّزَ، وندركُ أسبابَ التشابه وأسبابَ الاختلاف، حينها نكتسب تلك الملكة اللغوية القادرة على التفريق بأسباب موضوعية واضحة، والجمع لأسباب كذلك ظاهرة بين طرفي المشابهة.
مشابهةُ الناسخ بالناسخ
يعقد سيبويه المشابهة في باب النسخ بين الأفعال الناسخة سواء كانت رافعة وناصبة، أو كانت ناصبة فقط، فنجده يجعل (حَسِبَ) مثلَ (كَانَ)، والسّبب: أنّهما يدخلان على جملة واحدة، وهي التي تكونت من مبتدأ وخبره المبنيِّ عليه، فهما مستويان في عدم إمكان الاستغناء عن أحد الطرفين في الجملة، فلا يستغنيان عما كان مبتدأ ولا عما كان خبرا، لأنه لا يمكن الاقتصار على الاسم الذي بعدهما كما لا يمكن الاقتصار عليه لما كان مبتدأ.
يقول في باب كان وأخواتها: " ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل[38]، كما لم يجز في (ظَننْتُ) الاقتصار على المفعول الأول؛ لأن حالك في الاحتياج إلى الآخر ههنا كحالك في الاحتياج إليه ثـَمَّةَ".[39]
ويقول في شرح الحالة النفسية وأنها متشابهة في الإخبار عن المبتدأ بالخبر في باب النواسخ كان وأخواتها وظنّ وأخواتها: " تقول: كَانَ عَبْدُ اللهِ أَخَاكَ، فإنّمَا أردت أن تخبر عن الأخوّةِ، وأدخلت (كَانَ) لتجعل ذلك فيما مضى، وذكرت الأول كما ذكرت المفعول الأول في (ظنَنْتُ)".[40]
إننا نجد جمعا بين الأصل وفروعه، وبين الفروع المنبثقة عن هذا الأصل الواحد، فما ينطبق على المبتدأ والخبر من الحالات النفسية وهما مجردان ينطبق عليهما وهما مقترنان بالنواسخ على اختلاف عملهما، لأن الناسخ لم يأت بمعنى جديد، وإنما المعنى كامن في المبتدأ والخبر قبل دخول الناسخ عليهما، فوظيفة الناسخ لا تتعدى كونه يحدد وقتا لحصول المعنى بين المبتدأ والخبر وهذا ما نجده في (كان وأخواتها)، أو يفيد شكا أو يقينا في حصول هذا المعنى وهذا عمل (ظنّ وأخواتها).
مشابهةُ الضمير للضمير
يذكر سيبويه الضمائر ويحاول جعلها في نسق واحد في لغة العرب، فيبرهن أن الأحكام التي تتعلق بضمائر التكلم تنسحب في تعلقها بضمائر الغيبة والخطاب، فما جاز في قسم منها فإنه يجوز في القسمين الآخرين إذا اتحدت العلّة، فقاعدة عدم فصل الضمير ما وجد السبيل إلى الوصل تنطبق على أنواع الضمائر الثلاثة، ويبرهن سيبويه على ذلك بالأمثلة من كلام العرب الفصحاء، إلى أن يقول: " واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيتُ فيهَا إِيّاَكَ، ورأيتُ اليَوْمَ إيّاهُ، من قِبَلِ أّنك قد تجد الإضمار الذي هو سوى (إيّا)، وهو (الكاف)، التي في: (رأيتك فيها)، و(الهاء) التي في: (رأيته اليوم)، فلمّا قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل، ولم ينقض معنىَ مَا أرادوا لو تكَلموا بـ(إيّاك)، استغنوا بهذا عن (إيّاك) و(إيّاه)"[41].
ومن سنة العرب في كلامها أن تستغني باللفظ عن لفظ آخر يكون متبادرا إلى الذهن، [42]ولكن العرب تختار في كلامها طريقا مغايرا، فنجدها تستغني في باب المفردات كما تستغني في باب التراكيب، فـ"لا يجوز أن تقول: (ضَرَبتُنِي)، ولا (ضَربتُ إيَّايَ)، لا يجوز واحد منهما، لأنهم قد استغنوا عن ذلك بـ (ضَرَبْتُ نَفْسِي)، و(إيَّايَ ضَرَبْتُ)".[43]
ومن المشابهة في هذا الباب أيضا الاستغناء بشيء عن شيء، فقد استعملت العرب هذه السنة في المفردات مثل استعمالها في التراكيب، مثل استغنائهم عن ماضي الفعل (يَذَرُ ويَدَعُ) بماضي الفعل (يَتْرُكُ).
فنجد سيبويه ينبه على هذه الميزة في الكلام متى وجد العرب استعملتها، ويشابه بين الاستغناء في المفردات والاستغناء في التراكيب النحوية.
فيقول: " واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيتُ فيها إيّاك، ورأيت اليوم إيّاهُ، من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوى (إيّا)، وهو الكاف، التي في: (رأيتك فيها) والهاء التي في (رأيته اليوم)، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو تكلموا بـ(إياك)، استغنوا بهذا عن (إياك وإياه)، ولو جاز هذا لجاز: (ضرب زيد إياك)، و(إن فيها إياك)، ولكنهم لما وجدوا: (إنك فيها، وضربه زيد)، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: (إن فيها إياك، وضرب زيد إياك)، استغنوا به عن (إيَّا)".[44]
فالمشابهة هنا صالحة في أن ضمير الغائب وضمير المخاطب من باب واحد في أنه لا يترك المتصل في واحد منهما ويلجأ إلى استعمال المنفصل بدله، إلا إذا منع من ذلك مانع قوي.
- المشابهة في أبواب الصرف
يمكننا أن نجد بسهولة وفي أي باب من أبواب الصرف العمل بفكرة التشابه بين الأبواب الصرفية وشرح بعضها ببعض، وإلحاق بعضها ببعض في خصائصها.
ففي مشابهة التصغير لباب التكسير يقول: " واعلمْ أن تصغيرَ ما كان على أربعة أحرفٍ، إنما يجيء على حال مُكَسَّرهِ للجمع في التحرّك والسكون، ويكون ثالثه حرف اللين كما أنك إذا كسرته للجمع كان ثالثه حرف اللين، إلا أن ثالث الجمع ألفٌ وثالث التصغير ياءٌ، وأول التصغير مضمومٌ وأول الجمع مفتوحٌ".[45]
فهو يستنتج أن التكسير والتصغير من باب واحد في أهم الخصائص وإن اختلفا في بعض الجزئيات، وأن الخطأ في أحدهما يصححه الصواب في الآخر، فمهما جهلنا أحدهما فإننا نقيس على الآخر فنصححه، ويقول معلّلا هذا التشابه:" وإنّما حملهم على هذا أنّهم لا يحقّرون ما جاوز ثلاثة أحرف إلا على زنته وحاله لو كسروه للجمع، إلا أن نظير حرف اللين الثالث الذي في الجمع الياء في التصغير، وأول التصغير مضموم وأول الجمع مفتوح ...فالتصغير والجمع من باب واحد".[46]
ويقول: " وأما أسطوانة فتحقيرها أُسَيْطِينَةٌ؛ لقولهم: أَسَاطِينُ كما قلت: سَرَيْحِينٌ، حيث قالوا: سَرَاحِينُ. فلما كسّروا هذا الاسم بحذف الزيادة وثبات النون حقرْتَهُ عليهِ".[47]
ويقول في تحقير ما حدث فيه إعلال بالبدل أو القلب حينما يردّ إلى أصله في التصغير لأنه يرد في التكسير إلى أصله: " فمن ذلك: مِيزَانٌ ومِيقَاتٌ ومِيعَادٌ، تقول: مُوَيْزِينٌ، ومُوَيْعِيدٌ ومُوَيْقِيتٌ، وإنما أبدلوا الياء لاستثقالهم هذه الواو بعد الكسرة، فلما ذهب ما يستثقلون رُدَّ الحرفُ إلى أصله، وكذلك فعلوا حين كسروها للجمع، قالوا: مَوَازينُ، ومَوَاعيدُ، ومَوَاقيتُ".[48]
وإذا كانت الكلمة واوية العين أو يائيتها، ومنقلبة ألفا، فإن تصغيرها كذلك يأخذ شبه تكسيرها، وترد العين إلى أصلها الذي انقلبت عنه، ففي تصغير (بَابٍ) تقول (بُوَيْبٌ)، كما تقول (أَبْوَابٌ)، وتصغير (نَابٍ) (نُيَيْبٌ) كما قلت: (أَنْيَابٌ) و(أَنْيُبٌ).[49]
ومن المشابهة أيضا ما ذكره في باب الممدود والمقصور[50]، وهو ما كانت آخره ألفاً مبدلة من واو أو ياء، وقبلها حرف مفتوح، فلا يدخله رفع ولا نصب ولا جر، " لأن نظائرها من غير المعتل إنما تقع أواخرهن بعد حرف مفتوح، وذلك نحو معطى، ومشترى، وأشباه ذلك؛ لأن مُعْطَى (مُفْعَلٌ)، وهو مثل (مُخْرَجٌ)، فالياء بمنزلة الجيم، والراء بمنزلة الطاء، فنظائر ذا تدلك على أنه منقوص، وكذلك مُشْتَرَى، إنما هو (مُفْتَعَلٌ)، وهو مثل: مُعْتَرَكٍ، فالراء بمنزلة الراء، والياء بمنزلة الكاف، ومثل هذا مَغْزَى ومَلْهَى، إنما هما (مَفْعَلٌ)، وإنما هما بمنزلة مـَخْرَجٍ، فإنما هي واو وقعت بعد مفتوح كما أن الجيم وقعت بعد مفتوح، وهما لامان، وأنت تستدل بذا على نقصانه".[51]
فهذه من أجلى صور التشابه بحيث وصل الشبه إلى حد التقابل بين حرف من المعتل وحرف من الصحيح، وبين حركة من المعتل والتي هي الفتحة قبل لام الكلمة، والحركة من الصحيح التي هي الفتحة أيضا قبل آخر الكلمة، وكذا امتد الشبه إلى الشبه في الوزن، ونلاحظ هنا أهمية التجريد في الوزن عند عقد وجوه الشبه المراد استخراجها، وكيف تكون بهذا التجريد القواعد صالحة لأن تطرد بين ما يكون في ظاهر الأمر مختلفا، ولكنه في الحقيقة يتفق مع غيره في أغلب الأوجه.
فسيبويه لا ينظر في أوجه الشبه لتمام المطابقة، ولكن يستعمل المشابهة في بعض أشكالها الأساسية دون النظر في الجزئيات والتفاصيل التي لا يؤثر الخلاف فيها على جوهر الاتفاق في الخصائص.
- من خصائص فكرة التشابه:
إن التشابه في الخصائص يغني عن تكرار الكلام في الأبواب المتشابهة، والاكتفاء بالتذكير بوجه الشبه، ثم إحالة تفصيل الأمثلة والأوجه على السابق أو اللاحق، كما كان ذلك في التشابه بين وصف المعرفة والنكرة.
كما أن الحديث عن التشابه في الخصائص مرتبط بفقه التعليل ومعرفة نقاط الاشتراك والاختلاف، والعلة الجامعة أو المفرقة بين بابين أو أكثر من أبواب النحو.
ولا يمكن حصر أوجه التشابه بين شيئين إلا بدراسة مستفيضة لكل واحد منهما على حدته، ثم الجمع بينهما فيما يتفقان فيه، والتفريق بينهما فيما يفترقان فيه، والبحث عن علل ذلك وأسبابه.
البحث في أوجه التشابه يؤدي إلى اكتشاف الدستور الجامع بين المختلفات، مثلما يقول عبد القاهر: "واعلم أن معك دستورا لك فيه إن تأملت، غنى عن كل سواه، وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى في الخبر. وذاك أن الاستفهام استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك".[52]
فاكتشاف القواعد والمفاهيم الكلية وما يتفرع عنها من جزئيات نحتاج فيه إلى مثل تلك المقارنات بين الأبواب، وهي تدل على ثراء هذا النوع من البحث في تعريفنا بخصائص الكلام العربي.
والتشابه في الخصائص يساعد الدارس على اكتشاف الروابط الظاهرة بين مواضيع دراسة الكلام العربي، وكذلك يساعد في كشف الروابط والعلاقات في وجهها الصحيح، وهذا ما جعل سيبويه يرتب كتابه الترتيب الذي جاء عليه، ثم خالفه النحاة المتأخرون حين اختصروا الأبواب النحوية، فحذفوا منها أفضل ما فيها وهو الروابط بين الأبواب وتركوها مضمرة ولم يفصحوا عنها إلا في القليل النادر.[53] وقد أشار ابن خلدون إلى أن اختصار العلوم والاقتصار فيها على المهمات لا يسلم من ترك بعض الخلل لمن يريد أن يكتفي بالمختصرات في العلوم.[54]
ويلاحظ أن سيبويه يربط أوجه الشبه في عناوينه بين الأبواب التي تجمعها خصائص مشتركة، فيُعَنْوِنَ لها بِعُنوانٍ كبيرٍ مجملٍ، ثم يفصّلُ العنوانَ في أبواب ويشرحها بالطريقة التي تبين ترابطها على ما ذكره في عنوان الباب المجمل، وهذا قد فعله فيما سمي بباب الفاعل، وهو في الحقيقة أوسع بكثير من باب الفاعل، ولكن الاغترار بأول كلمة في عنوان الباب، هو الذي قد يؤدي إلى اعتبار هذه التسمية، أما عن السيرافي شارح الكتاب فقد أدرك المعنى الصحيح لذلك، فقال:" اعلم أن هذا الباب مشتمل على تراجم أبواب تجيء مفصلة بعده بابا بابا...".[55]
إن البحث عن التشابه فيه زيادة في قوة التفكير العلمي، لأن من يُلزمُ نفسه إيجاد شبه في المسائل العلمية والبحث عن روابط بينها وبيان درجة تلك الروابط، ليس كمن يترك عقله غُفلاً عن هذا الجانب من البحث، لأن فتح باب التأمل والتفكر في المسائل العلمية من هذا الجانب، يسير بطالب العلم إلى مراحل متقدمة، في اكتشاف النظام الخفيّ الذي يحكم صرحَ أيِّ علم من العلوم، ويدرك الروابط الكامنة بين مسائله.
والبحث في التشابه في الخصائص متعلق بالبحث في العلل والأحكام النحوية المبنية عليها، وأنه من السبل الموصلة إلى أصح العلل وأقواها، وأشدها تأثيرا في الحكم، مما يفضي إلى فهم الشبيه.
كما يفتح لنا البحثُ في التشابه الباب على مصراعيه للنظر عن قرب فيما يسمى بأسرار العربية، وكيف يتم بناؤها، وتصنيفها، وتعليلها، وما هي الطبقات التي تكونها، من الحسن، إلى الاستقامة، إلى القبح، وصولا إلى اللحن الذي يخرجنا عن حدّ اللغة، فإذا تكونت الملكة في التشابهات عرف بهذه الملكة ما يكون قريبا من روح اللغة وما يكون بعيدا عنها، ولو لم يسمع من الكلام العربي ما يبرهن له على ذلك.
خـلاصة المحور الأول
في الختام لا يسعنا إلا أن نقف وقفة إكبار أمام اختراع هذه الآليات المبتكرة في تعليم اللغة العربية، وتقديمها مقرونة بأهم خصائصها المشتركة الجامعة والمفرّقة، فإنه لم يخل تعليم العربية من وجه مشابهة بين الأبواب النحوية الظاهر منها والخفي، وكأننا بالملكة النحوية في ذاك الوقت المبكّر كانت لا ترى البحث النحوي مكتمل الجوانب إلا بعد الوصول إلى عقد مثل تلك المقارنات. وكأن المناظرات النحوية والمجالس العلمية لا تعقد إلا لطرح التساؤلات واختبار قوة اكتشافها لدى السائل والمجيب، حينها تظهر براعته في الفكر النحوي، وفي فقه الكلام العربي. ويعنينا أيضا ما تحمله من قوة الحجة في صدد إثبات وجودها أو إنكار أن توجد، لأنه لا يصلح القول بالتشابه ما لم تتوفر له أركان المشابهة، وبيان مقدارها، وبيان أوجه الاختلاف فيها.
ولذلك فالكتاب لسيبويه يعتبر ميراثا للصورة العلمية التي كانت سائدة في تعليم علم العربية في أبهى عصورها، ويمكننا أن نجرب تطبيق هذه الآلية في قاعات التدريس في المدارس والجامعات ونرى ما مدى تأثيرها في إدراك المسائل النحوية والصرفية، ونستعمل في كل مستوى القدر اللائق به، حتى إذا وصلنا إلى الدراسات الجامعية العليا جعلنا منها مجالس متخصصة للعصف الذهني لاكتشاف أوجه الشبه والافتراق بين مسألتين أو بابين، إلى أن تصير تقليدا علميا متطورا يلبي حاجيات الباحث في اكتساب القدرة على اكتشاف الحلول لما يعترضه من قضايا علمية وفكرية.