دوسوسير وميلاد اللسانيات

لقد حاول دوسوسير أن يحدث ضربا من القطيعة المعرفية والمنهجية في دراسة اللغة مع الممارسات اللغوية التي تقدمته، المنطبعة بالطابع التاريخي والمقارن في عمومها، ولمعرفة إضافات دو سوسير ينبغي الوقوف على أهم مفاصل الفكر اللساني عنده ومنبثقها الإجابة عن سؤال: ماهي اللسانيات؟ وما موضوعها؟ وما هي مهمتها؟

يرى دوسوسير أن اللسانيات علم كباقي العلوم، وهي جزء من علم أشمل هو السيميولوجيا الذي يدرس العلامات في إطار الحياة الاجتماعية، وهي تدرس اللغة بوصفها مادة وفق منهجية علمية أساسها الملاحظة والإخضاع للتجربة والاختبار. قال: "إن مادة اللسانيات تشمل كل مظاهر اللسان البشري سواء تعلق الأمر بالشعوب البدائية أو الحضارية"

أي إنه لا فرق بين لغة وأخرى أو بين لغة ولهجة.

وهي في ذلك تتصدى لمهمتين أساسيتين بعد مهمة تحديد نفسها هما:

  أ ـ إعداد وصف شامل لكافة اللغات الإنسانية مهما كانت منزلتها من سلم الحضارة، ويقتضي ذلك استحضار تاريخ اللغات والأسر اللغوية التي تنتمي إليها، والولوج من ثم إلى اللغة الأم.

  ب ـ استخلاص القوانين المؤثرة في لغة، المؤطرة لكل الظواهر التاريخية الخاصة.

ومن أهم المفاهيم التي اعتمدها دوسوسير في دراسة اللغة ووصفها ما يلي:

1 ـ اللغة، اللسان، الكلام: فاللغة برأيه "توجد في شكل مجموعة من البصمات المودعة في دماغ كل عنصر من أعضاء الجماعة على شكل معجم تقريبا، حيث تكون النسخ المتماثلة موزعة بين جميع الأفراد .. وهي لا تتأثر بإرادة المودعين"، أما اللسان فهو جملة القوانين الذهنية المجردة المتعالية التي تحكم استثمار ملكة اللغة وبعث الحياة في المعجم الاجتماعي الموزع على الأفراد. في حين أن الكلام يمثل الجانب الملموس في الظاهرة اللغوية، وهو ذو خاصية فردية، ويضم من منظوره خاضع للإرادة تمفصلها أفعالا فونولوجية، وتقف وراءها بواعث سيكولوجية، وهو من ثم غير معني بالدراسة اللسانية.

2 ـ الدراسة الآنية والزمانية: فالدراسة الآنية السنكرونية تعنى بدراسة لغة ما بمفردها في وضعية ما درساة وصفية خالصة، بهدف مراقبة سلوك اللغة في تلك الحالة القارة، ولا فرق بين اللغات الحية ونظيرتها الميتة، في الوقت الذي تتناول فيه الدراسة التعاقبية أو الزمانية أو الدياكرونية جملة ما يعتري اللغة من تغيرات في إطار الزمن ، ويدعو دو سوسير إلى عدم الخلط بين المنهجين في تناول اللغة لاختلاف المبادئ الخاصة التي ترتد إلى الجوانب المنهجية.

    وقد مثل دوسوسير للعلاقة بين المنهجين بلعبة الشطرنج، فتاريخ اللعبة كله، سواء كان داخليا أو خارجيا، لا يهم كثيرا ولا تغير في واقعها شيئا. بل المهم هو اللحظة الراهنة للممارسة ممثلة في الوضعيات التي تأخذها البيادق وعلاقتها ببعضها.

  3 ـ العلامة اللغوية: هي الوحدة الأساسية في بناء النظام اللغوي، وهي ذات بعذ تواصلي، وهي تربط بداخلها بين صورة سمعية ومتصور ذهني، وليس بين الاسم والشيء على خلاف التصور القديم، وتتسم بطابع الاعتباطية، وبجدلية الثبات والتغير، وفي هذا أثر للفكر اليوناني، فالثبات متصل بالوظيفة، أما التغير فبما يصيب العلاقة القائمة بين الدال والمدلول.

  4 ـ القيمة اللغوية: تعد القيمة من المفاهيم التي أضافها دوسوسير وترتبط لا بأبعادها الصوتية ، بل بما تمثله من وظيفة، وهي من ثم متغيرة، لكنها ثابتة عند تغييرها بغيرها، كالقطعة النقدية، والقيمة غير الدلالة، إذ الدلالة أو التسمية تربط تصورا واحدا بصورة سمعية واحدة، أما القيمة فتظهر في علاقتها ضمن كافة مفردات اللغة.

5 ـ العلاقات النظمية والاسبدالية: وهو تصور يسعى إلى الإحاطة بالنظام اللغوي، ففي الوقت الذي ينتقي الفرد الكلمة إنما يكون ذلك ضمن خيارات جدولية عامة وخيارات جدولية مدرجة، وكلما تقدم نظما تعقدت العلاقات في إطار الزمن، ليكون التركيب عبارة عن عملية تنازل متبادلة بين العلامات اللغوية.            

آخر تعديل: Friday، 16 April 2021، 11:35 PM