إن الناظر في تطور الدراسات اللغوية الغربية يمكن أن يقسمها إلى مشهدين كبيرين:

أ ـ ما قبل دوسوسير: وتميزت الجهود اللغوية فيها في عمومها بالنزعات الدينية أو الفلسفية كما هو الحال بالنسبة للهنود واليونان، أو النزعات التاريخية المقارنة كما هو الحال بالنسبة للدراسات الأوروبية خلال القرون الوسطى التي شهدت نشاط المقارنة بين لغات إنسانية لها حظوتها وحضورها على صعيد الإنتاج الفكري والأدبي مثل اللاتينية والعربية والعبرية، غير أن النزعة  المقارنة امتدت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر لتشمل ما تسنى الاطلاع عليه من لغات إنسانية في آسيا وإفريقيا، ولا شك أن ذلك كان مرتبطا بالحملات الاستعمارية وما يرتبط بها من أبعاد اقتصادية وثقافية. وقد شغلت فكرة القرابة بال الباحثين، فنظروا إلى أن الروابط التاريخية بين اللغات لا تعني سوى أن أحدى اللغات نتيجة تطور عن الأخرى أو أنهما تعودان إلى أصل لغوي مشترك ينبغي البحث عنه ومحاولة بنائه، ولا أدل على ذلك من فكرة الأسر اللغوية التي طرحها الباحث الألماني ماكس مولر (ت1900م)، فمن منطلق التشابه في بعض الأنظمة أو جلها قسم اللغات إلى الأسرة الهندية الأوروبية مثل السنسكريتية القديمة والهندية الحديثة والفارسية والأوردية والجرمانية وغيرها، والأسرة السامية الحامية، مثل العربية والعبرية والحبشية والبربرية والأكادية وغيرها وقسم ثالث أسماه أسرة اللغات الطورانية كالصينية واليابانية والمنغولية والتركية. وهو تقسيم له أصوله التوراتية.

وفي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثرت الدراسات اللغوية بتأثيرين بارزين، أما الأول فالثورة الصناعية في أوروبا وما صاحبها من تغير اقتصادي واجتماعي وحتى ثقافي، وأما الثاني فنظرية النشوء والتطور لصاحبها دارون التي حاولت العودة بالإنسان إلى أصوله التاريخية، بما ولداه من التركيز على أهمية التاريخ ودوره في إدراك الحقائق وفي صيرورة الأحداث بما فيها الإنسان، ومن ضرورة البحث عن القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية. 

ومع اكتشاف اللغة السنسكريتية يكون قد أتيح للمحامي الإنجليزي وليم جونز (ينظر خطابه أمام الجمعية الملكية الأسيوية في فيفري1786م) دراسة القرابة انطلاقا من التشابهات الصوتية والأصول الفعلية والأشكال النحوية بين الهندية القديمة والإغريقية واللاتينية بل حتى بينها وبين أخواتها الأوروبيات، معلنا أنها تعود إلى أصل مشترك، وليس إلى العبرية التي طال الحديث عن أنها أصل اللغات الأوروبية، وقد اشتهر القرن التاسع عشر بنزعة النحو المقارن، لكنه لم يكن سوى الوجه الآخر للسانيات التاريخية كما يصرح أنطوان مييه.

نقاط ارتكاز المدرسة التاريخية:

نظرا لاعتماد اللسانيات التاريخية على عنصر القرابة فقد شابهت الدراسة العلمية إلى حد كبير، لأنها أشبه بالقوانين العلمية بحكم ما تثبته من صلات كثيرا ما تكون متأصلة وصحيحة، على الرغم من أنها لم تصح إلا في نطاق محدود من العلائق خاصة بعض الجوانب الصوتية والمعجمية التي عرفت بها الدراسات التاريخية للغات التي حاولت أن توجد لنفسها مكانا تحت تأثير قوانين الفيزياء الميكانيكية من جهة وتأثير نظرية التطور في علم الأحياء من جهة ثانية.  

أما من الجانب المنهجي فقد توسلت الدراسة التاريخية ثلاثة مناهج في مقاربة الظاهرة اللغوية على حد تعبير ميلوسكي   "إن اللسانيات التاريخية استعملت ثلاثة مناهج لإعادة بناء تطور اللغات: المنهج الفيلولوجي، ومنهج إعادة التركيب الداخلي، والمنهج المقارن"، فالمنهج المقارن يعد الأكثر نجاعة في الكشف عن صلات القربى بين اللغات بصورة أدق، خاصة في مرحلته الكلاسيكية خلال القرن التاسع عشر (1820ـ 1870)، أما منهج إعادة التركيب الداخلي فيعتمد على أعادة البناء للغة الواحدة دون المقارنة عندما تتعذر المستندات المكتوبة، ويهدف إلى التمييز بين الأشكال القديمة والأشكال الجديدة، وله وجوه يتم الاستنتاج في الأول منها على أساس التغيرات الفونولوجية، في حين يستنتج في الوجه الثاني على أساس تطور النسق المورفولوجي (عند التساوي الدلالي بين صيغتين أولاهم منتظمة نسقية قياسية وثانيهما غير منتظمة وغير نسقية)، أما الوجه الثالث فيتناول الصيغ الآيلة للانقراض في مقابل تلك التي هي في طريق التطور باعتبار أن الأولى الأقدم تاريخيا. هذا في الوقت الذي يرمي المنهج الفيلولوجي إلى مقارنة النصوص المكتوبة في لغة بعينها في مراحل تاريخية متباينة، وذلك باقتناص العناصر اللغوية التي تؤدي الوظيفة نفسها في نماذج مختلفة زمنيا وتسجيل ما يطرأ عليها من تغييرات تدريجية.

على الرغم من الأثر الذي تركته اللسانيات التاريخية في مجال دراسة اللغة وما أسهمت به في الحركة العلمية اللسانية إلا أنها لم تسلم من نقد تركز أساسا على:

ـ أن الوسائل اللسانية المستعملة تظهر وكأنها شيء عارض لا يستند إلى نظرية عامة، وأن جهدها لا يعدو أن يكون رصدا للعلاقات القائمة بين عناصر معزولة صادف أن تتابعت في إطار الزمن وليس من الضروري أن تكون الصلات معللة والعلاقات فعلية حقيقية والروابط معللة.

ـ أنها تبني نظاما مسبقا ثم تحاول أن ترد كل الظواهر إليه سواء كانت لها به صلة أو لا، وكان الأولى أن تدرس الظواهر في ذاتها أولا، ثم يبحث لها عن مكانها في نسق شامل يجمعها، على اعتبار أن النظام ليس معطى أوليا بل نهاية تتبع الظواهر.  

Modifié le: Saturday 19 February 2022, 22:59