المحاضرة الثامنة: الانزياح الشعري وأهميته الأسلوبية:

      التأليف الإبداعي هو المجال الذي لا يمكن أن نخضعه لنواميس محددة و قوانين واضحة، وفيه يمكن كسر أطر الصوت و قواعد اللغة لإنتاج وظيفة جديدة تتعدى الوظيفة التواصلية للغة، فتظهر الوظيفة الشعرية أكثر بروزا " فاستخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمدة لا ينتج الشعرية، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة، خلق المسافة بين اللغة المترسبة وبين اللغة المبتكرة في مكوناتها الأولية وفي بناها التركيبية، وفي صورها الشعرية "[1]، فالشعرية انطلاقا من رأي كمال أبو ديب، هي نتاج الانزياح بالكلمات والتراكيب عن طبيعتها المعروفة إلى طبيعة جديدة، يهبه إياها الإبداع الأدبي، فتحقق بذلك مسافة بين لغة جمعية مترسبة في الذاكرة، ولغة ذاتية مبتكرة تثير الدهشة، و المسافة الفاصلة بين هذين المستويين هي الانزياح نفسه.

أ-تعريف الانزياح:

     الانزياح مصطلح نقدي معاصر، وهو لغة " من أزاح الشيء بمعنى أبعده أو غيبه ومنه إزاحة الستار في اللغة المسرحية ، ويقال زاح فإن أرادوا التعدية أضافوا الهمزة (أزاح) وزاح زيحا و زيوحا و زيحانا، بعُد وذهب وزال[2]،فالانزياح هو إبعاد الشيء أو نقله من مكانه إلى مكان آخر.

    وقد عرف هذا المصطلح ازدهارا كبيرا في النقد المعاصر، وفي الدراسات الأسلوبية خاصة، وتعددت تعاريفه عند الغربيين، تبعا لمشاربهم العلمية والفكرية والفلسفية، فماروزو (Marousau) يعرفه بأنه "اختيار الكاتب لما من شانه أن يخرج بالعبارة عن حيادها وينقلها من درجتها الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه"[3]، بمعنى أن العبارة العادية تكون في درجة الصفر تأثيريا، والخروج بها عن هذا الجمود إلى الحركية الإبداعية يتم بفضل الانزياح اللغوي الذي ربطه ماروزو بالاختيار الأسلوبي، مما يعني أن وعي المبدع حاضر فيه ،لذلك يقرر بأنّ "الخروج يتميز بسمة الاختيار الفني الذي تحكمه الأغراض البلاغية والفنية وليس لمجرد الخروج والانحراف أي إنّه خروج مختار"[4].

    وعرّفه تودوروف (Todorov) بأنه (لحن مبرر) فهو يشبه الخطأ، ولكنه يحمل دلالات عميقة تثير القارئ وتبرر وجود هذا التركيب، و عرّفه ريفاتير بقوله: "الانزياح  خروج عن النمط التعبيري المتواضع عليه، والانزياح يكون خرقا للقواعد حينا ولجوء إلى ما ندر من الصيغ حينا آخر"[5].

      أما عند النقاد العرب فقد عُرف مصطلح نقدي قديم، قريب إلى حد بعيد في مفهومه الاصطلاحي والنقدي من مصطلح الانزياح وهو مصطلح العدول من مادة (عدل)، قال صاحب المحيط: " عدل عنه يعدل عدلا و عدولا حاد واليه عدولا رجع و الطريق مال، وفلان بفلان سوى بينهما "[6]، فالميل والانحراف دلالتان قائمتان في معنى العدول، وقد عرف هذا المصطلح في بيئة النحاة كما عرف في بنية النقاد البلاغيين فسيبويه جعل العدول قرينا لمصطلح التحويل، والمقصود به الخروج عن قاعدة ما، فعند حديثه عن التمييز مثلا جعل تراكيب محمولة عن تراكيب أخرى، أي منزاحة مثل (امتلأت ماء) فالمقصود (امتلأت من الماء) فحذف من استخفافا [7] أي أنّ التركيب الثاني أصل والتركيب الأول تحول عنه.

      أما في بيئة النقاد البلاغيين، فقد عرف عبد القاهر الجرجاني مادة (عدل)في معرض تفسيره لأحد أبيات الشعر، يقول:" ولكنه كأنه ترك الطريقة، وعدل إلى هذه لأنها أحسن"[8]، فالشاعر عدل عن طريقة معروفة وبسيطة إلى أخرى أكثر تعقيدا وتدعو إلى النظر والتفكير مما لفت الانتباه إليها.

ب-تصنيف الانزياح:   

      يمكن تصنيف الانزياح تبعا لدرجة انتشاره في النص على اعتبار أنه ظاهرة محلية موضعية أو شاملة، فالاستعارة مثلا يمكن أن توصف بأنّها انحراف موضعي عن اللغة العادية، أما الظواهر التي تتكرر بمعدلات مرتفعة و التي يمكن رصدها بطريقة الإحصاء فتعتبر انحرافا شاملا.

    كما يمكن تصنيف الانحراف تبعا لعلاقته بنظام القواعد اللغوية، ويكون هذا الانحراف سلبيا إذا اعتمد على خرق هذه القاعدة ، أو ايجابيا إذ اعتمد على إضافة قيود معينة زائدة على ما هو عرفي مقرر، وتصور الأسلوب كخرق للقواعد اللغوية، هو من العناصر الإجرائية الهامة في التحليل الأسلوبي.

    ويصنف الانحراف اللغوي من خلال العلاقة بين القاعدة والنص الابداعي، وقد ميز الدارسون بين الانحراف الخارجي، وهو اختلاف أسلوب النص عن القاعدة في اللغة عموما، أما الانحراف الداخلي فهو كشف الوحدات المنفصلة عن القاعدة العامة التي تسيطر على النص بأكمله دون النظر الى القاعدة العامة التي تتحكم في اللغة.

     تصنيف الانحراف أخيرا تبعا لمبدأي الاختيار والتأليف، تبعا لنظرية جاكبسون وهناك الانحرافات التركيبية وهي التي تتصل بالنظم و التركيب والخروج عن قواعدها.

     والذي نستنتجه من هذه التصنيفات، أنّ هناك دائما مقارنة بين القواعد الداخلية والقواعد الخارجية، أما الداخلية فهي النظام الخاص الذي يحدده الشاعر لنفسه ويلتزم به ويكون هذا النظام مفارقا للقاعدة اللغوية، أما القواعد الخارجية فهي النظام اللغوي في لغة معينة و الخروج عن مألوف النظام الأول أو النظام الثاني يولد مجموع الانحرافات السابقة كلها، والباحث الأسلوبي يأخذ منها ما يساهم في تحليل النص الذي يريد.

ج-الانزياح والمعيار:

      تبعا لتعدد تعاريف الانزياح و مصطلحاته تعددت نظرة النقاد إلى المعيار الذي يتم الخروج والانحراف عنه ولكن الذي اتفق حوله النقاد جميعا هو ضرورة وجود هذا المعيار الذي يحدث الانزياح عنه والذي يتحدد الانحراف على أساسه، "فمقولة الانحراف تفترض أصلا مسبقا استقر ورسخ في اللغة العامة ليكون هو المقياس الذي يتحدد به الانحراف وتعرف به درجته، وليس هذا الأمر باليسير لأن تحديد هذا الأصل لا يخلو من صعوبة على الرغم من استعانة النقد بعلم اللغة الذي يقدم بيانات واضحة لهذا الأمر"[9]، ومعنى هذا أنّ المعرفة الشاملة بعلوم اللغة تمكن الباحث الأسلوبي من تحديد المعايير اللغوية التي يتم عنها الانزياح ، وبالتالي فاللغة هي مساحة التقاء الأصل والانزياح، والأسلوب هو انحراف عن هذا الأصل، وتحديد المعيار وتصنيفه لم يتم بشكل موحد، إذ لم يتفق النقاد حول ماهية هذا الأصل فصفوة تصنيفات عديدة أهمها:

- الأصل هو نظام اللغة، أي جملة قواعد اللغة التي تتم بها الكتابة، والأسلوب هو العدول عن نظام اللغة

- المعيار هو الاستعمال اللغوي الموروث (كاللغة الفصحى مثلا)، والانحرافات التي يجريها المبدع على التصورات النحوية والبلاغية السائدة في عصره (اللهجة) هي التي تستوجب الدراسة الأسلوبية.

- المعيار هو الاستعمال الكلامي، حيث يمكن اعتبار الكلام تعبيرا محايدا يقاس عنه أسلوبيا باعتماد الأداء.

- المعيار هو الاستعمال الشائع ليس للغة فحسب، بل لنمط كتابة معين، ويتم ذلك بإحصاء جميع الوسائل اللغوية لعدد من النصوص و الانحراف يحدد تبعا للخروج عن هذا المتوسط الاحصائي.

د - الانزياح عن السياق الأسلوبي:

     وأهم معيار يمكن اعتماده أصلا يتم الانحراف عنه هو ما اسماه ريفاتير بالسياق الأسلوبي، وكلّ من السياق والانحراف نابعين من النص ذاته ولا علاقة للمحيط الخارجي به، والتتابع هو خط سير دلالات النص وفق لغة معينة، أما الانحراف فهو كسر خط هذا التتابع مما يولد صراعا نصيا بين مستويين: مستوى السياق اللغوي المتعلّق بالإطار الداخلي للغة (بنية النص)[10] ومستوى الانحراف الذي يمثل النصوص التي تحاول أن تخترق السياق الداخلي متمردة على قوانينه وينتج عن هذا الصراع نموذج لغوي ينكسر بعنصر لغوي غير متوقع، والتضاد الناجم عن هذا التقابل هو المثير الأسلوبي، وهو الذي يعتمده الباحث الأسلوبي منطلقا للتحليل[11].

هـ-القيمة الأسلوبية للانزياح :  

      اتضاح مفهوم الانزياح لا يفيد الدارس حتى تتوضح أمامه –كذلك- قيمته الأسلوبية، وهذه الأخيرة نابعة من اللغة الشعرية الخاصة التي لا تقف عند حدود المتعارف عليه، بل تخرج إلى أساليب لغوية لا محدودة،    وقيمة الانزياح تكمن في تلك القدرة على تركيب أساليب لغوية لامحدودة من طرف الشعراء، لا تساهم في القدرة على إظهار المعنى فحسب، بل وفي التأثير في القارئ كذلك.

    والانزياح من ناحية أخرى يعطي النص إضافة إلى الوظيفة الإيصالية ذات الأهمية البالغة في عملية التوصيل وظيفة شعرية تنبع من ذلك التعقيد الذي يحدثه الخروج عن المألوف، وعن المتعارف عليه من طرف الجماعة اللغوية الواحدة.

    والانزياح يحدث دهشة لدى المتلقي، وتلك الدهشة هي الجزء الذي يمكن قياسه أسلوبيا في النص الإبداعي وهي مدخل الأسلوبية إلى دراسته، فالأسلوبيون يرون أنه كلما تصرف مستعمل اللغة في هياكل دلالاتها أو أشكال تراكيبها بما يخرج عن المألوف انتقل كلامه من السمة الإخبارية إلى السمة الإبداعية[12].

     ويمكن أن نجمع قيمة الانزياح في النقاط الآتية :

1- الانزياح يعطي المبدع قدرة أكبر علي التعبير ،عبر انتاجه لقوالب لغوية جديدة، وكسره للقوالب القديمة و المتعارف عليها ،لأنه لغة مجازية تتحاشى تسمية الأشياء بمسمياتها .

2- الانزياح يخرج بلغة النص الإبداعي منى الوظيفة الايصالية السطحية إلى الوظيفة الشعرية الأثر عمقا

3- الانزياح يثير دهشة المتلقي و يثير الباحث الأسلوبي للبحث عن أسباب هذه الدهشة.

4- الانزياح غموض إبداعي ومعان خفية ، يعطيها التحليل أبعادا جديدة وأفاقا واسعة .

5- وفي الأخير يستمد الأسلوب طاقته من الانزياح ليخرج من واقعه البدئي، أي من استعمالاته الدارجة المألوفة ، عن درجة الصفر ، إلى السنن اللغوية ،أي إلى اللغة العليا، فيكون الانزياح هو الأسلوب ذاته .

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:35 PM