المحاضرة السابعة: الأسلوبية التوزيعية : (stylistique distributive)

تمهيد:

      إن الظاهرة الأسلوبية منوطة ببنية النص، لذلك أصبح هذا الأخير في نظر الأسلوبي خطاب تغلبت فيه الوظيفة الشعرية فهو خطاب تركب في ذاته ولذاته والأسلوب هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب ، ويتحدد بتوافق عمليتين متواليتين في الزمن ومتطابقتين في الوظيفة هما (الاختيار والتأليف ) داخل نظرية الإسقاط التعادلية لمحور الاختيار على محور التوزيع.

     وجاكبسون يعتبر الحدث الأسلوبي "تركيب عمليتين متواليتين وهما اختيار المادة التعبيرية من الرصيد اللغويّ، ثم تركيب هذه المادة اللغوية بما يقتضيه بعض قواعد النحو وبما تسمح به سبل التصرف في الاستعمال"[i] وهكذا فإن الأسلوب، عند جاكبسون هو توافق هاتين العمليتين أو هو تطابق لجدول الاختيار على جدول التأليف ، والرسم الآتي يوضّح ذلك :          

الاختيار الأسلوبي (المحور العمودي)

( عملية استحضار لمختلف الكلمات الدالة على المعنى الواحد، ثم اختيار الأفضل والأصلح منها )

 

    التأليف الأسلوبي (المحور الأفقي)

عملية تركيب الألفاظ مع مراعاة مجموعة من العلاقات النحوية والدلالية والأسلوبية   

1- الاختيار الأسلوبي:

     ركّز جاكبسون اهتماماته الأسلوبية على "دراسة اختيارات الكاتب التي تحقق للنّص أمرين هما المتعة والقيمة الجمالية"[ii]، أما الأولى فتصدر عن التراكيب المتميزة التي تنتج عن الاختيارات الأسلوبية والتي يُعمل فيها الكاتب وعيه الإبداعي ليثير دهشة القاريء ، أما الثانية فتكون نتيجة للأولى لأنها تحوّل اللغة العادية إلى لغة جميلة قادرة على التواصل وعلى التأثير .

       والاختيار الأسلوبي هو مجموع " المسالك التعبيرية التي يؤثرها الشاعر أو الأديب دون بدائلها التي يمكن أن تسد مسدّها لأنها في نظره، دون تلك البدائل، أو أكثر ملاءمة لتصوير شعوره وأداء معانيه"[iii] ومن ثم كان الأسلوب ذاته اختياراً، أي "اختيار الكاتب لما من شأنه أن يخرج بالعبارة عن حيادها وينقلها من درجتها الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه "[iv] ، والاختيار يتم على مستوى الوحدات اللغوية من خلال تفضيل وحدة ما على غيرها من البدائل القريبة منه، والقادرة على أداء الدلالة نفسها أو القريبة منها، غير أنّ الكاتب يختار  الأفضل والأصلح.

     لذلك عرّف أحمد حسن الزيات الأسلوب بأنه" طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام، وهذه الطريقة فضلا عن اختلافها بين الكتاب والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختلاف الفن الذي يعالجه، والموضوع الذي يكتبه، والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه"[v].

    والاختيار الأسلوبي عند الأسلوبيين هو عملية واعية، يقول شارل بالي عن قصدية الاختيار الأسلوبي: "إنّ رجل الأدب يصنع من اللغة استعمالاً إرادياً مقصوداً، ويستعمل اللغة بقصد جمالي"[vi]

2- التركيب الأسلوبي:

    " تزدوج العلاقات الاستبدالية في محور الاختيار بالعلاقات الركنية في محور التركيب (التأليف)، وهذا الأخير يتمثّل في رصف هذه الأدوات وتنظيمها حسب تنظيم تقتضي بعضه قوانين النحو وتسمح ببعضه الآخر مجالات التصرف، وسميت علاقات ركنية باعتبار أنها تخضع لقانون التجاور، ودلالتها رهينة الأركان القائمة في تعاقبها، لذلك أطلق عليها أيضا محور التوزيع، لأن تنظيمها هو بمثابة رصف لها على سلسلة الكلام، وتتميز هذه العلاقات الركنية بأنها حضورية، فيتحدد بعضها ببعض بما وقع اختياره"[vii]

      أما قيمة التركيب الأسلوبية فتكمن في بثّه الحياة في تلك الاختيارات الإفرادية من خلال الجمع بينها في تشكيل لغوي واحد ومتماسك "ذلك أن الجمال في النص الأدبي، إنما يعود إلى العناصر البنائية متضافرة ومتفاعلة لا إلى عنصر بعينه منها"[viii].‏

3- التداخل بين الاختيار والتركيب:

     وتكمن أهمية هذا التداخل بين مستويي الاختيار والتأليف في إثارة دلالتي الحضور والغياب اللتين تعملان كمثيرين أسلوبيين يربطان العلاقة بين النص والمتلقي، ويؤكدانها كلّما توسّع مجالها، فالكلمة الحاضرة في المحور الأول تدفع بالقارئ إلى استدعاء الكلمات الغائبة، وإلى تأويل النص وفق حضوراتها الممكنة في النص، كما أنّ التداخل بين الاختيارات الحاضرة والغائبة سينتج عددا كبيرا من التراكيب الممكنة، وبالتالي فالنص الواحد يخفي مجموعة من النصوص الغائبة التي يفترض المتلقي وجوده ويؤوّل النص وفقها.

     يقول عبد السلام المسدي: " تتركب الكلمات في الخطاب من مستويين: حضوري وغيابي، فهي تتوزع سياقيًا على امتداد خطي، ويكون لتجاورها تأثير دلالي وصوتي وتركيبي، وهو يدخلها في علاقات ركنية، وهي أيضًا تتوزع غيابيًا في شكل تداعيات للكلمة المنتمية لنفس الجدول الدلالي، فتحل إذن في علاقات جدلية أو استبدالية، فيصبح الأسلوب بذلك شبكة تقاطع العلاقات الركنية بالعلاقات الجدولية، ومجموع علائق بعضها ببعض"[ix].

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:35 PM