المحاضرة الخامسة: الأسلوبية الإحصائية Stylistique statistique

      مما لاشك فيه" أن المنهج الاحصائي أصبح صاحب اليد الطولى في مجال الأسلوبيات باعتباره نموذجا للدقة العلمية التي لا تترك مجالا لذاتية الناقد أو الباحث كي تنفذ إلى العمل الأدبي"[i]، فالباحث الأسلوبي يرجو دائما الوصول إلى الموضوعية الكاملة التي تسمح له بمواجهة أي نص إبداعي دون خوف من إسقاط ذاتيته عليه أو القاء أحكام مسبقة أو بعدية بالحسن والقبح إنه يريد تحليل النص بذاته ولذاته لا لغاية نفسية أو ايديولوجية تتحكم في الناقد والنقد معا، لذلك كان "البعد الاحصائي في دراسة الأسلوب هو من المعايير الموضوعية الاساسية التي يمكن باستخدامها تشخيص الاساليب و تمييز الفروق بينها"[ii].

     وقدم (كوهن) توسيعًا للقاء الأسلوبية بالإحصاء فيقول: "لكون الأسلوبية هي علم الإنزياحات اللغوية والإحصاء، علم الإنزياحات عامة فمن الجائز تطبيق نتائج الإحصاء على الأسلوبية لتصبح الواقعة الشعرية قابلة للقياس إذ يبرز كمتوسط تردد الإنزياحات التي تقدمها اللغة الشعرية بالنظر إلى النثر"([iii]).

      وعمل التحليل الإحصائي يهدف إلى "تمييز السمات اللغوية، وذلك بإظهار معدلات تكرارها ونسب هذا التكرار و لهذه الطريقة في التحليل أهمية خاصة في تشخيص الاستخدام اللغوي عند المبدع"[iv].

      وهذا ما أوضحه سعد مصلوح عند تمييزه بين "ما يتضمنه النص من انحراف متفرد في الاستعمال الشطط الذي لا متعة فيه، وبيان ذلك انه ليس كل انحراف جدير بأن يعد خاصة أسلوبية هامة بل لابد لذلك من انتظام الانحراف في علاقاته بالسياق"[v].وتميز السمات اللغوية البارزة أو الانحراف الأسلوبي ينطلقان أساسا من عملية الخلق الإبداعي التي تقوم على الاختيار والتأليف الانحراف والعيار.

- نظرية الأفعال والصفات:

    وأعم نظريات الأسلوبية الإحصائية نظرية (بوزيمان) التي ترى أنّ "تمييز النص الأدبي بوساطة تحديد النسبة بين مظهريين من مظاهر التعبير أولهما - التعبير بالحدث (Active Aspect)  وثانيهما مظهر التعبير بالوصف (Qualitative Aspt)  ويعنى (بوزيمان) بأولهما: الكلمات التي تعبر عن حدث أو فعل، وبالثاني الكلمات التي تعبر عن وصفه مميزة لشيء ما أي تصف هذا الشيء وصفا كميا أو كيفيا"([vi])، ونستطيع أن نكتشف مميزات نص من غيره انطلاقا من نسبة الكلمات المعبرة عن حدث، والكلمات المعبرة عن وصف وذلك "بحساب هذه النسبة حيث نحصي عدد الكلمات التي تنتمي إلى النوع وعدد الكلمات التي تنتمي إلى النوع الثاني، ثم إيجاد حاصل قسمة المجموعة الأولى على المجموعة الثانية ويعطينا حاصل القسمة قيمة عددية تزيد وتنقص حسب عدد كلمات المجموعة الأولى على المجموعة الثانية وتستخدم هذه القيمة دالاً على أدبية الأسلوب"([vii])

- خطوات الإحصاء الأسلوبي:

    تقوم العملية الإحصائية للأسلوب على الخطوات التالية:

    أ- التشخيص الأسلوبي:

     ويأتي بعد التشكيل الأسلوبي أي تشكيل النص الإبداعي وهو نشاط تحليلي يقوم به الباحث هدفه الكشف عن الهوية الأسلوبية للنص من خلال الكشف عن المؤشرات الأسلوبية التي" هي العناصر اللغوية المشروطة بسياق النصوص، أما العناصر الأخرى التي لا تقوم بدور المؤشرات فهي محايدة و لا دلالة لها"[viii]

     وهذه المؤشرات الأسلوبية هي عملية اختيار واعية أو غير واعية لعناصر لغوية معينة وتوظيفها عن قصد لإحداث تأثير خاص هو التأثير الأسلوبي، والكشف عن مدى هذا التوظيف و إبعاده يقتضي من الباحث استخدام قياس دقيقة"[ix].

  ب- تحديد المتغير الأسلوبي:

     وهي مجموعة السمات اللغوية التي تعمل فيها المنشئ بالاختيار أو الاستبعاد وبالتكثيف أو الخلخلة، وبإتباع طرق مختلفة في التوزيع ليشكل بها النص، وحينئذ تصبح المتغيرات الأسلوبية مميزة "[x] وتنقسم إلى متغيرات شكلية وصوتية وصرفية وتركيبية ودلالية والمتغيرات ما فوق الجملة.

 ج- قياس كثافة المتغير الأسلوبي:

     ومثاله قياس كثافة نوع من أنواع الجمل (الاسمي/الفعلي/البسيط /المركب /المعقد/ الإنشائي/الخبري) يقسمه عدد الجمل المراد قياسها على المجموع الكلي لعدد الجمل المكونة للنص.

 د- قياس البنية بين متغيرين أسلوبيين:

     وذلك بقسمة تكرارات أحدهما على تكرارات الآخر، كقياس بنية الأفعال إلى الصفات مثلا.

ه-قياس النزعة المركزية للمتغيرات:

     وبها نميز منشأ أو مبدعا من خلال استخدام ما ويعني ذلك نزعة مركزية عالية إلى استعمال نوع معين في النص ( كلمات – جمل...).

و- قياس تشتت بيانات المغيرات: 

      ويتم بين النصوص المتشابهة إذ يتم التفريق بينها بهذا المعيار أي قياس درجة انتشار البيانات الرقمية داخل النصوص المحللة إحصائيا وهذا سيكشف عن اختلافات لا تظهر في الظاهر بل تظهرها عملية الإحصاء.

ز-قياس التوزيع الاحتمالي للمتغيرات:

     يقصد به قياس تكرارات متغير أسلوبي ما في أجزاء النص الواحد أو بين نصوص لمبدع واحد أو مبدعين مختلفين

ح- قياس معامل الارتباط بين المتغيرات:

     تختلف المتغيرات الأسلوبية في النص، ولكن هناك روابط بينها كاختلاف الجمل طولا وقصرا وما تحمله من بساطة وتركيب، وهذا القياس يتم عبر تحديد الارتباط بين الجمل وما فيها من بساطة أو تركيب[xi]

- الأسلوبية الإحصائية في النقد العربي المعاصر:

     من الدارسين العرب الذين اعتمدوا الإحصاء الكمي منهجا نقديا محمد العمري في كتابه تحليل الخطاب الشعري البنية الصوتية الذي يقول: "يعتبر الكم في حد ذاته عاملا من عوامل البروز والظهور فالمواد التي تتكاثف بشكل غير عادي بالنسبة لمستعمل اللغة كفيلة بإثارة الانتباه بكميتها نفسها"[xii]، كما قام إبراهيم أنيس بإحصاء أصوات عشرات من صفحات القرآن ثم حصر نسبة شيوع الأصوات كما أحصى بحور الشعر التي استعملها كثير من شعراء العرب و يخرج بنتائج مقنعة في كتابه الأصوات اللغوية[xiii]

      ومن المؤيدين الحذرين لهذا المنهج عبد المالك مرتاض الذي يقول:" أجل إنّ المنهج الإحصائي لا يخلو من مغالطة منهجية حين يعمد إلى جملة من الألفاظ التي يصطنعها  كاتب من الكتاب مثلا مجردة عن سياقها الدلالي، كان يجيء إلى الظلام أو الموت فيحصيها عددا في نص ما، ثم يبني على ضوء العدد الذي يتوصل إليه حكما نقديا و إن لنعلم إن اللغة ليست ألفاظا جوفاء و لا طائرة في الهواء عبثا و لا شاردة في الفضاء سدا... وإنما هي سياق وتراكيب و انزاح وتوتر"[xiv] و لكنه يؤيد هذا المنهج الذي يعده ضروريا في جملة من المواقف للكشف أسلوبيا عن لغة المؤلف أي معجمه الفني و استنصاص هذا المعجم، كما يعد الإحصاء في نظره جديرا بالكشف عن درجة القدرة اللغوية للكاتب الذي ندارس أدبه[xv].

     ويؤيد هذا المنهج أيضا جون كوهين في كتابه (بنية اللغة الشعرية )اذ يقول: "ففي مفهوم الانزياح يتأكد لقاء هام بين الأسلوبية والإحصاء. و لكون الأسلوبية هي علم الانزياحات اللغوية والإحصاء علم الانزياحات العامة فمن الجائز تطبيق نتائج الإحصاء على الأسلوبية لتصبح الواقعة الشعرية وقتها قابلة للقياس"[xvi] إذ يمكن اعتمادا على القياس الكمي بتحديد شاعرية نص ما بالنظر إلى النصوص الأخرى وتعتمد هذه الدراسة الأسلوبية عنده على خطوتين هامتين : أحداهما تبين خصائص الظاهرة والثانية قياسها.

     ولـكن" ينبغي قبل أن نحصي أن نعلم ما نحصي، نحن نعتقد أن المشكلة الحقيقية للأسلوب ذات طابع كيفي و ليس كميا ، والتأكد من أننا لم نخطئ و أننا حقيقة أمام منهج خاص بين مؤلف ما و مؤلفات أخرى و بين هذا النوع و أنواع أخرى"[xvii]

Modifié le: Wednesday 27 April 2022, 12:35