المحاضرة الثالثة: الأسلوبية التعبيرية: (stylistique de l’expression)

تمهيد:

     وتعرف بالأسلوبية الوصفية (descriptive) وكثير من النقاد والباحثين المعاصرين في ميدان البحث الأسلوبي يعدون شارل بالي(*) عالم اللغة السويسري مؤسس الأسلوبية أو علم الأسلوب "فإذا كان دي سوسير مؤسس علم اللغة الحديث فان بالي يعد مؤسس الأسلوبية التعبيرية "[i]، وقد ركز في دراساته على "البحث عن القيمة التأثيرية لعناصر اللغة المنظمة والفاعلية المتبادلة بين العناصر التعبيرية التي تتلاقى لتشكل نظام الوسائل اللغوية المعبرة "[ii].

     كما ركز بالي على "الطابع العاطفي للغة أو الجانب الوحداني للكلام، وارتباطه بفكرتي القيمة والتوصيل فالمتحدث يحاول أن يترجم ذاتية تفكيره ، ثم يتولى الاستعمال الشائع لتكريس هذه اللفتات التعبيرية [iii].

     واللغة عنده تعبر عن الفكرة من خلال موقف وجداني لكنه "لم يخص لغة الأدب بذلك وإنما تحدث عن اللغة الطبيعية التوصيلة أيضا و كان موضوع علم الأسلوب هو دراسة المسالك والعلامات اللغوية التي تتوسل بها اللغة لإحداث الانفعال "[iv]وهو يقف بشكل خاص "أمام اللغة المنطوقة ليلاحظ العلاقة التي يمكن قيامها بين المحتوى العاطفي والصيغة التي يصب فيها"[v]

     وبالي يرفض أن يتساءل عن استخدام المؤلف لتعبير معين، ولا يتساءل عن خواص الشخصيات والموافق أو ايقاع العمل الأدبي، وقد اعتبر هذا الجزء من قبيل الدراسات الجمالية، لا علم الاسلوب الذي يقتصر عنده على دراسة وقائع التعبير اللغوي بصفة عامة لا عند مؤلف خاص.

     ويركّز بالي عن المضمون الوجداني في اللغة الذي يؤلف موضوع الأسلوبية في نظره وهو الذي تجب دراسته عبر العبارة اللغوية، ومفرداتها وتراكيبها من دون النزول إلى خصوصيات المتكلم[vi]. وهذه الوقائع المتعلقة بالتعبير اللغوي تنعكس في نوعين من الاثارة يكشفان عن الأساس الوجداني لأسلوب المتكلم :

أ- الوقائع الطبيعية :

     يرى بالي أن ثمة علاقات طبيعية بين الفكر والبنى اللسانية المعبرة عنها، وهناك نوع من التعامل بين الشكل والمضمون كما أن هناك استعدادا طبيعيا يقوم في الشكل بالتعبير عن بعض فئات الفكر[vii] ويقصد به تكييف الشكل ليتلاءم مع الموضوع كالعلاقة بين الصوت والمعنى في  الأسماء التي تقلد أصوات الطبيعة، وإنّه لأمر طبيعي كما يقول بيير جيرو أن يعبر اسم التصغير عن اللطف والرقة أو أن يكون للتفخيم قيمة سيئة، فهناك علامة طبيعية بين الصوت والمعنى أو العلاقة بين المعاني والصور البلاغية التي للتعجب والاستفهام وغيرها[viii].

     لقد اعتبر بالي أن دور الأسلوبية يكون بدراسة القيمة العاطفية للأحداث اللغوية المميزة والعمل المتبادل للأحداث التعبيرية التي تساعد في تشكيل نظام وسائل التعبير في اللغة  فهناك – من جهة – قيم تعبيرية لا واعية أحيانا ضمن هذا النظام وهناك أيضا – من جهة ثانية – قيم تأثرية واعية تنتج عن قصد فالتعبير عن الامتنان مثلا  له عدة إمكانات تعبيرية منها :

- تفضلوا بقبول خالص الشكر والامتنان .

- شكرا جزيلا .

-كم أنا ممتن .

-أنت صديق .

هذه العبارات الأربعة هي متغيرات (Variantes ) أسلوبية حيث أن كل منها يشكل طريق خاصة للتعبير عن نفس الفكرة.

ب- الوقائع المبتعثة أو المستثارة ( آثار الاستدعاء):

   يقصد شارل بالي بالوقائع المستثارة تلك " المواقف التي تستجدي أثرها التعبيري من المجموعة الاجتماعية التي تستعملها ، وهي تعكس مواقف تصنف فيها فئة اجتماعية معينة تأثيرا تعبيريا خاصا على الصيغ التي تستخدمها كالفارق بين (النبل والابتذال ) في الاستعمال اللغوي، فالعبارة العامية تكتسب هذه الخاصية، لأن الفئة التي تستخدمها عامية [ix] لذلك يظهر في المجتمعات آثار مبتعثه عديدة ومختلفة " وكلّ نوع منها يتميز بطريقة تنغيمه واختيار مفرداته وتكوين صوره التي تعكس أو تثير مواقف عقلية ومشاعر اجتماعية محددة" [x] 

     هذه الوقائع تمد المتكلم بوسائل التعبير، وهذه الوسائل تعود إلى القصد الإرادي في استعمال وسائل اللغة لذلك لم يقسم بالي الظاهرة الكلامية إلى خطاب نفعي وخطاب فني، بل نظر الى بصمات الشحن الوجداني في الخطاب وقسمـه إلى:

01-خطاب غير مشحون ، وهو الطبيعي غير الواعي

02- خطاب مشحون: وهو حامل للعواطف أي الكثافة الوجدانية العاطفية التي يشحن بها المتكلم خطابه في شتى الاستعمالات "والمتكلم يضفي على معطيات الفكر ثوبا موضوعيا مطابقا للواقع ولكنه يضيف إليها عناصر عاطفية لكشف صورة ( الأنا) وهذه الوسائل التعبيرية تنكشف في اللغة تلقائيا قبل أن تبرز في الأثر الأدبي أو الفني وهي في نظر بالي مطلقة الوجود[xi] "

     وهكذا تهدف الاسلوبية عند بالي لدراسة لقيم تعبيرية انطباعية خاصة بمختلف وسائل التعبير التي في حوزة اللغة وترتبط هذه القيم بأشكال التعبير المختلفة، وهذا ما جعله لا يهتم بالجوانب الجمالية ولا يهتم باللغة الأدبية وتصنيفه للإمكانات الكامنة أو المثارة في اللغة شده الى دراسة القوى التعبيرية في لغة الجماعة دون الاهتمام بالتطبيقات الفردية لها، وكل ذلك جعل دراسته الاسلوبية دراسة لغوية لا دراسة أدبية[xii].

      وقد جمع منذر عياشي خصائص أسلوبية التعبير فيما يلي:

01- إنّ أسلوبية التعبير هي دراسة علاقات الشكل مع التفكير

02-لا تخرج عن اطار اللغة أو الحدث اللساني المعبر لنفسه

03- تنظر الى البنى و وظائفها داخل النظام اللغوي وبهذا تعتبر وصفية

04- هي أسلوبية اثر وتتعلق فحسب بدراسة المعاني[xiii]

     وقد اعتبر صلاح فضل أنّ "هناك مبدأ هام في منهجنا هو أن نعمد عن طريق التجربة إلى إقامة بعض أشكال التعبير المثالية وهي أشكال لا توجد بهذا الصفاء في أية حالة من حالات اللغة "[xiv]

وبما أن الأسلوبية عندبالي تولدت من شجرة الألسنية ظهرت لذلك المبادىء التالية:

  - امتياز اللغة المحكية عن اللغة المكتوبة

  - امتياز الخطاب العادي عن الخطاب الابداعي

  - توجيه البحث الأسلوبي إلى الشحن العاطفي

     وما يعيب أسلوبية التعبير أنّها اهتمّت بدراسة الكلام العادي المنطوق دون بقية مستويات الخطاب الأخرى خاصة الإبداعي ، كما أنّها اعتبرت الأسلوب نتاجا للشحنات العاطفية التي يلجأ إليها المتكلّم للتعبير عن مختلف المواقف التي تواجهه ، لذلك حاول شارل بالي أن يضع قواعد للتعبير مشابهة لقواعد اللغة ، يعود إليها المتكلّم كلّما واجهه موقف معيّن، لكنّه لم يتمكّن من ذلك .

الخاتمة:

    فتح شارل بالي المجال أمام ظهور علم نقدي جديد هو علم الأسلوب، غير أنّه لم يجعل من النصوص الإبداعية حقلا لتطبيقاته العلمية، بل أسّس نظريته في الأسلوبية التعبيرية على اللغة المنطوقة وما يمكن أن تحمله من خصائص عاطفية تُغيّر من دلاله اللفظ أو العبارة كلما اختلفت المشاعر السابقة لها، وقد نجح بالي في الكشف عن الأساليب المختلفة التي تختفي خلف العبارة الواحدة وهو ما سمح بالكشف عن البنى العميقة في النصوص، غير أنّه لم ينجح في وضع قواعد ثابتة تشبه قواعد النحو للتعبيرات العاطفية المختلفة.  

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:34 PM