المحاضرة الأولى:  مفهوم الأسلوب بين التراث والمعاصرة

تمهيد :

     علم الأسلوب هو أحد المناهج النقدية الحداثية التي تنتمي إلى مرحلة ما بعد البنيوية ، وبالتالي فهو من المناهج النصانية التي تعتمد فكرة الانطلاق من النص إلى الخارج ، ولا تهتم بالسياق المحيط إلا بما يخدم الأفكار الصادرة عن النص نفسه .

     وهذا العلم يعتمد اللغة الأدبية مفتاحا من مفاتيح التحليل، ليصبح بذلك منهجا لغويا قائما على المستويات اللسانية ( الصوتية والإفرادية والتركيبية والدلالية )، وهو من المناهج التي تؤكد فكرة موت المؤلف ، فلا تعطي لحياته ولا للأحداث التي تخللتها أيّة قيمة ، بل يقوم عملها أساسا على تأويل البنى اللغوية للنص .

    ولفهم هذا المنهج فهما صحيحا وجب تتبّع ميلاده منذ أن كان كلمة ، إلى أن صار مصطلحا ، ثم منهجا ومدرسة نقدية ، وذلك من خلال مجموعة من المحاضرات التي تنطلق من المعاني اللغوية التي حملتها القواميس العربية والغربية القديمة ، وصولا إلى المدارس الأسلوبية المعاصرة وتطبيقاتها الإجرائية ، ومرورا بمفاهيم الأسلوب والأسلوبية عند أهم الدارسين العرب والغربيين .

1- مفهوم الأسلوب لغة واصطلاحا:

      يحتل مصطلح الأسلوب مكانة كبيرة بين بيئات علمية مختلفة، تتجاذب أطرافه، فهو المنهج العلمي عند العلماء، وهو المعبّر عن طرق التأليف النغمي عند الموسيقيين، ولكنّ ارتباطه بالأدب يبدو أكثر متانة، وأكثر عمقا، بالنظر إلى نمو هذا المصطلح جنبا إلى جنب مع الإبداع الأدبي منذ القديم ، والذي يلفت الانتباه هو الحضور القوي لهذا المصطلح في الدراسات القديمة، وهو ما يبرز أهميته الفكرية ، لذلك اهتمت هذه المحاضرة بتتبّع هذا الحضور اللغوي في أهم القواميس القديمة ، وحضوره الاصطلاحي في مختلف المصنّفات الأدبية والنقدية:

 1- كلمة  الأسلوب في اللغة:

      جاء عن ابن منظور أن –الأسلوب الطريق الممتد، أو السطر من النخيل، و كل طريق ممتد فهو أسلوب و يقال: أنتم في أسلوب سوء، و الجمع على أساليب، و هو الطريق و الوجه والمذهب و الفن، يقال: أخذ فلان في أساليب من القول ، أي أفانين فيه" [1]

     أما في المعجم الوسيط فالأسلوب الطريق ويقال: " سلكت أسلوب فلان على كذا، طريقته، مذهبه والأسلوب طريقة الكاتب في كتابته، و الأسلوب الفن، يقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة"[2]

      وقد قام أحمد عبد المطلب في كتابه القيم" البلاغة و الأسلوبية "بتحليل تعاريف الأسلوب سابقة الذكر مع أحمد الشايب في كتابه الأسلوب إذ تبينا بعدين أساسيين:

  • الأول: البعد المادي الذي نلمسه في تحديد مفهوم الكلمة من حيث ارتباطها في مدلولها بمعنى الطريق الممتد أو السطر من النخيل.
  • الثاني : البعد الفني الذي يتجلى من خلال ربطها لأساليب القول أي أفانينه.....[3]

     ومن خلال هذه التعاريف اللغوية نلمس اعتناء بالجانب الشكلي في" تنظيم أسطر النخيل و في  السير في الطريق الممتد واعتناء بالجانب الفني في ربط هذا التنظيم بأساليب الكلام و التفنن فيها"[4]، و كل ذلك في حقيقته يعني اعتناء المتكلم بأساليب كلامه و جعلها في أشكال مختلفة، يخرج فيها بهذا التنظيم عن القول العادي لا محالة.

     وترجع كلمة style الى الكلمة اللاتينية Stylus التي تعني الريشة أو القلم أو أداة الكتابة ثم انتقلت الكلمة من معناها الاصلي الخاص بالكتابة و استخدمت في فن المعمار وفن التماثيل ثم عادت مرة اخرى إلى مجال الدراسات الادبية  أو هي " آلة مستدقة  الرأس تستعمل الكتابة.[5]

      وقد كانت هذه الكلمة أيضا " تطلق أصلا على السمة الشخصية لخط اليد ثم استخدمت فيما بعد للدلالة على النوعية خاصة لرسم خطوط الكلمات المكتوبة، ومنها انتقلت إلى النوعية الخاصة للتعبير اللغوي لما هو مكتوب"[6].

     وهذا ما نجده عند أفلاطون خاصة وفي كتب البلاغة الإغريقية عامة ، فقد أدرجته  ضمن علم الخطابة وجٌعل من وسائل الاقناع التي تقوم على اخـتيار الكلمات المناسبة لمقتضى الحال وقد عــرفه أفلاطون بقوله: "الأسلوب شبيه بالسمة الشخصية " [7]

     ولم يدخل مصطلح أسلوب اللغات الأوربية الحديثة لا في القرن التاسع عشر حيث استخدم لأول مرة مصطلحا في اللغة الانجليزية عام 1846 ودخل القاموس الفرنسي مصطلحا – كذلك- عام 1872

2- مصطلح الأسلوب عند القدامى:

     إذا أردنا البحث في التراث البلاغي والنقدي عن الدرس الأسلوبي سنجده يبدأ مع الدراسات التي  قامت حول ( الإعجاز القرآني) فهذا القاضي محمد بن الخطيب الباقلاني يحاول إثبات تفرد النص القرآني حيث يقول: "إن نظم القرآن على تصرف وجوهه و تباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، و يتميز في تصرّفه عن أساليب الكلام المعتاد"[10]

        وتأتي آراء عبد القادر الجرجاني ( ت 471 ه) في مقدمة الآراء الأسلوبية في النقد العربي القديم، يقول "والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه"[12]، فالأسلوب هو الطرائق العديدة والمختلفة للكتابة أو القول الشعري ، والتي اصطلح عليها الجرجاني بالضروب ، وهي خاصة بكل شاعر وبكل نص شعري.

   وعرّف النظم /الأسلوب عند  ابن قتيبة بقوله:" فالخطيب اذا ارتجل كلاما لم يأت به من واد واحد، بل يتفنن فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرر تارة إرادة التوكيد ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين.[11]

3- مفهوم الأسلوب عند المحدثين العرب والغربيين:

      استقرت الدراسات الحديثة على تحديد مفهوم الأسلوب من زوايا ثلاث مختلفة متفاعلة في آن واحد : "تبعا لمراعاة المراحل الأساسية لعملية التوصيل الأدبية"[13] القائمة على مجموعة من العناصر أهمها: المرسل والمرسل اليه و الرسالة .أو المخاطب و المخاطب والخطاب كما يعرفها المسدي أو المنشىء والنص والمتلقي كما يسميها فتح الله أحمد سليمان.

       وقد مهّد عبد السلام المسدي لأهمية هذه العناصر في المنهج الأسلوبي عموما بقوله : "وإذا فض الباحث ما تراكم  من تراث التفكير الأسلوبي و شقه بمقطع عمودي يحرف طبقاته الزمنية اكتشف أنه يقوم على ركح ثلاثي ودعائمه هي المخاطَب والمخاطِب والخطاب وليس من نظرية في تحديد الأسلوب إلاّ اعتمدت أصوليا هذه الركائز الثلاث أو ثلاثتها متعاضدة متفاعلة"[14]، وانطلاقا من هذا التمهيد يمكن تحديد الأسلوب اصطلاحا من هذه الزوايا الثلاث:

1- الأسلوب من زاوية المخاطِب :

    المخاطب أو المنشئ للنص  الابداعي يعتبر المنظور الأول لتحديد الأسلوب " على أساس التوحد بين المنشئ وأسلوبه بحيث لا انفصال بينهما" [15] وهذا ما يذكرنا بقول الكونت دي بيفون الشهير (الأسلوب هو الرجل نفسه) والمقصود ها هنا أن الأسلوب فردي : أي أن " الرسالة اللغوية من حيث حدوثها تنبثق عند منشئها تصورا و خلقا و إبرازا للوجود"[16] لذلك يكون الأسلوب "صورة خاصة بصاحبه تبين طريقة تفكيره، وكيفية نظرية إلى الأشياء وتفسيره لها و طبيعة انفعاله فالذاتية هي أساس تكوين الأسلوب"[17].

     الأسلوب من هذا المنطلق هو أداة لإظهار الأحاسيس و العواطف التي تختلج قلب المبدع، وكشف لفكره بوساطة اللغة ، فالمعاني تتألف في نفس الكاتب أو المتكلم ثم تأتي اللغة لتظهرها إلى الوجود وبذلك يصبح الأسلوب كمرآة " كاشفة لمخبآت شخصية الانسان ما ظهر منها وما بطن، ما صرح وما ضمن"[18].

      والأسلوب هو " نغم الشخصية -على حد تعبير كلوديل- مثلما لصوت المرء نبرة لا تختلط بنبرة أصوات الآخرين، فكأنّ الأسلوب عندهم مطابق لعبقرية الأديب"[19] وهذا الارتباط الشديد للأسلوب بصاحبه سواء من حيث صورته الخاصة أو المعبر عن خلجات نفسه، أو المطابق لعبقريته، يسمح بالتعرف إلى أسلوب أي كاتب لأنه يصبح معروفا بشخصيته الأسلوبية ذات السمات المتميزة والتي بها يتميز عن نظائره من المنشئين.

     والأسلوب من ناحية المخاطب هو من جهة أخرى" اختيار واع يسلطه المؤلف على ما توفره اللغة من سعة ومن  طاقات "[20] ولابد أنّ هذا الاختيار الواعي نابع من سلطة المؤلف، لكنه متأثر بما يحيط هذا المبدع من أحداث، إضافة إلى أنه يراعي فيه حال المخاطبين وقدراتهم،

2- الأسلوب من زاوية المخاطَب :

     زاوية تقبل الرسالة الأدبية هامة و للمتلقي هنا دور كبير إذ: " ليس ثمة افهام أو تأثير أو توصيل بلا قاريء فهو الحكم على الجودة أو الرداءة و هو الفيصل في قبول النص أو رفضه"[21]. والمنشيء في علاقته بالمتقبل لا يريد حمله على: "فهم محتوى الرسالة فحسب بل على تقمص ثوب التجربة المنقولة عبر الخطاب كذلك "[22].           

     وفي علاقة الأسلوب بالمتقبل رأى رواد صناعة التحليل الأسلوبي أنّه يمارس "ضغطا مسلطا على المتقبل بحيث لا يلقى الخطاب إلاّ و قد تهيأ فيه من العناصر ما يزيل عن المتقبل حرية ردود الفعل"[23].

      وفكرة القوة الضاغطة تعمل في طياتها جزئيات هامة أولها التأثير وهي فكرة فضفاضة نظرا للحقل الدلالي الواسع لهذا المصطلح لكنه يحمل عند الأسلوبيين مفهومي الاقناع والامتاع "فجيرو يعتبر الأسلوب مجموعة ألوان يصطبغ بها الخطاب ليصل بفضلها إلى إقناع القارئ وإمتاعه و شد انتباهه وإثارة خياله "[24].

      أما الأسلوب عند ريفاتير فهو " إبراز بعض عناصر سلسلة الكلام و حمل القارئ على الانتباه إليها بحيث اذا أغفل عنها شوه النص وإذا حللها وجد لها دلالات تمييزية "[25]، ويرى استنادا لذلك أن الظاهرة الأدبية تستوي في علاقات النص بالقارئ لا في علاقات النص بالكاتب أو في علاقات النص بالواقع ، والقارئ المقصود هنا  هو "جملة ردود فعله المحتملة إزاء النص، ذلك أن الظاهرة الأدبية وليدة مباشرة القارئ للنص"[26]    

 3-الأسلوب من زاوية النص ( الخطاب ):

     يرى أصحاب هذا الاتجاه الثالث أنّ النص الإبداعي أو الخطاب هو الحامل الفعلي للأسلوب الأدبي، خاصة إذا أخذنا بفكرة موت المؤلف، وانفصال النص عن صاحبه لحظة انتهاء فعل الكتابة ، وهذا المفهوم الرابط بين (الأسلوب مفهوما والخطاب مصدرا لهذا المفهوم) يستمد هذا المفهوم مبادئه من المنظور اللساني للظاهرة الأدبية، والأسلوب من جهة الخطاب "موجود في ذاته يمتد حبل التواصل بينه وبين لافظه ومحتضنة لاشك ولكن دون أن تعلق ماهيته على أحد منهما"[28] ، وقد قامت هذه الرؤية على فكرة سوسير في وصفه لمستويي الظاهرة اللغوية: مستوى اللغة (LONGUE) ومستوى الخطاب (PAROLRE ) أو الكلام.

    والأسلوب هو" العلامة المميزة لنوعية الكلام داخل حدود الخطاب، وتلك السمة إنّما هي شبكة تقاطع الدوال بالمدلولات ومجموع علائق بعضها ببعض ومن ذلك كله تتكون البنية النوعية للنص وهي ذاته أسلوبه"[29]. وهذه البنية النوعية تقوم على خصائص انتظام المركبات للخطاب أي كما يرى يمسليف  Hjelmslev  في " الرسالة التي تحملها العلاقات الموجودة بين العناصر اللغوية [30].

    ويعتمد تكوين الأسلوب بالنظر إلى النص على أنه "نوع من الخطاب الأدبي المغاير للخطاب العادي"[31] وهو الخطاب الذي يعتبر جاكسون أنّه شكل تغلبت فيه الوظيفة الشعرية للكلام وهو ما يفضي حتما لتحديد ماهية الأسلوب بكونه "الوظيفة المركزية المنظمة لذلك كان النص خطابا تركب في ذاته ولذاته"[32].

     وعمل الأسلوبي انطلاقا من ذلك لا يعدو أن يكون تفكيكا للعناصر المكونة للخطاب في طريق العزل والضم ، والأسلوب يتحدد على أنه " توافق بين عمليتين: أي تطابق جدول الاختيار على جدول التوزيع مما يفرز انسجاما بين العلاقات الاستبدالية التي هي علاقات غيابية يتحدد الحاضر منها بالغائب والعلاقات الركنية وهي علاقات حضورية تمثل تواصل سلسة الخطاب حسب أنماط بعيدة عن العفوية والاعتباط"[33] ومهمة الناقد الأسلوبي بذلك هي البحث عن القيم التأثيرية لعناصر اللغة المنظمة، والفاعلية المتبادلة بين العناصر التعبيرية التي تتلاقى لتشكل نظام الوسائل اللغوية المعبرة وذلك على مستويين هامين هما الاختيار و الانزياح "والاختيار هو استعمال خاص للغة يقوم على استخدام عدد من الامكانات والاحتمالات المتاحة والتأكيد عليها في مقابل إمكانات و احتمالات أخرى "[34] أي أنه اختيار وحدات لغوية معزولة في مقابل وحدات أخرى يمكن أن تحل محلها و تؤدي دورها.

        أما الانزياح فلا يتم وجوده إلاّ في مقابل معيار يخرج عنه المبدع إلى مجالات أرحب تسمح له بالتعبير اصطلح المسدي وآخرون على تسميتهما "بالواقع الأصل والواقع الطاريء والنص بينهما  تجسيد  لغوي لكائن وانفتاح خارج اللغة على كينونته في الغياب، أي أنه هو ذاته علاقة جدلية بين الحضور والغياب لا في كليته فحسب بل على مستوى مكوناته اللغوية أيضا "[35]. وباجتماع الاختيار والتركيب يمتلك الكاتب أداة مهمة في الكتابة الأدبية ، غير أن حاجته إلى الانزياح تبدو أقوى لأنه الوسيلة الأهم للخروج باللغة من النمطية إلى الأسلوب الفني المتميّز .


Last modified: Wednesday, 27 April 2022, 12:33 PM