المحاضرة الثامنة : النقد التاريخي

افتتحت بوابة  العصر الجديد بالتنكر للأفكار الأسطورية  القديمة و استبدالها بالأفكار العلمية، باستدعاء الأدب إلى حقل العلوم التجريبية، ولعلّ من أشهر النقاد الذين ظهر لديهم التوجه العلمي التجريبي  في منهج دراستهم للأدب" سانت بيف" و " تين" و " برونستر"  ويكوّن هؤلاء الثلاثة  بعضهم بعضا.

فيعرض " سانت بيف" للشخصية الأدبية وتكوّنها عرضا بيولوجيا قائما على التحليل والربط بين شخصية الأديب وشعره وتكوينه الثقافي ومزاجه و أسرته، وما إلى ذلك من مختلف المؤثرات التي اشتركت في بنائه.

كما تعرّض  تين للعوامل الخارجية التي أثرت في النص الأدبي باعتباره ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر التي تقوم على عناصر مختلفة أو تكون نتيجة لعناصر مختلفة و اهم هذه العناصر : البيئة ، الجنس، العصر. كما تناول برونتيار جانبا آخر  هو دراسة الظاهرة الأدبية أو النوع الأدبي  دراسة تطورية على  طريقة " داروين" في دراسة الأحياء. ولا يكتف " طه حسن" بهذا المنهج العلمي لأنه - في دراسة الأحياء . ولا يكتف "طه حسين" بهذا المنهج العلمي لأنه - في نظره- لا يعني من كلّ ما يرجى من الدراسة الأدبية، ذلك أن الأدب يختلف في طبيعته عن العلم ، ولهذا ينبغي أن يضاف لهذا المنهج العلمي عنصر آخر شخصي يقوم على الذوق، فيقول" فتاريخ الأدب إذ يجب أن يتجنب الإغراق في العلم، كما يجب أن يتجنب افغراق في الفنّ، و أن يتخذ لنفسه سبيلا وسطا " ، وعلى ذلك، فعند التعرض لدراسة نصّ ما ينبغي المرور بالمراحل التالية : استكشاف النص  الأدبي وقراءته قراءة صحيحة ثم تحقيقه وضبطه . وهذه المرحلة تعدّ مرحلة  إعداد يشملها الجانب العلمي ، وتأتي بعد ذلك مرحلة التذوق، وتظهر فيه روح الناقد وستحتضنه فيقول :" أريد أن أدرس شعر أبي نواس، فانا مضطر أول الأمر إلى  أن أبحث عن هذا الشعر ، ولهذا البحث المنظم  قواعده و أصوله، فإذا وجدت هذا الشعر، فأضطر إلى أن  أقرأه و أحقق نصوصه و أقارن مقارنة علمية دقيقة النسخ التي تشتمل عليه، فإذا استخلصت من هذه النسخ المختلفة والنصوص المتباينة  نصا إنتهى  إليه بحثي و اختيار ، فأنا  مضطر إلى أن أقرأ هذا النص قراءة الباحث الذي يريد أن يفهم ويفسّر ويحلّل ويستخلص ما في هذا الشعر من خصائص لغوية أو نحوية أو بيانية ، فإذا أنا فرغت من هذا كله فاستكشفت النص وحققته وفسّرته واستخلصت خصائصه ومميزاته مستعينا في هذا بهذه العلوم المختلفة، فقد انتهى القسم العلمي الخالص من عمل المؤرخ للآداب، وبدأ القسم الذي أجتهد ما استطعت أن أحفف تأثير شخصي فيه،  ولكني أعتمد فيه سواء أردت أو لم أرد على الذوق ، وهذا القسم هو النقد".

أصول منهجه:

الأصول العامة : هناك أصول عامة ركّز عليها القول وكرّرها تكرارا بعضها متصل بالنقد والناقد، وبعضها متصل بمفهومه للدب ودوره وغايته والابعض الآخر متصل بأصول التعرف على الأديب وعلى النص الأدبي وما ينبغي أن يقوم عليه التحليل والنقد، ثم الحكم وما يراعى فيه.

المجتمع والبيئة: ونبدأ من الأصول التي يبني عليها " طه حسين" دراسة الأدبية ونقده بالمجتمع والبيئة و أثرهما في الأديب، ومدى تعلق الأديب ببيئته ووفائه لمجتمعه من حيث إلتزامه به أو تعاليه عليه . ثم يأتي  بمثالين : حول الأدب الأموي و الأدب العباسي ( شعر عمر بن أبي ربيعة) ، يقول طه حسين : ألفنا  أن ندرس الشعراء والأدباء ، فنبحث عن أشخاصهم و ربما ألهانا ذلك عن ألوان أخرى من البحث هي أعظم خطرا من أشخاص الشعراء، وهي ظروف البيئة التي يعيشون فيها ، فالشاعر أو الكاتب لا يستمد أدبه من شخصه وحده ، و إنما يستمد أكثر فنّه و أكثر شخصيته من أشياء أخرى ليس له حيلة فيها . وليس لطبيعته ومزاحه و فرديته فيها كل ما تظن من التأثير، و أكاد أقول  مع القائلين  أن الفرد نفسه ظاهرة اجتماعية، فصورته ععلى صورتها وصاغته على مثالها و أخضعته لمؤثراتها  التي لا تحصى ، فعنصر الفردية ضئيل لا يكاد يحسّ ، إلا أن يمتز هذا الفرد، وامتياز نفسه يردّه في كثير من الأحيان للحياة الإجتماعية التي أنشأته".

ويطبق هذا المنهج في دراساته على شعراء  الغزل الحجازي ، والشعراء العباسيين في " حديث الأربعاء" . ويقول  عند حديثه عن ّأثر  البيئة في شعر " عمر بن أبي ربيعةّ و " أبي نوار" ، فلست أعرف شاعرا إسلاميا استطاع أن يمثّل العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي كان يحيا فيها كهذين الرجلين اللذين نستطيع أن نتخذهما مرجعا في درس الجماعة التي كانت تحيط بهما ، تريد أن تدرس العراق في صدر الدولة العباسية، و أن تدرس بغداد أيام الرشيد والمأمون فارجع إلى أبي نواس ، تريد أن تدرس حياة الحجاز في صدر الدولة الأموية فأرجع إلى  أبن أبي ربيعة،  ففي شعره صورة لحياة شراف قريش، وصور من حياة المرأة العربية المترفة في القرن 1ه.

وعلى ذلك يرى " طه حسين" أن الأدب  صورة للحياة يمكن دراستها من خلال النص، وأشار سامي الدروبي في إحدى مقالاته إلى أن طه حسين أخذ في دراسته الأدبية ونقده لمنهج الإجتماعيين الفرنسيين ، وخاصة منهج" دور كايم".

ويقول محمد مندور : " ومنهج طه حسين في الدراسة الأدبية ليس منهج المدرسة الإجتماعية الفرنسية، بل هو أقدم منها ، لأنه يرجع إلى مذهب " تين"  وهو المذهب الذي فصّل أصوله هذا الناقد الفرنسي الكبير في المقدمة الطويلة التي كتبها تاريخ الآداب الإنجليزية وزعم فيها  أن  باستطاعة المؤرخ أن يفسّر آداب الشعوب و آداب الأفراد على ضوء الجنس أو العنصر أو البيئة والعصر ،  وبهذه العناصر الثلاثة حاول ان يفسّر اختلاف  الأدب الإنجليزي - مثلا - عن غيره من الأداب العالمية، كما يفسّر اختلاف نفس الأدب في عصر  عن عصر، وفي بيئة عن أخرى".

قضية النظر إلى الأدب العربي القديم :

 يناقش " طه حسين" الذين عابوا الأدب العربي القديم بأنه أدب لا يعبّر عن الحياة، فيقول :" فلا تقل أن الأدب لم يكن يصورّ الحياة، بل قل إنه لم يصبح مصور لحياتنا  نحن. وهنا تأتي المشكلة التي تورط فيها كثير من دعاة الأدب الجديد ... فهم يعيبون الأدب القديم جملة بأنه كان أدبا بعيدا عن الحياة و بأنه كان أدب ملوك و بأنه كان أدب إقطاع.

وينبغي إذن أن نعرض عنه .. و ان نمقته أشد المقت وننفر منه اعظم النفور ، وننشء لأنفسنا أدبا يلائم الحياة ، والحياة هنا هي حياتنا نحن التي نحياها هذه الأيام ، ولوحقق هؤلاء الكتاب  في عقولهم  هذا الذي يدّعون لأنكروه أشد الإنكار ، ولبرؤوا انفسهم منه أشد التبرئة ... فهم إنما يدعون لشيء يسير جدل هو أن نلغي القديم إلغاءا ، وجتث افنسانية من أصولها وننشء إنسانية جديدة تقوم على هذه الحياة التي تحياها الشعوب الآن".

وهكذا ترتبط الأعمال الأدبية بأسبابها  وعللها ، ولا يمكن الوصول إلى  نتائج موضوعية ما لم تحضر هذه العلل ، وهذا الأمر لا يتعلّق بالنقد التاريخي فقط، بل بالتاريخ بصفة عامة.


 

Modifié le: Tuesday 26 January 2021, 11:30