المحاضرة الخامسة :جماعة الديوان

جماعة الديوان وتاريخ نشأتها

جماعة الديوان أولى المدارس التي تشكلت معالمها في العصر الحديث استجابة لظروف العصر ومعطياته . و أول  سؤال يفرض علينا حول المصطلح في حد ذاته بين المدرسة و المذهب و الإتجاه ، فيذكر في المعجم المفصل في الأدب لأنه " لم يفرّق نقاد العصر الحديث بين المذهب والمدرسة  والإتجاه و رأوا أنها  نزعات وتيارات تعالج مظاهر الشكل ومضامين المعنى ، فمنها ما يميل إلى التجديد ومنها ما يرفضه ويتمسك بأهداب الماضي ، ومنها ما يقيس موضوعاته على القضايا المعاصرة، وبعض هذه المذاهب مادي ، وبعضها فني ، وثالث نفسي" محمد التونجي ص 777.

و الحقيقة  أن جماعة الديوان  مصطلح أطلق على الإتجاه الأدبي الذي إلتزم به  رواد هذه المدرسة وهم عباس محمود العقاد- ابراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمان شكري ، وذلك نسبة إلى  كتاب الديوان الذي أصدره العقاد والمازني سنة 1921.  فبعد أن قدّم شعراء الأحياء ما لديهم  أصبحت الحاجة ماسة إلى شعر آخر يخطو إلى مرحلة جديدة تتجاوز مرحلة الأحياء التي قادها البارودي.تتجنب; عيوب  الشعر الذي تحول إلى نظم للأغراض السائدة في شعر شوقي ، فتأسست مدرسة الديوان وهي مدرسة  أدبية نقدية حديثة، نشأت إثر صلات شخصية فكرية قامت بين أفرادها.

تعارف عبد الرحمان شكري و إبراهيم عبد القادر المازني في دار المعلمين العليا، وكان ذلك في حدود سنة 1906 ، و ازدادت عرى الصداقة بينهما  و أثمرت تشابها في الرؤيا والإتجاه لدرجة جعلت المازني يعتبر عبد الرحمان شكري أستاذا له في فن الشعر وفي النظر إلى الأدب الحديث وموجها له في قراءاته ومطالعاته في الأثار العربية والأجنبية. واستمرت المكاتبة بينهما طوال المدة التي قضاها شكري في انجلترا أثناء الدراسة .و في هذه الأثناء تخرّج المازني (1890-1949) من دار المعلمين وباشر مهنته التربوية، و أخذ ينمي معارفه ويتصل بالأدباء المعاصرين  وعلى رأسهم العقاد الذي بزغ  نجمه وذاع صيته  بين الأوساط الثقافية  بالقاهرة . و تشير الروايات إلى أن نشاط العقاد ( 1889-1964) في ال صحافة هو الذي كان السبب الرئيسي في التعارف بينه وبين المازني. فقد كتب العقاد في جريدة الدستور، سلسلة من المقالات تناول فيها بالدراسة شعراء فارس، و ما إن إطّلع عليها  المازني حتى أحسّ بالقرابة الفكرية بينه وبين العقاد، وتعرّف عليه سنة 1910م. ومنذ هذا التاريخ و "العقاد" و " المازني" لا يكادان يفترقان، وقد ازدادت  الروابط بينهما لما شاركا في تحرير جريدة البيان سنة 1911، كما  اشتغلا معا في صحف أخرى ، وفي سنة 1921م اشتركا في تأليف كتاب الديوان. وكل هذه الأسباب جعلتهما متلازمين حتى فر"ق بينهما الزمن بوفاة المازني سنة 1949م.

و أما  تعارف عبد الرحمان شكري و " العقاد" فيرفع الفصل فيه للمازني الذي لم يفتأ يتحدث في رسائله لشكري عن العقاد وعن اتجاهه الأدبي ونشاطه الثقافي . ممّا جعل عبد الرحمان شكري يكتب للعقاد رسالة من إنجلترا دون سابق معرفة ، وكان هذا التعارف الفكري بينهما مقدمة التعارف الشخصي ، إذ ما كاد شكري يعود إلى مصر حتى تمّ اللقاء بينهما، وكان ذلك في غضون 1913م  وبهذا اكتمل عقد جماعة الديوان وتشكل هذا الثالوث الذي سيكون رائد التجديد في الشعر العربي الحديث، هدفه الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة. والفصل بين عهدي المحافظين و المجددين .

وتعتبر وحدة الثقافة من العوامل الرئيسة التي قرّبت بين وجهات نظر أفراد جماعة الديوان فقد كان هذا الثالوث متمكنا من اللغة العربية، كما كان متقنا للغة الأنجليزية، ونظرة سريعة في آثار جماعة الديوان بعامة وإلى دراستهم عن مشاهير الثقافة خاصة الإنجليزية  تدلنا على أنّه كان لهذه الثقافة أثر حاسم في التقريب بينهم، وفي جعلهم يحسّرن  بأنهم في اتجاه واحد في الشعر والنقد.

الأصول الغربية  للثقافة عند جماعة الديون

لقد تأثرت جماعة الديوان بالرومانسية الإنجليزية في الروح ونظرتها إلى الحياة و موقفها من شعراء الجيل السابق عليها مباشرة، وهذه الحقيقة يمكن التأكد منها بالنظر إلى معظم الكتب التي تبحث في مذهب جماعة الديوان في الشعر والنقد، وقد اعترفت الجماعة نفسها بهذا التأثر وعدّته فتحا جديدا في الأدب العربي الحديث، وقد أشار العقاد إلى هذه القضية في كثير من الصراحة فبيّن أن تأثره وتأثر صاحبيه بالرومانسية الإنجليزية، إنما كان لتشابه في المزاج  واتجاه العصر كلّه ولم يكن تشابه تقليد وفناء"، ويرجع هذا التشابه في المزاج إلى إطلاع صاحبيه  على الأدب الإنجليزي والأمريكي  بين أواخر القرن 18م و أوائل القرن 19م. و اطّلع أفراد هذه الجماعة على أدب جون ستيوارت ميل، شيلي ، بايرون وارد زورث ، كولريج ... ويؤكد العقاد  أن هازليت هو إمام مدرسة جماعة الديوان كلها  في النقد ، لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون و أغراض الكتابة ومواضع المقارنة و الإستشهاد، و إذا كانت استفادة العقاد والمازني  كبيرة من النقد الإنجليزي، فإن  عبد الرحمان شكري كانت استفادته من الشعر فوق استفادته من النقد وفنون الكتابة الأخرى، وهذا ما يؤكده شعره العميق ذي الطابع القاتم  في معظم شعره. يقول شكري " إن الشاعرين اللذين تأثرت بهما في أول الأمر كانا  بايرون وشيلي ، أعجب ببايرون لقوة شعره وشيلي لطموحه إلى المثل العليا ، ومهما كان الأمر ، فإن هذا التأثر شيء ثابت لا يحتاج إلى مزيد  من الإيضاح، وقد كان في الروح أكثر  مما كان في الأفكار و الموضوعات، يقولون " و أقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي، إنساني لأنه  من ناحية يترجم  عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة، و لأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة، ومظهر الوجدان المشترك بين  النفوس قاطبة ، ومصري لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية، وعربي لأن لغته العربية ، فهو بهذه  المثابة أتم  نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت، إن لم يكن أدبنا الموروث في أعم ظاهرة  إلا عربيا بحتا يدير بصره إلى عصر الجاهلية " الديوان في النقد ( العقار والمازني).

مواطن التجديد عند جماعة الديوان:

انفصل النقد الحديث عن مرحلة البعث والأحياء، وبهذا اختلفت كل المفاهيم المتعلقة بالشعر والنقد معا، و أولى القضايا المطروحة، كانت حول:

أ- مفهوم الشعر: إذ تم هدم أول قاعدة تبناها زعماء الأحياء وهي ضبط الشعر بالقوالب الجاهزة والنماذج القديمة،وانتقل التركيز من الوزن والقافية إلى الوجدان والمشاعر، متأثرين بأفكار الثقافة الرومانسية الإنجليزية.

فيقول "هازليت" إمام المدرسة حسب إقرار العقائد في تحديد الشعر: إن أصدق تعريف يمكن أن يعرّف به الشعر هو الصورة الطبيعية لأي غرض أو حادته، فإن قوته تولد الخيال والعاطفة في حركة غير إرادية ..." ... وفي هذا التحديد ربط بين الإنسان ومظاهر الوجود وكيف عبّر الشعراء الرومانسية عن ذاتيتهم البارزة في شعرهم  عن الحياة الخارجية تعسرا صادقا.

ويتحقق هذا الشعور بالإحساس بالحياة ، جزئياتها وكلياتها، آلامها و آمالها ، أشكالها المادية والروحية - على حد سواء-.

والشاعر لا يقول شعرا إلا إذا شعر به ، وصدق في تعبيره :

يقول عبد الرحمان شكري :

إِن القلوبَ خوافقٌ      والشِّعْر من نبضاتها

فترى الحياة جميعها       منشورة بصفاتها

والشعرُ مرآة الحيا       ةِ تطلُّ في مرآتها

فالحياة مرتسمة على صفحة القلب، بل إنه لا يمكن إدراكها إلا من خلال الشعر الذي هو بمثابة المرآة التي نرى من خلالها الحياة، ونحسّ بها كما تخيلها الشاعر  " ومن هنا كان الشعر وكان الشاعر رسولي الحياة الحقة إلى  الإنسان الكامل .

فصورة الكمال  إذن تتحقق من خلال الشعر، وتعبير الشاعر عنه بصدق ، و لن يتولد هذا الشعور إلا إذا كان الإتصال وثيقا بالحياة بما تشمل من مظاهر.

و هو بذلك لا يعتبر عن شعوره الذاتي الخاص، بل عن شعور بهم الناس جميعا، بما يحقق الق....الإنسانية في الشعر، يقول المازني :" وما الشعر إلا صرخة حبسها  يرن صداها في القلوب كواتم"

ب- الخيال الشعري :

       يقول هازيلت :" إن الشعر هو اللغة الدقيقة للخيال ، والخيال هو تلك الملكة التي  تمثّل الأشياء كما هي في ذاتها ، ولكن كما تشكّل في أفكار و مشاعر أخرى متباينة، فقد اهتم الرمانطيقيون اهتماما شديدا بالخيال ، إذ يعرفه واردروزرت: أبذل ملكه في الإنسان"، ويرى كولريدج بأنه " القوة التي بواسطتها تستطيع صورة معينة  أو إحساس واحد أن يهيمن إلى عدّة صور أو أحاسيس ، فتحققت الوحدة فيما بينها بطريقة  أشبه بالصّهر"  فبضل الخيال نستطيع التمييز بين الأساسي و غير الأساسي من الصور  و الأفكار" لذا يقسم كولريدج الخيال إلى نوعين أولي  يوحد عند كل إنسان وهو محدود الأثر  في  النشاط الفني وثانوي يتجاوز النشاط الأول إلى الخلق و الإبداع والتجديد . وقبل أن نبيّن موقف شكري  من القافية ، لا بد و أن نذكر  بالعبارة الموجزة التي  قالها العقاد مبديا رأيه فيه ، يقول " فالنظر إلى الدنيا  لن يتسع  ولن يتضح ولن يكمل إلا بخيال كبير ، يستوعب  ما يراه ، ويقيس ما غاب على ما حضر وما يمكن على ما أمكن ، وما يتمخض عنه المستقبل على ما درج  في .....الزمان".

إذن إنّ النظر إلى الدنيا نظرة كمال تتوقف على مقدار الخيال من حيث سعته. بل إن الخيال ملكه يفهم بها الشاعر ما وراء الواقع.

فشكري يتفق مع صاحبيه في النظر إلى الخيال، ولكنه يركز على شيئ هام و هو ضرورة التمييز بين الخيال و الوهم ، وفي ذلك  يقول :" التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات  التي بين الأشياء والحقائق ، والتوهم هو أن يتوهم الشاعر صلة بين شيئين لا وجود لها " ، ويقول:" إن تكلّف الخيال أن تنبئ به كالسراب الخادع، فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد، وكاذب إذا تطرق إليه من قريب" . فالخيال الصحيح  يعين على اكتشاف الحقيقة ، وهو الهدف الذي حددته الرومانسية للشاعر.

وظيفة الشاعر:

إن الشاعر يوقظ المشاعر والحواس، ويدرب القارئ على التدبر في شؤون الكون والحياة ويعبّر عن آلام وآمال الشعب ، ومن خلال هذا التعبير عن الحاضر ينظر إلى المستقبل و إلى ما ينبغي أن يكون ، فهو لا ينظم لعصر معين ، و إنما ينظم لكل عصر ، يظل يتنبأ حتى تبلغه يد المنون، بل إن " كل شاعر عبقري خليق  بأن يدعى متنبأ ، أليس هو الذي يرسي مجاهل الأبد بعين الصقر، فيكشف عنها غطاء الظلام،ويرينا  من الأسرار الجليلة ما يهابه الناس، فيغري  به أهل القسوة و الجهل" و كم كانت الآمال طويلة حسب ما فرضته الواقع، لكن ليس في الوجود ما  ما يحرّك نفس الشاعر مثل  مشاركته آلام الغير، فالنفس كالبحر يوهم الناس بسكوتنه، فإذا ما هبت عليه الرياح، تلاطمت أمواجه. و الشاعر الحق الذي يستطيع التمييز بين مختلف الأحاسيس التي تثور في نفس الإنسان ويتجاوب معها ، لكن يبقى الإحساس بالأمل رهن الواقع المرير.

تشكيل الصورة الشعرية :

 تتشكل الصورة الشعرية التي يصوغها لبّ الشاعر ، من وسائل التصوير الشعري والإحساس واحد منها ، فهو يساعد الشاعر على تحويل الرموز إلى صور حيّة، بيد ان هذتا الإحساس ينبغي أن يكون مصحوبا بالتدبير و التأمل . فالإنسان يفكر حين يحسّ ويحس حين يفكر وقد إعتمد الشاعر الرومانسي على مجموعة من الصور الفنية التعبيرية الإيحائية ، من خلال توظيفه لصور  التشبيه و الإستعارة  والكناية ، ذلك أن اللفظ لا ينظر إليه حسب قيمته في ذاته ، بل حسب ما يوحي إليه ( الرمز).

يقول العقاد:" الألفاظ نوع من اختزال المعاني ، تشير إلى ما يمكن وروده منها على اللسان ، أو هي رموز يقترن كل منها بخواطر وملابسات، تتيقظ في  الذهن  متى طرقت ذلك اللفظ". وما نستشفه من هذا القول هو أسبقية المعنى على اللفظ وقد ورد في الديوان "فأعلم  أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددّها و يحصي أشكالها و ألوانها ، و أن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا تشبه و غنما مزية أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به ".

ومجمل القول أن جماعة الديوان اهتمت بالشعر و النقد، تأثر روادها بالحركة الفكرية في إنجليترا، فتمكنوا من الثقافتين العربية و الإنجلزية، ففي مجال النقد اشترطوا الطبع و الذوق والإبتعاد عن التكلف وتقسّم العمل بعد القيام بتحليله وتفسيره ، وكذا الإهتمام بالمضمون أولا و الشكل ثانيا.

وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره : فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس ، فذلك شعر القشور والطلاء ، و إن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيّا ووجدانا  تعود إليه المحسوسات ، كما تعود الأغذية إلى الدم ، ونفحات الزهر إلى عنصر المطر ، كذلك  شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية" الديوان ص 21.

وفي مجال الشعر ركزوا اهتمامهم على الموضوعات الجديدة المسايرة للواقع ، فظهرت ذلك أنواع جديدة للشعر، كما جددوا في الموسيقى و أكدوا على وحدة البنية، فتميز شعرهم بالهروب من عالم الواقع إلى عالم الأحلام و الأخلية . وراحوا يتأملون في الكون ويتعمقون في أسرار الوجود ليعبروا عن تجاربهم الشعرية الصادقة وعن نزعاتهم الإنسانسة، بالإتجاه إلى الذات الفتنة في لإنشائهم و توظيفهم للخيال الشعري و أساليب  التصوير المتنوعة.


 

آخر تعديل: Tuesday، 26 January 2021، 11:13 AM