المحاضرة الرّابعة: إرهاصات التّجديد في النّقد العربي الحديث

      الحديث عن إرهاصات التّحديد مرتبط بالعودة إلى إحياء التّراث العربي القديم، فإرادة التّغيير وممارسة هذه الإرادة ولدت من رحم القديم، فالرّواد الّذين نادوا إلى الإحياء هم أنفسهم راحوا يدعون إلى ضرورة التّغيير لمسايرة العصر، وأحمد شوقي أكبر دليل على ذلك، إذ بدأ إحيائياً وانتهى مجدّداً، (وفي مسار التّجربة الشّعرية الجزائرية، نذكر "رمضان حمود" الّذي انطلق من واقع الأدب الجزائري)، وما اتّجاهه إلى الشّعر الحرّ إلّا استجابة طبيعية لما أحسّ به الشّعراء الشّباب من مظاهر الكبت السّياسي والجمود الاجتماعي والدّيني، إنّه يعبّر عن تمرّد أصحابه وتحرّرهم من المفاهيم السّائدة، وبما أنّ الشّاعر ذو حسّ مرهف، كان أوّل النّاس شعوراً بإرادة التّغيير، وبقدر ما كان متحرّراً من القافية والوزن، بقدر ما كانت روحه متحرّرة، رافضة للوجود الاستدماري والجمود الأدبي، ولعلّ الدّافع الأساسي نحو التّجديد هو حالة ذاتية نفسية متمثّلة في الشّعور بالاضطهاد، الّذي عبّر عنه الشّاعر بالتّمرد على الأطر والقوالب الجاهزة، ومن المعروف أنّ الشّعور بالفردية ومحاولة إثبات الذّات من أهمّ ما تميّزت به النّفس الرّومنسية، فبنوا قصائدهم على المعنويات الوجدانية والنّغم الحادّ الحزين، والخيال والتّجربة الّتي تشبع الحواسّ لذّة وانفعالاً، وهكذا تعايشت الرّومنسية مع الحداثة وظلّت تظهر معها بين حين وآخر لكي تتجاوزها في كلّ مرّة، وكانت هذه التّجاوزات تأخذ أشكالاً مختلفة تجلّت في نمطين: التّناظر والمفارقة. التّناظر بصفته نظاماً للتّواصلات ورؤية اللّغة بصفتها بديلا عن الكون، وهذه فكرة قديمة جدّا أُعيدت صياغتها على يد الأفلاطونية الجديدة في عصر النّهضة. وبعد أن أفادت منها المذاهب الفلسفية في القرن الثّامن عشر تلقّتها الرّومنسية وما تلتها من مدارس، أمّا المفارقة فهي خرق في آلية التّناظرات وانقطاع في تيّار التّواصلات، فإذا كانت رؤى التّناظر كمروحة تكشف حين تُفتَح عن التّشابه بين مجموعة من العناصر بين العالَمين الصّغير والكبير، فإنّ المفارقة تقوم بتمزيق هذه المروحة إرباً لإعادة تشكيلها من جديد، ولها أسماء عدّة، فهي خروج عن القياس، استثناء، أو غريب كما يسمّيها "بودلار"، وما دامت الرّومنسية ابنة عصر النّقد وكان التّغيير مسؤولاً عن ولادتها فإنّ هذا التّغيير مسّ مفهوم التّجربة الشّعرية، وفي هذا يقول رمضان حمّود ملمّحاً للمقلّدين:

فَقُلْتُ لَهُمْ لَمَّا تَبَاهَوْا بِشِعْرِهِمْ           أَلاَ فَاعْلَمُوأ أَنَّ الشُّعُورَ هُوَ الشِّعْرُ

      ونجد جذور هذه النّظرة عند أنصار الرّومنسية الغربية الفرنسية في الطّليعة. وإذا تقفّينا مسيرة الشّعر وجب علينا الوقوف عند التّجربة الشّعرية الحداثية في الجزائر، ممثّلة في الشّعر الحرّ مع "أبي القاسم سعد الله" و"رمضان حمّود"... رغم أنّ دعوة "رمضان حمّود" للتّجديد لم تكن سهلة، ذلك أنّ الظّروف الاجتماعية والسّياسية والثّقافية لعصر "حمّود" لم تساعده على تقبّل هذه الدّعوة، لأنّ الواقع كان يتنفّس في جوّ كلاسيكي صارم، وبعد مسيرة شعرية ونقدية أثبتت النّماذج الشّعرية المقلِّدة تقليداً أعمى عدم جدواها في عصر صار يفرض الجديد، فظهرت أسماء لامعة في دائرة التّجديد، مسجّلة مدوّناتها في تاريخ الأدب العربي.

إرهاصات التّجديد عند العرب:

      إنّ أولى اللإرهاصات كانت مع ضرورة الانفتاح على ثقافة الآخر بعد الانطلاق من النسّيج على منوال العبّاسيين، فـ"البارودي" – مثلا- لم يتمثّل العناصر البدوية القديمة فحسب، بل تمثّل أيضا صورتها المجدّدة في العصر العبّاسي، وتمثّل معها أيضاً ما أضافه إليها العبّاسيون من عناصر حضارية جديدة. وبعد مسيرة أطوار من الشّعر والنّقد، تمثّل هذا التّجديد بأشكال أخرى، فيها دعوة إلى ضرورة الاطّلاع على ثقافة الغرب، وتجلّت هذه الجهود فيما كتبه النّقاد من مقالات يدعون من خلالها إلى ضرورة التّغيير. فكتب "نجيب شاهين" في مقال "الشّعراء المحافظون، والشّعراء المصريون": «لا تكاد ترى واحداً في المئة يحاول مجاراة العصر، ونبذ القديم واقتباس الجديد، وتقليد الشّعراء العصريين من الأمم الأخرى، والسّبب في ذلك اقتصار شعرائنا على درس الشّعر العربي، وعدم الاحتفال بدرس الشّعر الأجنبي، وتبقى الأسباب غير واضحة، وهنا نتساءل: ألعدم تمكّنهم من الآداب الأجنبية عزفوا عن الانفتاح على ثقافة الآخر؟ أم لأنّهم يرفضون رفضاً قاطعاً وبتعصّب كلّ ما يتعلّق بالثّقافة الأجنبية؟».

رواد التّجديد في العالم العربي:

      تنسب بدايات التّجديد إلى مجموعة رائدة في مسار القصيدة العربية الحديثة، وعلى رأسهم الرّومنسية "خليل مطران"، شاعر الطّبيعة و"عبد الرّحمن شكري" الّذي بدا تأثّره واضحاً بالرّومنسية الإنجليزية في أشعاره لاطّلاعه على كتابات زعماء الخيال الإنجليز، وعلى رأسهم "بايرون"، "شيللي"، "كولراج"، "هازليت"، "واردزورث"،... فعبّرت أشعاره عن هذا التّأثر، وفرضت سماتٍ ينطلق منها الشّاعر لتحقيق صورة الكمال. ولعلّ التّجديد الّذي تمّ على مستوى النّقد كان استجابة مباشرة للتّغيير الّذي طرأ على القصيدة الحديثة، سواء من ناحية المضمون، ممثّلا في الموضوعات أو من النّاحية الشّكلية ممثّلة في الوزن والموسيقى. وهذا التّجديد على مستوى النّقد غيّر من وظيفة النّاقد الأدبي ومن سمات النّقد الأدبي ومظاهره، فوظيفته كما وضّحها الدّكتور "طه حسين" تتجلّى في وجوب التّمرد على التّبعية، والميل للتّذوق والمقارنة من خلال إتقانه لعلوم اللّغة والبيان والتّاريخ ومناهج البحث، يعتمد على الحسّ الدّقيق المرهف والذّوق المهذّب، وإذا تمعّنا جيّدا هذا القول لمحنا الفرق الجوهري بين مَهمّة النّاقد التّقليدي ومهمّة النّاقد الحديث، وخلاصة القول من خلال ما تطرّقنا إليه من إرهاصات التّجديد في العالم العربي أنّ التّمكن من التّراث العربي القديم ثمّ الانفتاح على ثقافة الآخر من الطّرق المنهجية الصّحيحة الّتي ينبغي الأخذ بها للسّير حثيثاً إلى الأمام، فـ"البارودي" –مثلا- عندما واجه معطيات عصره لم يستطع أن يستوعبها إلّا في إطار موروثه وبعثه للشّعر لا يزال حتّى اليوم أعظم تجديد في حياة الشّعر العربي، هذا فضلا عن أنّ شعره يعدّ إرهاصاً للحركات الّتي تلته، فكان استجابة لبدايات تلك المرحلة الحضارية، الّتي أخذ المجتمع يجتازها حين ذاك، والّتي وعى فيها الفرد النّقلة النّوعية من القديم إلى الجديد، فجعلها محوراً لأدبه. ثمّ إنّ الانفتاح على ثقافة الآخر في ظلّ المحافظة على التّراث العربي القديم من أساسيات القيام بمشروع نقدي عربي، يعبّر عن هويّتنا وثقافتنا، والمحافظة على التّراث لا تعني التّقيد التّام بالنّماذج العربية القديمة في عصر نبحث فيه عن سبل جديدة. وكانت جهود المدارس الشّعرية والنّقدية (الدّيوان، أبولو، والمهجر) تتّجه نحو التّحرر والتّغيير والتّجديد للتّعبير عن الرّاهن مسايرة لمعطيات الواقع الجديد، وهذا ما سنتطرّق إليه في المحاضرات القادمة.

أهمّ المراجع:

1)  حسين الحاج حسن، النّقد الأدبي في آثار أعلامه، المؤسّسة الجامعية للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1996.

2)  دخيل الله حامد أبو طويلة الخديدي، الرّؤيا الجديدة للنّقد والشّعر عند عبد الرّحمن شكري.

3)  سامي منير عامر، وظيفة النّاقد الأدبي بين القديم والحديث، دراسة في تطوّر مفهوم التّذوق البلاغي، دار المعارف، جامعة الإسكندرية، 1984. 

4)  محمّد النّاصر العجيمي، النّقد العربي الحديث، مدارس النّقد الغربية، دار محمّد علي الحامي، سوسة، ط1، 1998.

5)  محمّد صايل حمدان، قضايا النّقد الحديث، دار الأمل للنّشر والتّوزيع، الأردن، ط1، 1991.

6)  محمّد صلاح زكي أبو حميدة، دراسات في النّقد الأدبي الحديث، جامعة الأزهر، غزّة، د ت، دس.

7)  محمّد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنّقد، دار نهضة مصر للطّبع والنّشر، القاهرة.

نصوص وتطبيقات:

1)  انطلاقا من إرهاصات التّجديد في العالم العربي، أين تكمن الفروق الجوهرية بين النّقد القديم ومهمّة النّاقد الجديد؟

2)  استند على مدوّنة شعرية للشّاعر والنّاقد "رمضان حمّود" محدّداً مكامن التّجديد في شعره .

 

Last modified: Tuesday, 26 January 2021, 10:58 AM