المحاضرة الثّالثة: النّقد الإحيائي

      قبل الحديث عن النّقد الإحيائي، لا بدّ وأن نمهّد أوّلاً بالحديث عن الأدب الإحيائي، إذ كان سيّد الشّعر في أطوار، أوّلها: الطّور التّقليدي الّذي ينقسم بدوره إلى اتّجاهين: طور التّقليد المتأثّر بالانحطاط وطور التّقليد العبّاسي.

      وقبل أن نناقش سمات هذين الاتّجاهين، لابدّ وأن نشير إلى أنّ الطّور التّقليدي كان طور بحث وإيقاظ، وما يلفت نظرنا هو مصطلح "بعث" المرتبط بإحياء التّراث العربي القديم، وقد هدفت حركة الإحياء (1850-1914) إلى الرّجوع إلى التّراث العربي القديم بصورته الزّاهية الّتي كان ينسج عليها فحول المتقدّمين.

      وما ميّز التّقليد في طوره الأوّل طغيان آثار الانحطاط، مما انعكس على نفسية الشّعراء، إذ كان حافلاً بالإجحاف والرّكاكة في التّعبير. والسّؤال المطروح: لماذا تميّز الشّعر بهذه السّمات، وقد كان الطّور التّقليدي طور بحث وإيقاظ؟

      لقد كانت النّهضة في أوّل أمرها نهضة تحصيلية، إذ انصرف النّاس إلى تحصيل العلوم والثّقافة، فلم ينل الشّعر الرّقي، خاصّة وأنّ آثار الانحطاط عالقة به، فما كان إلاّ همزة وصل بين الانحطاط والنّهضة، فانشغال النّاس بتحصيل العلوم وعدم الاطّلاع الكافي على أساليب الغرب وافتقاد الملكة العربية، كلّ هذه العوامل أدّت إلى تميّز الشّعر بالضّعف والإسعاف. ولم يمسّ الضّعف سمة الشّعر فحسب، بل إنّنا نلمس تقصيرا من ناحية الأغراض أيضاً، فشعراء تلك الفترة – في الأغلب – كانوا شعراء للأمراء، إذ انتشر شعر المناسبات في التّهنئة، أو التّأريخ له أو مسجد وما إلى ذلك، فطغت عليه صفة التّكسب.

      إنّ مخلّفات الانحطاط بادية في شعر هذا الطّور، كالتّخميس والألاعيب البديعية والنّحوية، والتّقليد في حدّ ذاته أضعف في شعرهم الابتكار والشّخصية الّتي امّحت من جرّاء تتبّع أساليب القدامى ومعانيهم وأغراضهم دون الحياد عنهم، وكأنّنا في زمانهم وبيئتهم بتأثير من الماضي القريب، رغم أنّهم حاولوا الارتقاء والتّقدم، إلاّ أنّ الرّقي ظلّ أسراً بأغلال القديم.

      وكان لابدّ من إدراك سرّ التّقهقر، تماماً كما أدرك الشّرق للوهلة الأولى سرّ الضّعف الّتي وصل إليه، فراح يعمل جاهداً على رفع مستوى الشّعر، ولم يحدث ذلك التّحول من طور التّقليد المتأثّر بالانحطاط إلى طور التّقليد العبّاسي حتّى مسّ الرّقي جميع الأحوال والمظاهر، وحتّى توفّرت عوامل الثّقافة، وتمكّن الأدباء من اللّغة العربية، فتمكّنهم منها ساعدهم على إدراك سرّ تقهقرها.

      كما أنّ الاطّلاع على شعر النّوابغ كان أحد العوامل المساعدة على فتح حلقة التّواصل بين ناشئة الشّعراء ومن سبقهم، لكن من خلال التّقليد دائماً. ولاسيما الشّعراء العبّاسيين، فتميّزت أشعارهم بـ: الدّقة في الشّعر وحدة المعاني وثرائها وقوّتها والصّفاء في الأسلوب، وفي اللّغة الشّعرية، لكنّ آثار الانحطاط ما تزال عالقة بشعرهم، لم يتسنّ لهم التّخلص منها تمام التّخلص، ممّا أدّى إلى تداخل زمنين في زمن واحد وكان الأجدر أن يعبّر كلّ شاعر عن بيئته وزمانه وعن حاجات النّفوس ممّا خلق إشكالية جدلية بين تتبّع الشّاعر لأساليب ومعاني وأغراض الشّعر القديم تتبّعاً كلّياً، لا نلمس فيه روح الإبداع والابتكار، فانعدمت بذلك دلالة الشّعر الحقيقي على حدّ تعبير "رضا الفاخوري": «إنّ الشّعر بهذه السّمات الّتي اتّسم بها لا يدلّ على نهضة حقيقية تنتج الشّعر الإنساني» كأنّما هو قطعة من أدب عصر آخر وصورة لأصل غبر وذهب. وبين أن يحاكي الشّاعر الأقدمين ويعمل جاهداً على الاندماج في عصره، وهذا ما جعل الباحثون يحكمون بريادة البارودي للشّعر الحديث، أحيانا وبريادة مدرسة البعث والإحياء أحياناً أخرى، وشتّان بين الحداثة والإحياء، لذا اختلف الدّارسون والنّقاد حول أمور كثيرة في البارودي، فهل هو شاعر مطبوع أم مصنوع؟ وهل شعره تصوير لحياته أو تعبير عن تجاربه، وهل الجديد عنده هو الأسلوب الجزل والدّيباجة البدوية أم نزوعه إلى تصوير الواقع كما هو في بساطة وسلاسة وقوّة، ون اعتماد محسّنات اللّفظ البديعية ودون إغراب في الخيال؟ وهل معارضاته للقدماء تنمّ عن استقلالية أم عبودية؟ وهل شعره تراثي أم جدالي؟ وهل جدّد في الأغراض والموضوعات، أم جدّد في الأساليب واللّغة؟ وهل صوره نتاج رؤيته ومعاينته للواقع والحياة، أم نتاج قراءاته؟ وهل تعدّد الأغراض في القصيدة عنده دليل تجديد أم تقليد؟ وخلاصة كلّ هذه الأسئلة: هل كانت رسالته تجديد الشّعر العربي أم بعثه من مرقده؟ وهل في شعره فلسفة خاصّة أم أنّه يردّد ما قاله القدماء في أقوالهم؟ تلك وغيرها من التّساؤلات ظلّت تتردّد حول البارودي منذ القرن التّاسع عشر حتّى يومنا هذا، ومازلنا نقرأ البارودي قراءات متباينة، ونخرج بنتائج متباينة، وما تزال الأحكام والآراء الّتي قال بها النّقاد تشكّل مرجعية لكلّ باحث في هذا الموضوع.

إنّ هذا الشّاعر الّذي أعادنا إلى العصور الذّهبية وذكّرنا بفحول الشّعراء العرب من المعرّي إلى المتنبّي إلى الشّريف الرّضي إلى أبي تمّام إلى البحتري إلى أبي نوّاس إلى مسلم بن الوليد إلى بشّار بن برد... فراح يعارضهم ويتمثّل قصائدهم وتجاربهم، ويعيد لنا معاجمهم الشّعرية، وأساليبهم ومعانيهم وصورهم وقوافيهم وأوزانهم، وكأنّه واحد منهم، معتمداً الاستعداد النّفسي والفطري متمثّلا في نقاء ذهنه وحفظه لجيّد الأشعار.

ممّا دفع النّقاد إلى الحكم عليه بأنّه: «حاكى القدماء في أساليبهم وأغراضهم فبلغ به التّقليد حدّاً نسي معه أنّه في مصر وليس في نجد، وأتى بشعر جاهلي الرّوح والمعاني... وأنّ أغلب شعره ينطلق بالمحاكاة للقديم، وأنّه تراث كامل، وليس فيه شيء من المعاصرة إلّا في اليسير، الّذي لا يضعه في صفّ من مهّدوا للعصر، لأنّ المعاصرة ليست مفردات ولا إشارات، وإنّما هي نوع من الرّؤيا.

ويبيّن لنا "أحمد حسن الزّيات" هذا الفضل بقوله: «إن كان لامرئ القيس فضل في تمهيد الشّعر وتقصيده، ولبشّار في ترقيته وتجويده، فللباريودي كلّ الفضل في إحيائه وتجديده».

وخلاصة الرّأي فيه أنّ شعر البارودي يعدّ إرهاصاً للحركة ولمساتها المميّز، وقد نبعت من ظروف شخصية أحاطت بالشّاعر، لكنّها في نفس الوقت استجابة لبدايات تلك المرحلة الحضارية الّتي أخذ المجتمع يجتازها حينذاك، والّتي وعى فيها الفرد للنّقلة النّوعية من القديم للجديد فجعلها محوراً لأدبه.

والقول بالصّورة الجديدة هو تأكيد على أنّ النّهضة كانت نهضة فكرية، أساسها العقل والوعي بالواقع والماضي والسّعي لبناء مستقبل أفضل، ولم يتحقّق ذلك بسهولة، ففي الأدب الإحيائي – مثلا – ظهر البارودي في زمن كانت فيه اللّغة العربية تحاول جاهدة إثبات ذاتها واستعادة ألقها وتخليص وجهها ممّا علق بها من غبار الوهن والرّكاكة الّتي فرضتها قرون من الضّعف والتّردي والتّسلط الأجنبي، في زمن – أيضاً- كان فيه جلّ الشّعر المصري يرفل في ثياب الصّنعة والمحسّنات ويخوض ببحر التّزلف والنّفاق، أدواته المبالغة والتّزييف والكذب، ولغته ضعيفة وأساليبه متهالكة ومعانيه وصوره سقيمة ومتبذلة، ولم يحدث ذلك التّحول من طور التّقليد المتأثّر بالانحطاط إلى طور التّقليد العبّاسي، حتّى مسّ الرّقي جميع الأحوال والمظاهر، خاصّة – الثّقافية- ومثلما كانت هناك عوامل مثّلت أسباب النّهضة في العصر الحديث، ومنها نذكر:

‌أ)      الحملة الفرنسية 1798، والّتي كسرت سور العزلة عن مصر؛

‌ب)  ظهور المطبعة الّتي اهتمّت بطبع ونشر التّراث العربي؛  

‌ج) إحياء التّراث العربي القديم من خلال السّير على نهج القصيدة العربية القديمة؛

‌د)    الاتّصال بالثّقافة الأجنبية، وذلك عن طريق اتّجاه "محمّد علي" إلى أوربّا وإرسال البعثات إليها، وعودة البعثات من فرنسا لتعليم وتوعية الشّعب المصري.

كانت هناك عوامل – أيضاً- ساعدت رواد الإحياء، وخاصّة منهم البارودي، هذا الشّاعر الّذي أعادنا إلى العصور الذّهبية للشّعر العربي، وذكّرنا بفحول الشّعراء العرب من المعرّي إلى المتنبّي إلى الشّريف الرّضي إلى أبي تمّام إلى البحتري، إلى أبي نوّاس إلى مسلم بن الوليد إلى بشّار بن برد. فراح يعارضهم، ويتمثّل قصائدهم وتجاربهم، ويعيد لنا معاجمهم الشّعرية وأساليبهم ومعانيهم وصورهم وقوافيهم وأوزانهم، وكأنّه واحد منهم، معتمداً الاستعداد النّفسي والفطري، متمثّلاً في نقاء فكره وحفظه لجيّد الأشعار، ممّا ساعده في مهمّة تصحيح مفهوم الشّعر، مختزلاً ذلك في هذا التّصور: «وبعد، فإنّ الشّعر لمعة خيالية، يتألّف وميضها في سماوات الفكر، فتنبعث أشعّتها إلى صحيفة القلب، فيفيض لؤلؤها نوراً، يتّصل خيطه بأسلة اللّسان، فينفث بألوان من الحكمة، ينبلج بها الحالك، ويهتدي لدليلها السّالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه وائتلفت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليماً من وصمة التّكلف، بريئاً من التّعسف، غنياً عن مراجعة الفكرة. فهذه صفة الشّعر الجيّد، وللشّعر رتبة، لا يجهلها إلّا من جفا طبعه ونبا عن قبول الحكمة سمعه. إذن لقد كانت المدرسة الكلاسيكية والتّقليدية، صدى لهذا التّفكير عند الإنسان الغربي الّذي أراد التّأسيس للحضارة انطلاقاً من عتبة القديم، وفي المقابل ظهر في العالم العربي ما يشيب التّأثر بالآخر، من خلال ما وصل إليه تيّار النّهضة في العالم الغربي، فظهر – كما أشرنا سابقاً- ما يسمّى بالمدرسة الإحيائية بالعودة إلى التّراث العربي القديم، هذه العودة كانت موقفاً صادراً عن روح قومية، كانت تدفع الشّاعر إلى نظم الشّعر، والتّعبير عمّا يختلج في صدره من مشاعر إنسانية فيّاضة، رغم انّه لم يجدّد في أغراض الشّعر الّتي عرفها – خاصّة- شعراء العصر العبّاسي إلى حدّ ذهب القول فيه نقدياً أنّه بلغ به التّقليد حتّى نسي أنّه في مصر وليس في نجد، فالتحمت نفسه بأسلافه الأوّلين التحاماً جعله يتحدّث عن الدّمن والأطلال بلسانهم وبنفس أوصافهم ونسيبهم. ومع ذلك – كما ذهب فريق آخر من النّقاد- «إذا لم نستطع أن نحسب له تأصيل ضرب جديد من ضروب الخلق الشّعري، كما فعل شوقي من بعد في مقام المسرح الشّعري، وإذا لم تتمكّن من رصد تغييرات جذرية، تضاف إليه فيما يتعلّق ببنية القصيدة، وجماليات التّصور والرّموز والأقنعة، كما فعلت مدرسة الشّعر الجديد في حقبة تالية، فلا ننسى أن نحسب له طاقته الفذّة على إحياء الشّعر العربي وردّ الرّوح إلى كيانه الذّابل – وما شرّه إن لم يكن رائداً على صعيد الخلق والتّغيير، ما دامت رسالته لم تكن تجديد الشّعر العربي، بل كانت بعث الشّعر العربي من مرقده، وتمزيق الأكفان الّتي احتوته مئات السّنين».

وهكذا كانت بداية الانطلاق بناء نهضة عربية صعبة جدّاً في ظلّ ظروف قاسية، وهذا ما ينطبق أيضاً على ظروف النّقد الإحيائي. ومن هنا نطرح الأسئلة التّالية: ماذا يقصد بالنّقد الإحيائي، رواده، خصائصه،...؟

1)  في مفهوم المصطلح:

قبل الحديث عن مفهوم العام للمصطلح، لابدّ وأن نشير أوّلا إلى أنّ معنى الإحياء لغة هو عودة الحياة إلى الجسد بعدما فارقته، وأدبياً هو الرّجوع إلى مرحلة القوّة والازدهار بعد فترة الضّعف والتّخلف في العصور السّابقة، وما ذُكر في المعاجم يؤكّد هذا المفهوم، ففي معجم المفصّل في الأدب، ذكر "محمّد التّونجي" أنّ الأدب العربي ركد وتحجّرت عقلية كثر من أدبائه ولغوييه، فظنّ المفكّرون أنّ إعادة الحياة إلى جسم الأدب عدّت من المستحيلات بعد غفوة دامت خمسة قرون، تحت نير العصر العثماني، لكنّ رياح الثّقافة الغربية هبّت على الشّرق فأحبّت مواته، وأعادت الحياة إلى جذوره اليابسة، فثبتت فروعه بدعائم راسخة، وخالف لفيف من الأدباء على الأدب العربي، من هجمة الغرب أن تذوب شخصيته وتزول معالمه، وحين استيقاظ رجال الفكر في عصر النّهضة من سباتهم العميق أو تنبّه الأدباء من غفوتهم، نظروا إلى العصر العبّاسي بمنظار المشتاق، يستعيدون به أمجادهم، ويستلهمون تراثهم، فأعملوا الفكر في إزاحة غشاوة التّقهقر والانحطاط بادي ذي بدء، ثمّ أخذوا يدرسون إنتاج الأقدمين من أدب ونقد، ثمّ ما لبثوا أن أخذوا بالإبداع بعد الاتّباع».

وأكيد أنّ ذلك لم يتحقّق في مرحلة واحدة، بل كان سيره وفق مراحل متتالية سطّرت لمسيرة الأدب والنّقد الإحيائيين.

كما نستطيع أن نربط مفهوم المصطلح بمفهوم الكلاسيكية عند الغرب، وهي من أقدم المذاهب الأدبية (ق15) الّتي تطوّرت مفاهيمها من مفهوم لآخر، وارتبطت في المجال الأدبي بمحاولات التّخلص من تقاليد وهيمنة العصور الوسطى بالعودة إلى الآداب الإغريقية «فظهر إثر ذلك المذهب الاتّباعي (الكلاسيكية)، وبرز أدباء يدرسون اللّغتين العريقتين (الإغريقية واللّاتينية) ليفتحوا لطلّاب العلوم والآداب المجال لنهل الآداب القديمة» (المعجم المفصّل في الأدب).

ولم يقتصر دورها على مجرّد إحياء القديم، وإنّما امتدّ إلى الجديد، فتميّز على إثرها هذا الأدب بالمحافظة والفصاحة والجودة، مع بعده عن الصّنعة والزّخرف اللّفظي، وهي السّمات نفسها الّتي ميّزت الأدب العربي الإحيائي في عصر النّهضة. إذ ارتقى رواد الإحياء بالكلمة والعبارة من الضّعف والابتذال إلى قوّة التّركيب وصحّته، وانتقلوا بالأسلوب من التّعقيد والغموض إلى السّهولة والوضوح بالاتّجاه إلى الرّصانة والتّحرر مع البعد عن المحسّنات البديعية المتكلّفة إلى التّعبير الجيّد عند المتكلّف

(أحييت أنفاس القريض بمنطقي        وصرعت فرسان العجاج بلهذمي)

وفي جانب الموضوعات تمّ الابتعاد عن التّكرار والسّطحية بالاتّجاه إلى التّجديد والتّنوع، والتّعبير عن أحداث العصر والقضايا السّياسية والاجتماعية، وتمّ الانتقال (في الخيال) من الضّيق والسّطحية إلى التّحليق في سماوات الشّعر وجعل صوره من تشبيهات واستعارات وكنايات لوحات متحرّكة مرئية ملموسة.

(تعرض لي يوما فصوّرت حسنه             ببلورة عيني في صفحة القلب)

وفي العاطفة الانتقال من الجفاف والبرود إلى الحيوية والقوّة والحركية والديّناميكية، وفي الموسيقى المحافظة على وحدة الوزن والقافية والاهتمام بالموسيقى ذات الرّنين القويّ الأخّاذ.

2)  مبادئ النّقد الإحيائي وخصائصه:

تكلّمت كالماضي قبلي بما جرت

 

به عادة الإنسان أن يتكلّما

فلا يعتمدني بالإساءة غافل

 

فلا بدّ لابن الأيك أن قيونما

فالقصيدة العمودية في العالم العربي هي الكيان الثّابت الّذي اعتمد عليه الشّعراء بما قامت عليه من قواعد تقليدية كانت كالبسملة في القصيدة العربية، وقد فصل فيها الحديث "ابن قتيبة" حين قال: إنّ أوّّل ما يستهلّ به الشّاعر قصيدته هو الوقوف على الدّمن ثمّ النسيب أو التسبب، لأنّه لائط بالقلوب قريب إلى النّفوس، ثمّ وصف الرّحلة في الصّحراء... وهكذا تعدّدت الموضوعات في القصيدة الواحدة، مع المحافظة على اللّغة في صورتها الفصيحة، سواء أكانت لغة مكتوبة أو لغة منطوقة، علماً أنّ الأدب العربي أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدباً مكتوباً مقروءاً.

ولا يأتي ذلك إلّا بالمواءمة بين الألفاظ والمعاني مع ضرورة تعلّق الشّعر بالوزن والموسيقى وملاءمتها للأحاسيس والمشاعر. ونجد هذه الخصائص موفّرة في كتاب النّقد الإحيائي وتجديد الشّعر لصاحبه "عبد الحكيم راضي" حين قال: «الشّعر قول موزون مقفّى يدلّ على معنى، ولكنّه ساقه سياقة مغايرة تتضمّن العاطفة من جهة، وتشير إلى الموهبة أو الطّبع الخاصّ من جهة أخرى، والشّعر ألفاظ موزونة متساوية، ذوات قوافي، ألفاظه قليلة الكمّية، تنطبق على معان كثيرة الكيفية، وأهواء معنوية عشقتها النّفس فأودعتها في أهداب الحسّ».

-      النّقد الإحيائي في العالم العربي – المرصفي أنموذجاً

ينتمي تيّار النّقد الإحيائي إلى المذهب الكلاسيكي بالتّركيز على العودة إلى هيكل القصيدة العربية القديمة بأوزانها وتجذّرها وقوافيها، علماً أنّ تيّار الإحياء عرف اتّجاهين: (كما أشرنا سابقا مع رائد الإحياء "محمود سامي البارودي") النّقل التاّم عملية وتفصيلاً عن التّراث العربي القديم أو الأخذ مع الالتزام بشروط* الإبداع والموهبة، وقد نادى إلى هذا الاتّجاه "حسين المرصفي" صاحب الوسيلة الأدبية إلى علوم العربية، جامع أصول النّقد وعلوم اللّغة (خاصّة علوم البلاغة) معتمداً في نقده على ذوقه الأدبي ومعرفته الجيّدة بأصول النّقد وله مواقف نقدية عديدة في شتّى المجالات: فليس كلّ كلام اجتمعت له أركان قسم من أقسام البلاغة يعدّ بليغاً، إذ «ليس كلّ ما فيه الكاف أو كأنّ يعدّ في نظر أهل صناعة الكلام العارفين بها الواقفين على أسرارها الملتفتين إلى دقائقها تشبيهاً، وإنّما التّشبيه ما جلّت فائدته وحسن موقعه من غرضه وإنّ أحسن التّشبيه والاستعارة وما وقع من غرض تصوير حال المشبّه أو المستعار له والإبانة عنه بجزيل العبارة ولطف السّياق بحيث لا يكون قصد المتكلّم إلى مجرّد التّشبيه والاستعارة كما هو كثير في كلام المولّدين». [الوسيلة ص15]

كما اهتمّ في بداية الجزء الأوّل بتحديد معنى كلمة "أدب" «اعلم أنّ الأدب معرفة الأحوال الّتي يكون الإنسان المتخلّق بها محبوباً عند أولي الألباب الّذين هم أمناء الله على أهل أرضه من القول في موضعه المناسب له، فإنّ لكلّ قول موضعاً يخصّه، بحيث يكون وضع غيره فيه خروجا عن الأدب، كما قال "جرول" الشّاعر المشهور بالحطيئة: فإنّ لكلّ مقام مقالا، ومن الصّمت وهو السّكوت المقصود من وضعه فإنّ للصّمت موضعاً يكون القول فيه خلاف للأدب، يرشد إلى ذلك قوله r: "رَحِمَ اللهُ امْرُؤاً قَالَ خَيْراً فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ"» [الوسيلة ص37]. وتحدّث بعدها في جزء كبير تجاوز سبع مائة صفحة عن علوم البلاغة (المعاني، البيان والبديع)، ففي علم المعاني تناول الجملة وأجزاؤها وفي البيان تناول المجاز والاستعارة والكناية، وأفرد لباب البديع صفحات كثيرة عن الجناس بأنواعه والاستطراد والمقابلة والاستدراك والتّوشيح والتّورية.

وفي قضية أخرى حول الشّعر يقول: «والقول العامّ في الشّعر أنّه وإن كان صناعة من الصّناعات يجود بدقّة معناه وملاحة لفظه وإحكام بنائه كما سيأتي بيانه، ويردأ بخلاف ذلك، لكنّه متغيّر الأمر والحال بتغيير العوائد تغييراً عظيماً إذا لم يكن من حوائج النّاس الأصلية، إذ كان بمنزلة الفاكهة الّتي لا تطيب إلّا بعد الغداء وأوّل مغيّر له الإسلام، وقول الله عزّ وجلّ: ]والشُّعَرَاءُ يَتْبَعُهُمْ الغَاوِونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ...[ وقد استثنى سبحانه الشّعراء الّذين عقلوا الدّين، فوقفوا عند حدوده». وما يؤكّد رفضه لتعريف القدامى للشّعر قوله: «وقول العروضيين في حدّه؛ أي حدّ الشّعر أنّه الكلام الموزون المقفّى ليس بحدّ للشّعر الّذي نحن بصدده، إنّما ننظر إليه باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصّة، ومن هنا يتّضح أنّ مفهوم الشّعر عند المرصفي يأخذ منحىً آخر، فالشّعر ليس نحواً ولا بلاغة ولا وزناً ولا قافيةً رغم ضرورتها وماهية الشّعر عنده تقوم حسب هذا التّحديد على عناصر ثلاث: الوصف والاستعارة واستقلال الأجزاء الّتي تتكوّن منها القصيدة، وبهذا أثار قضية القالب الّذي يُفرَغ فيه المضمون الشّعري أو ما اصطلح عليه بالمعنى الصّحيح الشّريف، ونادى على إثرها بضرورة إحياء روح اللّغة وليس شكلها أو قالبها فقط، ومنه اشترط ضرورة اكتساب الموهبة وتنمو بكثرة الحفظ للآثار الجيّدة».

أهمّ المصادر والمراجع:

1)  حسين المرصفي، الوسيلة الأدبية إلى علوم العربية، حقّقه وقدّم له عبد العزيز الدّسوقي، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، ج1، 1988.

2)  سامي منير عامر، وظيفة النّاقد الأدبي بين القديم والحديث، دراسة في تطوّر مفهوم التّذوق البلاغي، دار المعارف، جامعة الإسكندرية، 1984.

3)  شفيق البقاعي وسامي هاشم، المدارس والأنواع الأدبية، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1979.

4)  شفيق البقاعي، الأنواع الأدبية مذاهب ومدارس، مؤسّسة عزّ الدّين للطّباعة والنّشر، ط1، 1985.

5)  عبد الحكيم راضي، النّقد الإحيائي وتحديد الشّعر، دار الشّايب للنّشر، جامعة القاهرة، ط1، 1993.

6)  عزّ الدّين إسماعيل، الأسس الجمالية في النّقد العربي (عرض وتفسير ومقارنة)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992.

7)  علي جواد الطّاهر، مقدّمة في النّقد الأدبي، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 1979.

8)  كارولي وفيللو، النّقد الأدبي، ترجمة: فيني سالم، مراجعة: جورج سالم، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 1984.

9)  محمّد زكي العشماوي، قضايا النّقد الأدبي بين القديم والحديث، دار النّهضة العربية للطّباعة والنّشر، بيروت، لبنان، 1979.

10) محمّد عبد المنعم خفاجي، دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه، دار الكتب، مكتبة الأزهر.

11) محمّد كريم الكواز، البلاغة والنّقد – المصطلح- النّشأة- التّجديد، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2006.

12) محمّد مصايف، كتاب الدّيوان في الأدب والنّقد.

المعاجم:

13) محمّد التّونجي، المعجم المفصّل في الأدب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1999.

 

 

 

 

 

 

 



*  مع البارودي تمّ طرح إشكالية نقدية فيما إذا كان مقلّداً أم أنّه مزج هذا التّقليد بالطّبع والموهبة، حسب ما اصطلح عليه طه حسين بالمحاكاة المطبوعة، والإشكالية نفسها طُرحت مع المرصفي.  

Last modified: Tuesday, 26 January 2021, 10:54 AM