تمهيد :
عمد ابن خلدون عند اوليات تسجيل افكاره الى الاهتمام بعلم التاريخ والتركيز على خطورته باعتباره الاساس الوحيد للنظرية الجديدة التي اهتدى اليها ، والتي اسماها علم الاجتماع الانساني والعمران البشري ، ان ابن خلدون يشير الى ذلك في " المقدمة "ويلفت انظار الدارسين الى تلك العناية القصوى بعلم التاريخ تقييما وفلسفة وتصويبا ، تمهيدا الى طرق باب نظريته الجديدة . لقد لقي علم التاريخ اهتماما كبيرا ان لم يكن بنفس القدر لما لقيه " العمران البشري ".
اولا )تعريف ابن خلدون لعلم التاريخ :
لقد انتهج ابن خلدون اسلوبا ادبيا انيقا عمد فيه الى اصطناع المحسنات البديعية و الايقاعات الموسيقية حين تحدث عن علم التاريخ في مستهل " المقدمة "من منطلق مفهومه الجديد لهذا العلم الجليل :
" ان فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الامم والاجيال ، وتشد اليه الركائب والرحال ، وتسمو الى معرفته السوقة والاغفال ، وتتنافس فيه الملوك والاقيال ، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال ، اذ هو في ظاهره لايزيد على اخبار عن الايام والدول ، والسوابق من القرون الاول ، تنمو فيه الاقوال ، وتضرب فيه الامثال وتطرف به الاندية اذا غصها الاحتفال ، وتؤدى لنا شان الخليقة كيف تقلبت بها الاحوال ، واسع للدول فيها النطاق والمجال ، وعمرو الارض حتى نادى بهم الارتحال ، وحان منهم الزوال . وفي باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع و اسبابها عميق ، فهو لذلك اصيل في الحكم عريق ، وجدير بان يعد في علومها وخليق "
ثانيا ) انواع التحريف و التشويه الذي طال علم التاريخ :
يمضي ابن خلدون في الحديث عن التاريخ المدون معددا الوانا من التحريف شوهت جوانب منه ، و اشكالا من التزييف لحقت به دون ان تفطن الى ذلك الاجيال المتتابعة فيقول : " وان فحول المؤرخين في الاسلام قد استوعبوا اخبار الايام وجمعوها ، وسطروها في صفحات الدفاتر و اودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها ، وزخارف من الروايات لفقوها ووضعوها ، واقتفى تلك الاثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها ، و ادوها الينا كما سمعوها ، ولم يلاحظوا اسباب الوقائع والاحوال ولم يراعوها ، ولا رفضو ترهات الاحاديث ولا دفعوها . فالتحقيق قليل ، وطرف التنقيح في الغالب كليل ، والغلط والوهم نسيب للاخبار وخليل
ثالثا ) منهج ابن خلدون في نقد التاريخ :
ان منهج ابن خلدون في نقد التاريخ دقيق ، مع استفاضة في البيان وثراء في ضرب الامثال التي يستقيها من الاخبار المسطورة في كتب المؤرخين السابقين ويعقد فصلا طويلا من " فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شئ من اسبابها " و هو يتضمن دقة المنهج ونفيس القول ويشتمل على اصول النقد مع وفرة الامثال التي يخضعها للنقد التطبيقي .
وابن خلدون لم يكتف في حديثه عن التاريخ والمؤرخين و اخطائهم وضرب الامثال فعمد الى ذلك ايضا في الفصول التي تحمل عناوين متصلة الاسباب بالعمران ، ففي الفصل الذي عقده عن " طبيعة العمران في الخليقة " يعود لكي يسهب في القول عن التاريخ باعتبار انه خبر عن الاجتماع الانساني ، اي ان التاريخ هو وسيلة كل انسان للتعرف على المجتمعات الانسانية من خلال دقة الخبر وصدق الرواية ، والا فان ما يبنى على الخطا يتحتم كونه زيفا ، ويعود ابن خلدون لكي يستعرض امثلة من اخبار التاريخ ووقائعها حسب ما رواها بعض المؤرخين ويخضعها للاسس النقدية التي وضعها ثم ينتهي الى رفضها . وتمحيصها انما هو بمعرفة طبائع العمران ، وهو احسن الوجوه و اوثقها في تمحيص الاخبار وتمييز صدقها من كذبها ومن تلك الامثال :
خبر جيوش بني اسرائيل حسب احصاء المسعودي لاعدادها، ومنها ما ينقله المؤرخون كافة من اخبار التتابعة ملوك اليمن ، و انهم كانو يغزون من قراهم باليمن الى افريقية والبربر من بلاد المغرب ، وما لحق بذلك من ذكر مواضع ليس لها مكان على الحقيقة ، وغزوات يكذبها العقل وترفضها الفطرة السليمة.
رابعا ) اسباب الخطا في كتابة التاريخ :
ويعرض ابن خلدون للمؤرخين ومن يتصدون للروايات التاريخية ، ويحلل الاخبار في ضوء المعايير التي توصل اليها من خلال الممارسات الاستقرائية والعلل العقلية ، وينتهي الى ان اسباب الخطا تكمن في العوامل الاتية :
1) التشيع لراي من الاراء او نحلة من النحل تجعل النفس تميل الى تصديق ما يوافقها من الاخبار
2) الثقة بناقلي الاخبار دون التمحيص الذي قد يؤدي الى التعديل والتجريح ، او ما يعرف عند رجال الحديث بالجرح والتعديل
3) الذهول عن مقاصد الاخبار ، فان ناقل الخبر كثيرا ما يروي الخبر تبعا لما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب
4) توهم الصدق بسبب الثقة في الناقلين
5 )تقرب الناس الى الكبراء و اصحاب المناصب بالثناء والمديح واشاعة الذكر ، فيتناقل الناس الاخبار التي تتراوح بين الكذب وبين المبالغة والغلو ، فتشيع على غير الحقيقة ، فان النفوس طبقا لما يقول ابن خلدون ـ مولعة بحب الثناء ، والناس متطلعون الى الدنيا واسبابها من جاه او ثروة ، وليسو في الاكثر براغبين في الفضائل .
6) الجهل بطبائع الاحوال في العمران ، فان لكل حادث طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض من احواله ، فيقول:
" فاذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث و الاحوال في الوجود ومقتضياتها ، اعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب ، وهذا ابلغ في التمحيص من وجه يعرض ،وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الاخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم " ويضرب ابن خلدون عددا من امثلة الاخبار التي يستحيل عقلا او نقلا تصديقها .
خلاصة :
ان ابن خلدون يسعى الى تخليص علم التاريخ من الروايات الزائفة ، وتجريده من الاحداث الكاذبة ، ويضع لذلك مبادئا واسسا ، لان الاحداث التاريخية موصولة الاسباب بالانسان ، و الانسان هو اصل البداوة والحضارة اللتين تشكلان العلم الجديد الذي توصل اليه ، وهو علم الاجتماع الانساني الذي يساوي من وجهة نظره عمران العالم .