الهدف الاجرائي: التعرف على الظروف الفكرية التي نشات فيها الفلسفة البنيوية وكذا تحصيل مفهومها
ظروف نشاة الفلسفة البنيوية
إن المنهج بصفة عامة هو حصيلة لمجموعة من التحولات والتغيرات تقع في الأنساق المعرفية ، وتكون نتاجا لسيرورة جدلية وحوارية مع المفاهيم السابقة المعرفية ، ولا بد والأمر كذلك أن يستند المنهج إلى منظومة فكرية وبعد فلسفي وعلمي. وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه أعلاه لا بد من استحضار المناخ الثقافي والعلمي التطورات الحاصلة في بداية القرن العشرين الذي تبلور فيه المنهج ورست معالمه وخطته.
ففي مجال اللغة برز فريدنان دي سوسير الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية الذي قال ببنيوية النظام اللغوي المتزامن، حيث أن سياق اللغة لا يقتصر على التطورية ، أن تاريخ الكلمة مثلاً لا يعرض معناها الحالي، ويمكن في وجود أصل النظام أو البنية، بالإضافة إلي وجود التاريخ، ومجموعة المعاني التي تؤلف نظاماً يرتكز على قاعدة من التمييزات والمقابلات، إذ إن هذه المعاني تتعلق ببعضها، كما تؤلف نظاماً متزامناً حيث أن هذه العلاقات مترابطة.
وفي مجال علم الاجتماع برز كلا من: كلود ليفي شتراوس ولوي التوسير الذين يؤكدان ان جميع الأبحاث المرتبطة بالمجتمع، مهما اختلفت، تؤدي إلى بنيويات؛ وذلك أن المجموعات الاجتماعية تفرض نفسها من حيث أنها مجموع وهي منضبطة ذاتياً، وذلك للضوابط المفروضة من قبل الجماعة.
وفي مجال علم النفس برز كل من ميشال فوكو وجاك لا كان اللذين وقفا ضد الاتجاه الفردي في مجال الإحساس والإدراك وإن كانت نظرية الجشتلت التي تعد الشكل المعبر للبنيوية النفسية.
كما يمكن القول ان مصطلح البنية قد تبلور لدى لسانيي حلقة براغ حيث تم تأكيد مبدأ البنية كموضوع للبحث على يد مجموعة صغيرة من اللسانيين الذين تطوعوا للوقوف ضد التصور التاريخي الصرف للسان، وضد لسانيات كانت تفكك اللسان إلى عناصر معزولة ، وتنشغل بتتبع التغيرات الطارئة. ويعد دي سوسير ، وبحق رائد البنيوية المعاصرة وهو كذلك بالتأكيد إلى حد ما ، ويجمل بنا أن نشير إلى أن سوسور لم يستعمل أبدا ، وبأي معنى من المعاني كلمة بنية إذ المفهوم الجوهري في نظره هو مفهوم النسق.
تذكير :
هناك بنيويات عدة وليس بنيوية واحدة: البنيوية اللسانية مع دوسوسور ومارتنيه وهلمسليف وجاكبسون وتروبوتسكوي وهاريس وهوكيت وبلومفيلد...، و البنيوية السردية مع رولان بارت وكلود بريمون وجيرار جنيت...، والبنيوية الأسلوبية مع ريفاتير وليو سبيتزر وماروزو وبيير غيرو، وبنيوية الشعر مع جان كوهن ومولينو وجوليا كريستيفا ولوتمان... والبنيوية الدراماتورجية أو المسرحية مع هيلبو... أو البنيوية السينمائية مع كريستيان ميتز....، والبنيوية السيميوطيقية مع غريماس وفيليب هامون وجوزيف كورتيس...، والبنيوية النفسية مع جاك لاكان وشارل مورون ، وفلاديمير بروب الروسي، والبنيوية الفلسفية مع جان بياجيه وميشيل فوكو وجاك دريدا ولوي ألتوسير...
تحديد مصطلح البنية
مصطلح البنية عامة
تشتق كلمة بنية من الفعل الثلاثي ” بنى ” الذي يدل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء. وفي النحو العربي تتأسس ثنائية المعنى والمبنى على الطريقة التي تبنى بها وحدات اللغة العربية ، والتحولات التي تحدث فيها، ولذلك فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى ، فكل تحول في البنية يؤدي إلى تحول في الدلالة. إذ نقول: كل ظاهرة، إنسانية كانت أم أدبية، تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب علينا أن نحللها أو نفككهاإلى عناصرها المؤلفة منها، بدون أن ننظر إلى أية عوامل خارجية عنها
وقد عرف تحديد مصطلح البنية مجموعة من الاختلافات ناجمة عن تمظهرها وتجليها في أشكال متنوعة لا تسمح بتقديم قاسم مشترك ، لذا فإن إعطاء تعريف موحد للبنية رهين بالتمييز بين الفكرة المثالية الإيجابية التي تغطي مفهوم البنية في الصراعات أو في آفاق مختلف أنواع البنيات والنوايا النقدية التي رافقت نشوء وتطور كل واحدة منها مقابل التيارات القائمة في مختلف التعاليم إذ لا يوجد مثال مشترك من الوضوح يصل إليه أو يحاول إيجاده جميع البنيويين . فيما تختلف نواياهم النقدية إلى ما لا نهاية فيرى البعض أن البنيوية كما في الرياضيات تتعارض مع تجزئة الفصول غير المتجانسة محاولين إيجاد الوحدة بواسطة التشاكلات.
تعريف :
وفي اللغة العربية البنية تعني تكوين الشيء وكذلك الكيفية التي شيد على نحوها بناء ما. ويفرق اللغويون بين معنى الكلمة ومبناها، والمبنى هو ما يعنيه اليوم بعض علماء اللغة بكلمة بنية. وتتكون بنية الشيء من نسق من الظواهر المتضافرة بحيث تكون كل ظاهرة فيها تابعة للظواهر الأخرى، ولا قيمة لدراسة العناصر المكونة للبنية دون النظر للعلاقات التي تربطها
مصطلح البنية عند جان بياجي
إن جان بياجيه يسعى من وراء هذه الإشارات إلى التمييز بين تجليات التطبيق البنيوي في ميادين معرفية مختلفة وبين المثل الأعلى الذي تنشده البنيوية ، فهو يميز في تعريفه للبنية بين ما تنتقده البنيوية وما تهدف إليه. ولذا فهو لا يعرف البنيوية بالسلب أي بما تنتقده البنيوية لأنه يختلف من فرع إلى فرع في العلوم الحقة والإنسانية. إنه يركز بالأساس في تعريفه البنية على الهدف الأمثل الذي يوحد مختلف فروع المعرفة في تحديد البنية باعتبارها سعيا وراء تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى العناصر الخارجية.
وبذلك يقدم جان بياجيه تعريفا شاملا للبنية باعتبارها نسقا من التحولات : ” يحتوي على قوانينه الخاصة ، علما بأن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به هذه التحويلات نفسها ، دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو أن تستعين بعناصر خارجية ، ويتضمن هذا التعريف جملة من السمات المميزة ، فالبنية أولا نسق من التحولات الداخلية ، ثانيا لا يحتاج هذا النسق لأي عنصر خارجي فهو يتطور ويتوسع من الداخل ، مما يضمن للبنية استقلالا ويسمح للباحث بتعقل هذه البنية.
مصطلح البنية عند كلود ليفي سترا وس
أماالانتروبولوجي الفرنسي كلود ليفي سترا وس فإنه يحدد البنية بأنها نسق يتألف من عناصر يكون من شان أي تحول يعرض للواحد منها أن يحدث تحولا في باقي العناصر الأخرى ” ومن خلال هذا التعريف يتجلى أن وراء الظواهر المختلفة يكمن شيء مشترك يجمع بينها ، وهو تلك العلاقات الثابتة التجريبية ، لذلك ينبغي تبسيط هذه الظواهر من خلال إدراك العلاقات لأن هذا الأخير أبسط من الأشياء نفسها في تعقدها وتشتتها. ومعنى هذا ” أن المهمة الأساسية التي تقع على عاتق الباحث في العلوم الإنسانية إنما هو التصدي لأكثر الظواهر البشرية تعقدا وتعسفا واضطرابا من أجل محاولة الكـــشف عن ” نظام ” يكمن فيما وراء تلك الفوضى وبالتالي من أجل الوصول إلى ” البنية ” التي تتحكم في صميم ” العلاقات” الباطنية للأشياء ، ولكن المهم في نظر ليفي ستراوش هو أننا لا ندرك البنية إدراكا تجريبيا على مستوى العلاقات الظاهرية السطحية المباشرة القائمة بين الأشياء ، بل نحن ننشئها إنشاء بفضل ” النماذج التي نعمد عن طريقها إلى تبسيط الواقع وإحداث التغيرات التي تسمع لنا بإدراك البيئة