سيكولوجيّة التّعلّم
مقدّمة: إذا تأمّلنا حياة الفرد، نجد أنّ التّعلّم يشكّل مكانا هامّا فيها على نحو مستمّر عبر مراحل العمر المختلفة، فالطّفل يولد مزوّدا بعدد قليل من الأفعال المنعكسة كالمصّ والبلع أثناء الرضاعة والبكاء وحركات اليدين والقدمين وعمليات الإخراج، وهذه الأفعال فطريّة موروثة وليست مكتسبة، ولكن لا يلبث أن يتعلّم كثيرا من الحركات وأنواع السّلوك البسيط منه والمركّب عبر مراحل عمره التّالية، فيتعلّم اللّغة وأسلوب التّفكير والعادات والسّمات والميول والإتّجاهات والمهارات والفنون والحرف المختلفة وغيرها، ويتعلّم من والديه وإخوته وأقاربه ومدرّسيه ومن المجتمع ككل من خلال مؤسّساته المختلفة، ولا يتعلّم فقط السّلوك السّوي ولكنّه يتعلّم أيضا السّلوك اللّاسوي (المرض النّفسي)، ويمكن تصنيف ما نتعلّمه اختصارا فيما يلي:
1- المهارات الحركيّة. 2- النّشاطات العقليّة. 3- الإستجابات الوجدانيّة.
ونظرا لهذه الأهميّة الكبرى للتّعلّم في حياة الفرد فقد عني به علماء النّفس عناية كبيرة ودرسوه دراسة تجريبيّة مستفيضة ليعرفوا كيف يحدث وما هي مبادئه وقوانينه، وما هي العوامل التي تساعد على التعلّم الجيّد والتّذكّر الجيّد، والعوامل التي تعيقه وتؤدّي إلى النّسيان، وقد كانت لدراسة التّعلّم نتائج هامّة سواء من النّاحيّة النّظريّة أو من النّاحية التّطبيقيّة، فمن النّاحية النّظريّة اعتبرت مبادئ ونظريات التّعلّم التي أسفرت عنها نتائج الدّراسات التّجريبيّة الإطار النّظري الذي يفهم على أساسه تكوين البناء النّفسي للإنسان، أمّا من النّاحية التّطبيقيّة فقد كانت لمبادئ التّعلّم وقوانينه نواح تطبيقيّة كثيرة في ضبط السّلوك وتوجيهه وتعديله سواء في مجال التّربيّة أو في التّدريب المهني أو في مجال العلاج النّفسي وتعديل السّلوك أو في مجال الإعلانات التليفزيونيّة...ألخ.
تعريف التّعلّم: يتعلّم التّلميذ حلّ مسألة حسابيّة، ويتعلّم المحامي النّاشئ طرق المرافعات أمام المحاكم، ويتعلّم الطّالب الجامعي قيادة السّيارة، ويتعلّم القطّ فتح مزلاج الباب ليصل إلى الطّعام...ألخ، غير أنّ التّعلّم ظاهرة يصعب وصفها وربما يرجع ذلك إلى الحقيقة المعروفة وهي أنّ التّعلّم لا يمكن ملاحظته بصورة مباشرة، فعلى الرّغم من أنّه يمكننا تفسير أنواع معيّنة من السّلوك كدليل على حدوث التّعلّم إلّا أنّه لا يمكننا قياس التّعلّم بصورة مباشرة.
ولقد اقترح السّيكولوجيّون العديد من التّعريفات للتّعلّم نأخذ منها التّعريف التّالي، التّعلّم هو: «أيّ تغيّر دائم نسبيّا في الحصيلة السّلوكيّة للكائن الحي ناتج عن الممارسة المعزّزة».
شرح التّعريف: يتضمّن التّعريف بعض المفاهيم في حاجة إلى شرح وتوضيح.
- يشير التّعريف إلى أنّ جوهر التّعلّم هو التّغيّر، من خصائص هذا التّغيّر أنّه يتميّز بالدّوام النّسبي، أمّا التّغيّر الذي يتميّز بالدّوام المطلق مثل عمليّة التّنفس ونبضات القلب، والتّغيّر الذي يحدث صدفة ثمّ يختفي فليس من التّعلّم.
- ويشير التّعريف أيضا على إلى أنّ التّغيّر يحدث في الحصيلة السّلوكيّة وليس في السّلوك، وهنا يعني أنّ حدوث سلوك معيّن لا يعتبر بالضّرورة دليلا على التّعلّم، كما أنّ غياب سلوك معيّن لا يمكن أن يعدّ دائما دليلا على عدم حدوث التّعلّم، وهنا ينبغي التّمييز بين التّعلّم والأداء، فقد يكون لدى الكائن الحي سلوكا معيّنا في حصيلته السّلوكيّة ولكنّه لا يظهره (وجود التّعلّم وغياب الأداء) وقد يظهر سلوكا معيّنا لا يوجد في حصيلته السّلوكيّة (غياب التّعلّم وظهور الأداء)، فالتّعلّم ينبغي أن يظهر في صورة تغيّر الأداء ضمن ذخيرة الكائن السّلوكيّة.
- ويشير التّعريف أيضا إلى أنّ التّغيّر يحدث نتيجة للممارسة، ويعني هذا أنّنا نتعلّم حين نعمل ونتمرّن ونمارس، فالطّفل لا يتعلّم قيادة الدّراجة إلّا إذا تمرّن على قيادتها ومارسها، والسبّاح لا يتعلّم السّباحة إلّا إذا مارسها وهكذا، أمّا التّغيّر الذي يحدث نتيجة للنّضج أو التّعب أو تناول العقاقير لا يمكن اعتباره دليلا على حدوث التّعلّم.
- ويشير التّعريف كذلك إلى أنّ الممارسة التي تؤدّي إلى حدوث التّعلّم هي الممارسة المعزّزة، أي الممارسة التي تتأثّر بنتائجها كالشّكر والجوائز وإشباع الحاجات وغيره. أمّا الممارسة التي لا تكون متبوعة بأيّة نتيجة سارّة أو ثواب فلا تؤدّي إلى حدوث التّعلّم.
مراحل التّعلّم: أوضحت الدّراسات أنّ التّعلّم يمرّ بثلاثة مراحل هي:
1- الإكتساب: ويحدث عندما يستدخل الكائن الحي المعلومات ويتمثّلها بالممارسة.
2- الإختزان: ويتمّ بمجرّد حدوث عمليّة الإكتساب حيث تنتقل المعلومات إلى الذّاكرة.
3- الإسترجاع: ويعني قدرة الكائن على تذكّر المعلومات التي اكتسبها واختزنها.
التّعلّم والأداء: التّعلّم تكوين فرضي لا يمكن ملاحظته مباشرة، أمّا الأداء فيمكن ملاحظته مباشرة وهذا هو الفرق الجوهري بينهما، والتّعلّم هو الذي يؤدّي إلى حدوث التّغيّر في الأداء نتيجة الممارسة، كما أنّ التّغيّر في الأداء نتيجة الممارسة دليل على حدوث التّعلّم، وإذا كان الأداء هو ما يظهر في سلوك الكائن، فإنّ التّعلّم هو واحد من عدّة متغيّرات تؤثّر فيه، أي أنّ الأداء ليس دليلا مطلقا على حدوث التّعلّم، وبالرّغم من هذا فإنّ الطريقة الوحيدة لدراسة التّعلّم لا تكون إلّا من خلال سلوك ما قابل للملاحظة.
متغيّرات الأداء غير المتعلّمة: فإذا عرفنا سابقا أنّ التّعلّم هو أحد المتغيّرات التي تؤثّر في الأداء، فإنّ هناك متغيّرات أخرى تؤثّر في الأداء أيضا وهي غير متعلّمة، وهي مالآتي:
1- الدّافعيّة: وهي متغيّر داخلي يدفع الكائن إلى أن يقوم بسلوك معيّن، وأنّه كلما زاد مستوى الدّافعيّة ارتفع مستوى الأداء ولكن عندما يزداد مستوى الدّافعيّة بصورة غير عاديّة يبدأ الأداء في التّدهوّر.
2- التّواؤم الحسّي: فإذا كان الفرد يؤدّي استجابات جيّدة وناجحة في حجرة جيّدة الإضاءة، فإنّ استجاباته تتغيّر.