التوزيعية هي النظرية التي تؤسس“البنيوية الأمريكية”، التي تقابل البنيوية الأوربية أو السوسيرية، ويعتبر (سابير) من أوائل روادها، وقد نشر كتابه عن (اللغة) عام 1921 والذي أصرّ في مقدمته على التأكيد على الجانب الإنساني للغة باعتبارها نظاما من الرموز، فوظيفة اللغة عنده ليست غريزية، ولكنها ثقافية مكتسبة، ويؤكد أن الحقيقة اللغوية الجوهرية تتمثل في النمذجة الشكلية للتصورات فاللغة كبنية هي الجانب الداخلي، وأما الشكل فينبغي دراسته من وجهة نظر الوظيفة المنوطة به.
وبالعنوان نفسه نشر (بلومفيلد) كتابه عن (اللغة) عام 1933، وعرض فيه للجانب الآخر من النظرية البنيوية المتماسكة، ويعتبر (بلومفيلد) زعيم المدرسة الأمريكية، وأفضل تمثيلا لها، إذ عد كتابه أهم دراسة منهجية للغة في القرن العشرين، وتتحدّد البنيوية الأمريكية عنده بعاملين: بهدفها العملي، وهو ضرورة دراسة لغات الهنود الحمر وثقافاتهم التي لم تبحث وتدون آنذاك، وبالتأثير العلمي للنظرية السلوكية.
ليأتي (هاريس) وهو يعدّ المؤسس الفعلي للتوزيعية، ومن أشهر مؤلفاته في علم اللغة كتاب (مناهج في اللسانيات البنوية)، والذي يعدّ المؤلف الرئيس في علم اللغة التوزيعي، شرح فيه آراءه حول هذا المنهج، وفيه خرج على أفكار(بلومفيلد) الذي كان مثله الأعلى في المنهج الوصفي وفي سنة 1952 نشر هاريس مقاله (قواعد التحويل) (transformar grammar) الذي تحدث فيه عن استعمال الرموز لتحليل الجملة، كما تحدث عن الجملة التوليدية، وعن القواعد والقوانين اللازمة لتوليدها، ولعل هذا المقال هو البذرة الأولى التي انطلقت منها أعمال اللغوي تشومسكي في نظريته التوليدية التحويلية[1].
2- مبادئ النظرية للتوزيعية:
قامت هذه المدرسة على جملة من المبادئ يتقاطع بعضها مع آراء دي سوسير الشهيرة، وهي:
أ- مفهوم التوزيع:
هو الموقع الذي يحتله العنصر اللساني ضمن محيطه اللغوي، وقد " يحدد توزيع عنصر بأنه مجموع العناصر التي تحيط به، فمحيط العنصر (أ) يتكون من ترتيب العناصر التي ترد معه، أي العناصر الأخرى التي يتوافق كل منها في موقع معين مع العنصر (أ) في تركيب كلامي.
إنّ المتكلم حين إحداثه الفعل الكلامي يشعر كأنه يقوم بعملية انتقاء للعناصر اللسانية التي تحقّق المحتوى الفكري لكلامه في الواقع ، بيد أنه في الحقيقة " ليس حرا سوى في اختياره لوحدات الفئات التي ترد عادة معا، ولا يقوم باختيارها إلا في الترتيب الذي ترد فيه هذه الفئات، لذلك فإن العناصر اللسانية التي لها التواتر نفسه في السياق نفسه يقال إن لها التوزيع نفسه، فهي بذلك بدائل توزيعية، ومن ثم فإن التحليل اللساني الذي يعول على موقعية فئات الكلم وتوزيعها ضمن سياقها المألوف "يتوخى استكشاف آلية لغة من اللغات، من خلال وضع لائحة للوحدات الأساسية في كل مستويات الدراسة اللغوية، ومن خلال تحديد الفئات التي تنتمي إليها واستكشاف تآلفها فيما بينها".
ب- مفهوم اللغة:
وغالبا ما يطلق على اللغة لفظ القانون؛ أي أنها النظام الذي يحكم عملية الاستعمال الفردي (الكلام)، وهي تسمية لها صدى عملي ملموس، وقد كان سوسير قبل أصحاب المنهج التوزيعي قد أكد على أن موضوع (الدرس اللساني) بمختلف مناهجه هو اللغة.
" واللغة في رأي سابير وسيلة التواصل الإنسانية، وتتكون من رموز يعتمدها المتكلم في إيصال الأفكار والتخيلات والمشاعر والاحاسيس والرغبات عبر هذه الرموز، فالمتكلم يلجأ إليها ويختار من رموزها ما يتوافق مع الأفكار والمشاعر والرغبات التي يقصد إيصالها إلى الآخرين، والمتكلم حين يستعمل اللغة يستعملها بصورة اختيارية وقصدية عبر تصميم حر" ، ويتضمن تعريفه للغة المبادئ التالية: – اللغة وسيلة التعبير – اللغة قائمة على رموز – اللغة قصدية".
ج- الدراسة الآنية (الوصفية):
يتسم هذا الدرس بالآنية، لأنهم بإزاء لغات منعدمة الكتابة، وماضيها مجهول، فالتوزيعيون انطلقوا في بداية الأمر من دراسة لغات الهنود الحمر، وثقافتهم التي لم تبحث أو تدوّن آنذاك، وليست الآنية إلا المنهج الوصفي الذي اشتهر به دي سوسير، حيث إنه نادى إلى دراسة اللغة دراسة آنية لأنها كفيلة بإعطاء نتائج مضمونة.
د- أهمية المورفيمات:
تتألف اللغة من وحدات لغوية تفرزها عملية التقطيع، وهو ما يقابل عند سوسير موضوع العلامة اللسانية، وهم يفضّلون مصطلح (الموفيمات)، واعتبار المورفيم كوحدة دنيا تفيد دلالة يفردها التحليل، وترجع المناقشات حول المورفيمات عادة إلى قضايا تخص الشكل، فالمعنى في حد ذاته لا يدرك موضعه، ولا نحصل إلا على معاينة أوجه التماثل، و أوجه التباين الدلالية.
هـ- نظام العلاقات بين المورفيمات تؤلف في كلّ لغة نظاما مخصوصا:
فموضع الكلمة في البنية محدّد بعلاقاتها مع الكلمات الأخرى، ومن هذه العلاقات تنشأ قيمة كل كلمة. إنّ العناصر تتحدد بعلاقاتها داخل النظام، أي بعلاقاتها مع غيرها من العناصر اللغوية في التركيب الواحد، وهو ما يسميه سوسير بالعلاقات الركنية أو السياقية التي تجمع بين كلمات جملة واحدة، حيث تستدعي كل منها الأخرى، لتشكل سياقا لغويا ذا دلالة، ولعلنا هنا واقفون على أهم مبادئ النظرية التوزيعية، حيث إنها ترى أن عملية التوزيع السليم الذي تأخذ فيه الكلمة قيمتها وبالتالي علاقات منطقية ولغوية مع بعضها البعض.
و- إقصاء المعنى:
إنّ الدراسة اللسانية في نظر التوزيعيين ترفض الانطلاق من المعاني التي تأتي وراء الأشكال اللغوية وتعد أسبابا لها ولانتظامها، إن كل شيء في الوصف اللساني، يجري على السطح المنطوق، أو المكتوب، وكل محاولة تسعى إلى البحث عن أشياء خلف السطح هي وهم منهجي عقيم، ولهذا يصر التوزيعيون "على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، ليس لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذه المدرسة بأنّ المعنى لا يمكن إخضاعه لنوع الدراسة الوصفية، العلمية الدقيقة، التي يمكن أن تخضع لها الأنظمة الظاهرة الأخرى".
خطوات التحليل التوزيعي:
- تحديد المدونة: هي عينة الدراسة، وهي عبارة عن مجموعة من الوحدات اللغوية أو الملفوظات المتناسقة والمنسجمة.
- تحديد النويات: النواة هي الأصل في جميع الكلمات (المفردات)، وهي الجذر اللغوي الذي يتجرد من كل الزوائد، ولا يمكننا حذف أحد أصواته مهما كان الأمر؛ لأن ذلك يؤدي إلى بتر هذا الجذر، وجعله ناقصا دون فائدة، مثل: (قلم، دحرج، كتب، سار، نما، سعى، أبى)
-اللواصق: وهي التي ليست أصلا في النواة (الكلمة الجذر)، بل تتم زيادتها من أجل زيادة في المعنى لم تكن قبل هذه اللواصق، و لواصق العربية مجموعة في قولنا سألتمونيها أو أهوى تلمسان، وهي أنواع:
- السوابق: لواصق واقعة في المفردات قبل النويات.
يسبق هذا النوع من اللواصق النواةَ (كلمة الجذر)، ويوصل بها و كأنه جزء منها، لأداء وظائف نحوية ودلالية مختلفة، ومثال ذلك زيادة الياء في أول الفعل (دحرج) ليصير (يدحرج) فهذا الزائد في العربية إنما يأتي للدلالة على زمن المضارع، إذا تنتقل صيغة (فعلل) الدالة على الماضي العائدة على ضمير الغائب (هو) إلى المضارع بفضل هذا اللاصق (السابقة).
- الحشو: لواصق واقعة في المفردات بين النويات.
يتوسط هذا النوع من اللواصق الكلمة النواة (المفردة)، فتتغير صيغتها الصرفية، ليتغير معناها، فالفعل (خزن) كلمة نواة، خلت من أي زيادة، ودلت على عملية الخزن، لكنها تدل على مكان الخزن وواسطته عند إضافة لواصق تتعدد مواضعها، فتتعدد بذلك المفردات المولدة، مثل:
خزَّان خ+ز+(ز)+(ا)+ن
خزانة خ+ ز+(ا) +ن+(ة)
مخزَّن (م)+خ+ز+(ز)+ن
خزينة خ+ز+(ي)+ن+(ة)
- اللواحق:
وهي المورفيمات التي تتلو المفردة، للدلالة على معاني جديدة، كالجمع والتثنية أو التأنيث، أو النسبة… مثل: جزائر + ضمير المتكلم للجماعة جزائرنا (نسبة إلى جماعة المتكلمين)
جزائر +ياء النسبة جزائري (جزائريان وجزائريون جزائرية)
- وتقطيع البنية: يمكن وصف نظام ما من خلال عرض بنيته؛ لأنها توضح عناصره وتنظيمها، وعلاقات بعضها مع البعض الآخر، إذ تنتظم العناصر اللغوية في النص وفق ترتيب أفقي يبين العلاقات النحوية، ويوضّحها بوصفها أهم علاقة جملية (لغوية).
- ثم التحليل: المنهج الأساسي المعتمد في تحليل البنية التركيبية لدى التوزيعيين ينعت بالتحليل إلى مؤلفات، وهو التحليل الذي عن طريقه تفكك بنية الجملة ليس على أساس أنها مؤلفة من وحدات مرصوفة بعضها بجانب بعض، بل على أساس أنها مؤلفة من طبقات من مكونات الجملة بعضها أكبر من بعضها الآخر، إلى أن يتم تحليلها إلى عناصرها الأولية من المورفيمات، لكون المورفام (morphème) الوحدة الدنيا التي تفيد الدلالة والتي يبرزها التحليل .
إنّ مصطلح مؤلّف (constituant) يطلق في اللسانيات التوزيعية على كل مورفام، أو ركن كلامي الذي يمكن له أن يدرج ضمن بناء أكبر، وتنقسم مؤلفات الكلام إلى قسمين :
- المؤلفات المباشرة (Les constituants immédiats) وهي مكونات الجملة القابلة للتحليل إلى مؤلفات أصغر
- المؤلفات النهائية (Les constituants terminaux) وهي المؤلفات غير القابلة للتحليل إلى مؤلفات أصغر. مثال:
يا فرنســا قد مضى وقت العتاب
مركب اسمي مركب فعلي
- أداة نداء منادى مركب فعلي مركب اسمي (إضافي)
- أداة نداء منادى أداة توكيد فعل فاعل مضاف مضاف إليه
- ثم المقارنة بين الوحدات المتقاربة، والمتشابهة لتحديد المورفيمات المتشابهة.