المحاضرة الثالثة
عصر التّدوين
لا شكّ في أنّ التدوين يأتي في مرحلة متأخرة، ويسبقه اكتمال اللّغة من حيث علومها، وظهور الكتابة، وهذا ما مرّت به اللّغة العربية قبل عصر التدوين.
تعريف اللغة:
إنّ اللّغة خاصيّة بشريّة، وهي عبارة عن أصوات كما عرّفها ابن جنّي: (أمّا حدّها فإنّها أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم.)[1] فهذه الأصوات إذا ضمّت إلى بعضها كوّنت كلمات، والكلمات بدورها تكوّن جملا، وهذه الجمل هي في الحقيقة تعبير عن معان معيّنة، قال الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما جعل اللّسان عليه دليلا
واللّغة العربية إحدى اللّغات السّامية، نسبة إلى سام بن نوح- عليه السّلام- ، والشعوب السّامية هي: الآشوريّة، والبابليّة، والفينيقيّة، والعربيّة، والعبريّة، واليمنيّة القديمة، والحبشيّة.[2]
نشأة اللغة:
اختلف العلماء في نشأة اللّغة العربية، أهي توقيف أم اصطلاح؟ فمنهم من قال بأنّها من الله تعالى، واستدلّوا بقول الله تعالى من سورة البقرة:( وعلّم آدم الأسماء كلّها...) البقرة-30.
ومنهم من قال بأنّ اللغة تواضع واصطلاح، وأنّ الله أقدر آدم على وضعها.
والمسألة مفصّلة في كتب فقه اللّغة.
يقال بأنّ إسماعيل -عليه السلام- أوّل من تكلّم العربية، وتركها لمن بعده، ونظرا لكبر البلاد العربية، وابتعاد أهلها عن الحضارة، اختلفت اللّغة العربية الواحدة إلى لهجات كثيرة، فكان لكلّ قبيلة لهجة.
مراحل ظهور اللغة العربية:
وأمّا ظهورها في لغة واحدة فقد مرّ بمراحل مختلفة:
المرحلة الأولى:
كانت اللّغة العربية فيها عبارة عن لهجات كثيرة، يختلف بعضها عن بعض، وكان لكلّ قبيلة لهجة تميّزها، وعليها ينشأ أبناؤها.
المرحلة الثانية:
تبدأ هذه المرحلة ببداية احتكاك القبائل، وهذا الاحتكاك لم يكن مقتصرا على مجال واحد، بل تعدّد، فهناك التّجارة، والحروب، والمجال البارز كان الحجّ، ولهذا كان لقريش ولهجتها السّيادة، نتيجة لتنقّل العرب إلى مكّة في مواسم الحجّ، ولهذا السبب تغلّبت لهجة قريش على أخواتها.
المرحلة الثالثة:
بدأت هذه المرحلة بنزول القرآن الكريم، فعزّز للغة العربية مكانتها، قال الله تعالى:( إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون) سورة يوسف- 2، ولم تبق لغة تخاطب فقط، بل صارت لغة كتاب سماويّ طولب المسلمون بقراءته، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بتعلّم اللغة العربية، وبفضل القرآن الكريم، والحديث النبويّ الشّريف تنوّعت الأغراض الأدبية.
ظهور اللّحن وجهود العلماء المسلمين:
نتيجة دخول الأعاجم في دين الله، من فرس وروم... بدأ اللحن يدخل اللغة، وفشا بين الناس، وممّا يروى أنّ أعرابيّا سمع من يقرأ الآية التالية:( وأذان من الله ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله...) التوبة - 3، يقرأ (رسوله) الثانية المرفوعة بالجرّ، فقال الأعرابي: إن كان الله برئ من رسوله فأنا منه بريء، فأخذه القارئ إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - فحكى الأعرابي قراءته، فعندها أمر عمر بتعليم العربية[3].
والقرآن الكريم لم يكن منقوطا، ولا مشكّلا، ونتيجة اختلاط العرب بغيرهم بعد الفتوحات الإسلامية، ظهر اللحن، وفسدت سلائق الناّس، فكلّف زياد بن أبيه[4] أمير العراق أبا الأسود الدؤلي[5] بوضع علامات إعرابية للرفع والنصب والجرّ (وهو ما نسمّيه اليوم بالشّكل).
وكانت طريقة أبي الأسود الدؤلي أن يضع للحرف المفتوح نقطة فوقه، وللمكسور نقطة تحته، وللمضموم نقطة أمامه. (إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فأنقط نقطة فوقه...)
ثمّ قام يحيى بن يعمر العدواني[6]، ونصر بن عاصم الليثي[7]، بوضع النقط بتكليف من الحجّاج بن يوسف الثقفي[8].
ثمّ وجدوا أنّه سيحصل اختلاط بين الشّكل الذي وضعه أبو الأسود الدّؤلي، والنقط التي وضعها يحيى ونصر، لأنّها كلّها نقط، فقام الخليل بن أحمد الفراهيدي[9] بإبدال شكل أبي الأسود بالشكل المستعمل اليوم.
لا شكّ في أنّ الرواية والجمع والتدوين للمعارف المختلفة تأثّرت قديما بمراحل تطوّر وسيلة التدوين نفسه، وهي الكتابة اللغوية كما تأثّرت بالأدوات اللازمة للكتابة وفي مقدمتها الورق فحين يتوفر شرط المعرفة بالكتابة وإتقان آلياتها، وتتوفّر وسائل الكتابة اللازمة تنشط حركة التدوين.
تجمع الدراسات الحديثة على أن العرب عرفوا الكتابة منذ العصر الجاهلي، ولكنّ معرفتهم لها كانت في حدود ضيقة جدا، فقد عرف عرب ما قبل الإسلام الكتابة، ويقال إنّه عند مجيء الإسلام كان في مكة والمدينة من كان يعرف الكتابة، ودليل ذلك أنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلّم- كان يعتق الأسير مقابل تعليمه لعشرة من أبناء المسلمين.
ولمّا نزل القرآن الكريم ذكر ما يلازم الكتابة:
-اقرأ.
-فاكتبوه.
-القلم.
-الكتاب.
نزل القرآن الكريم منجّما، بعضه في مكّة وبعضه في المدينة، فكان كلّما نزل شيء من القرآن كتب.
[1] - الخصائص، أبو الفتح عثمان بن جنّي، ج:1، ص:33، المكتبة العلمية.
[2] - انظر فقه اللغة، د. علي عبد الواحد وافي، ص:7.
[3] - ينظر البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج:5، ص: 6.
[4] - زياد بن أبيه: أمير من القادة الفاتحين من كبار رجال الدولة الأمويّة، أصله من الطائف، يكتنف الغموض نسبه لذا يدعى (ابن أبيه) كان واليا على الكوفة.
[5] - أبو الأسود الدؤلي: عالم ولغويّ، يقال إنّه أوّل من وضع النحو، أخذ عن الإمام عليّ – رضي الله عنه- .
[6] - يحيى بن يعمر العدواني: من علماء التابعين كان عارفا بالحديث والفقه.
[7] - نصر بن عاصم الليثي: كان فقيها عالما بالعربية.
[8] - الحجاج بن يوسف الثقفيّ: قائد وخطيب عربيّ كان واليّ على العراق.
[9] - الخليل بن أحمد الفراهيدي: سيّد أهل الأدب قاطبة في علمه، هو أوّل من استخرج علم العروض، علّم سيبويه والأصمعي، له كتاب العين وهو أوّل معجم عربيّ.