1. أطوار الخطابة

أطوار الخطابة

كان للعربِ في الجاهلية خطابةٌ أدبية، ولكنهم كانوا يقدِّمون الشاعر على الخطيب من جهة أن الشعر أعلقُ بالأذهان، وأسرعُ تقلُّبًا في البلاد، فهو أرفع صوتًا بمفاخرهم، وأكثرُ إذاعةً لمثالب أعدائِهم. وتقديمُ العرب للشَّاعر على الكاتب، وإقبالُهم على حفظ الشعر أكثر من إقبالهم على حفظ الخطب، كان السببَ في قلة ما وصل إلينا من خطبهم في الجاهلية.

والخطب التي يمكننا أن نستخلصَ منها صورةَ الخطابة في ذلك العهد، هي هذه الخطب التي تُؤثَر في كتب الأدب والتاريخ، كخطب وفود العرب عند كسرى، ثم هذه الخطب المرويَّة في كتب السيرة النبوية لزعماء العرب، الذين يَفِدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبدأ اعتناقهم للإسلام.

والنظرُ إلى جملة هذه الخطب، يجعلنا على ثقةٍ من أنَّ الخطابة قبل الإسلام كانت بهذه المنزلة المناسبة لأمةٍ هي إلى البداوة أقرب منها إلى

الحضارة، ولكنها كانت ذاتَ ذكاء وحُسْن تصرُّفٍ في فنون البيان

وهذه الخطب تُمَثِّلُ الخطابةَ في عهد الجاهلية، سواءٌ علينا أكانت مأثورةً على نحو الواقع أم وصلت أَثَارةٌ منها إلى أيدي الرواة، وأضاف إليها بعضُهم جُمَلاً تحاكيها في أسلوبها وطِرْز تفكيرها.

ولا وجه لإنكار أن يكون في العرب قبل الإسلام خطابة ممتازة، فإن الخطابة أثرُ انفعالاتٍ تنشأ عن حوادث تَمَسُّ الجماعات، ولم تخلُ حالُ العرب من حوادثَ على هذا النَّحْو، فقد كانوا مطبوعين على التَّفَاخر بخصالِ السُّؤْدَدِ، كإباءةِ الضَّيْم، وحماية الجار، وعلى التَّفَاخر بمجد الآباء والعشيرة والقبيلة، فتثورُ بينهم لهذه الطبيعةِ محاوراتٌ شديدةٌ، وجِدَالٌ عنيف، وكانت الحروب بينهم لا تكاد تضعُ أوزارَها، وكانت لهم بعدَ هذا مجامعُ ينشرون فيها مصنوعاتِ قرائحِهم، ليباهوا بما فيها من بلاغةٍ وحكمة.

وإذا كان في لغة القوم بلاغةٌ، وفي نفوسهم طُمُوحٌ إلى السِّيَادة، وفي ألسِنتهم قوةٌ على الجَدَل، وشِدَّةٌ في المُحَاورة، وفي أَيْمَانهم سيوفٌ تتجافى عن أغمادها، وفي بلادهم أسواقٌ بضاعتُها ما تبتدعُه القرائح، فما الذي يمنعهم من أن يلدوا خطباءَ يقرَعُون الأسماع بذكر مفاخرهم، ويُثيرون العواطفَ إلى الدفاع عن أعراضهم وأنفسهم وأموالهم؟

طلع الإسلام بشأنه الخطير فاتسع مجال الخطابة، واشتدت البواعث على ركوب منابرها، ومن أهم هذه البواعث: الدعوة إلى هداية

الإسلام، والتحريض على الوقوف في وجه خصومه بعزم وطيدٍ وإقدام حكيم، ويضاف إلى هذا  من أسباب إجادتِها وإبداعها ما بَهَرهم به القرآن ومنطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاغة القول وروعة الأسلوب.

وقد تنفَّس صدرُ الإسلام برجالٍ سبقوا في حَلْبَة الخطابة، حتى أصبح الخطباء لذلك العهد يُقَدَّمون على الشعراء ويُرفَعون فوقهم درجَات، خصوصًا عندما انحطَّ الشِّعْرُ بالإسراف في المديح، والإقذاع في الهجاء، والإغراق في التَّشْبِيب، وفي المديح المُفْرِط مَلَقٌ، وفي الهجاء المُقْذِعِ دَناءَةٌ، وأقلُّ ما يدلُّ عليه الإسراف في التَّشبيب أنَّ صاحبَه لا يُرجَى لمقامات الجِدِّ، ولا يصلح لأن تُنَاط به جَلائلُ الأعمال.

واستمرت الخطابة لأول عهد الدولةِ العباسية بمنزلتها التي بلغَتْها في صدر الإسلام، ومن بلغاء الخطباء في هذا العهد: أبو جعفر المنصور، والمأمون بن الرشيد، وجعفر بن يحيى، وشبيب بن شيبة.

ولما اختلط العرب بالعجم، وأصبح الموالي يتقلَّدون إمارة الجيوش وولاية الأعمال، ساءت حالُ الخطابة العربية، فاغبرَّ وَجْهُهَا، وبَلِي ثوبُها، وتضاءل على المنابر صوتُها. وفي هذا العهد قامت سوق السَّجْع، واندفع يستولي على النثر كتابةً وخطابة. وإذا كان في بعض الخطب المنسوجةِ على منوال السَّجْع فَصَاحَةٌ ورَوْنَقٌ، كخطب ابن نُبَاتة،

فإنَّ كثيرًا منه لم يُكسِبْه السجع إلا سَمَاجةً وثِقَلاً. والتزامُ السجع -كما يقول ابن خلدون-: "ناشئٌ من القصور عن إعطاء الكلام حقَّه في مطابقة مقتضى الحال".

عندما سقطت بغداد في أيدي التَّتَار، وصارت الدولة إلى أيدي أمراءَ لا يعنيهم شأنُ العربية، انحطَّت اللغة العربية إلى دَرْكٍ سافلٍ، وظَلَّت الخطابة بعد هذا مقصورةً على أيام الجُمَعِ والأعياد ومواسم الحج، وموقوفةً على مواعظ محدودة، بعد أن كانت تخوضُ الإرشادَ إلى وسائل العِزَّة ووجوه الإصلاح.

وما برحت الخطابةُ في موقفها، حتى أقبلَ عهدُ الخديوي إسماعيل باشا، واهتزَّت مِصْرُ في حركة اجتماعية أو سياسية، فنشطت الخطابة مِنْ عِقَالِها، بل بُعِثَتْ من مرقدِها، وتخلَّصَتْ من قيود السجع، فآتَتْ من الآثار ما تقرؤون اليوم وما تسمعون.