3. الحركات الثورية واستقلال الجمهوريات اللاتينية

اندلعت عدّة ثورات متعاقبة في أمريكا اللاتينية خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، ويجب أن نشير بداية أنّ هذه الحركات الثورية لم يكن هدفها الانفصال نهائيا عن التاج الاسباني، بل كانت تهدف إلى تغيير الإدارة الاستعمارية الاستبدادية الفاسدة.

3-1- الثورة في المكسيك: لم تكن حركة 'الكريول' في المكسيك سنة 1810م معادية للملكية، وإنما كانت تهدف إلى طرد 'الغاشوبين' وتعويضهم بحكومة محلية تدين بالولاء للملك الاسباني فرديناند السابع.

         لقد ثارت عدة فئات في المكسيك (المحامون –الإداريون- الضباط – بعض رجال الدين) وقاد الثورة هناك القس هيدالغو hidalgo المتأثّر بأفكار الثورة الفرنسية، وقد اتّهم هيدالغو بالهرطقة ودخل في نزاع مع محاكم التفتيش. ونجح هيدالغو في تعبئة الهنود للثورة؛ فخلال شهر واحد، تمكن من تجنيد 80 ألف محارب، بعد أن وعدهم باستعادة أراضيهم المسلوبة وإلغاء الضرائب الثقيلة المفروضة عليهم، وهكذا بدت الثورة كأنها ثورة فلاحين هنود.

         قام الهنود بمهاجمة الإسبان، ووصلت الثورة إلى تكساس شمالا، لكن ميزان القوى مال لصالح 'الغاشوبين' رغم قلة عددهم (28 ألف مقاتل) مقارنة برجال هيدالغو، وكان ذلك بفضل تفوّقهم في مجال التسليح، واستخدامهم سلاح المدفعية خصوصا، وكذلك اعتمادهم على الكنيسة التي أصدرت 'قرار الحرمان' ضد هيدالغو وأتباعه. واستطاع الإسبان أسر العديد من قادة الثورة المكسيكية وإعدامهم بتاريخ 31 جويلية 1811م، أما هيدالغو فقتل في إحدى المعارك.

         استمر التمرّد بقيادة موريلوس Morelos وهو أحد تلاميذ وأتباع هيدالغو، وكان يتمتّع بحنكة سياسية وكفاءة عسكرية عالية، فنجح موريلوس في السيطرة على جنوب حوض المكسيك في 6 نوفمبر عام 1813، وأعلن إلغاء الرق والمساواة التامة بين جميع الأعراق، وفي شهر أكتوبر عام 1814م أعلن قيام الجمهورية المكسيكية، وانتُخب مجلسها التشريعي (الكونغرس) بالاقتراع العام، وتم تشكيل الحكومة والمحكمة العليا، كما اعتبرت الكاثوليكية الديانة الرسمية في شمال البلاد.

         مع ذلك بقي التفوّق العسكري الإسباني في ساحة القتال، ونجحوا في احتلال شمال المكسيك من جديد،  فوأدت إنجازات موريلوس في المهد، وتمّ أسره وإعدامه رميا بالرصاص في 22 ديسمبر 1815م. ورغم عقد معاهدة قرطبة بين الاسبان والمكسيك بتاريخ 24 أوت 1821م؛ إلا أنّ اسبانيا لم تعترف باستقلال المكسيك مضطرّة إلا في عام 1836م، بسبب ضغط الو م أ وبريطانيا.

3-2- الثورة في كولومبيا الكبرى: يعود أول تمرّد في منطقة كولومبيا الكبرى (فنزويلا –كولومبيا الحالية- بنما – الإكوادور) إلى عام 1781م، وقد جوبه بقمع شديد من طرف الإسبان.

         تجدّدت الثورة في عام 1810م؛ انطلاقا من مدينة كاراكاس (عاصمة فنزويلا) وقد برز خلالها اسمان أو قائدان ثوريان هما: سيمون بوليفار Simon bolivar   (المحرّر) و الجنرال ميراندا Francisco Miranda وهو من مواليد كاراكاس عام 1750م.

- سيمون بوليفار: من مواليد كاراكاس أيضا عام 1783م، من أبوين اسبانيين، سافر إلى أوربا ليعود عام 1806م وينخرط في الثورة مع انطلاقتها برتبة عقيد، وقد فوّضته الثورة لنقل مطالبها إلى بريطانيا ومفاوضتها حولهاـ لكن هذه الأخيرة تحفّظت عليها.

         في شهر ماي عام 1813، بدأت عملية تحرير فنزويلا بسلسلة من المعارك، وفي جوان أصدر بوليفار بيانا تحت شعار 'الحرب حتى الموت'، هدفه تحرير البلاد وتوحيدها. وتمثّل الفترة بين 1813- 1816 فترة ركود للثورة الفنزويلية؛ بعد أن استطاع الملكيون (المؤيدون لاسبانيا) القضاء عليها، فتحتّم على الجمهوريين (المناهضون للاستعمار) مغادرة البلاد، فسافر بوليفار إلى جزيرة جامايكا البريطانية، ثم إلى هايتي، ليعود من جديد إلى وطنه عام 1816.

         اشتعلت الثورة من جديد في وجه الاستعمار الاسباني، وخاض الثوار عدة معارك حقّقوا فيها الانتصار على قوات الاحتلال (معركة بوياكا 1819- معركة كارابوبو 1821- معركة بيتشينشا 1821)، تمّ عقبها إعلان استقلال غررناطة الجديدة، ثم إعلان قيام جمهورية كولومبيا الكبرى، وهذا بفضل الجهود المشتركة لبوليفار والجنرال ميراندا، الذين استطاعا تحرير كل من البيرو، حيث جرت عدة معارك ناجحة لصالح الثوار عام 1824م، ثم دخلت جيوش بوليفار إلى شمال بيرو بقيادة أنتونيو دي سوكري، كما حرّر بوليفار الشيلي أيضا. وتوفي في مدينة سانتا ماريا عام 1830 عن عمر ناهز 47 عاما.

3-3: الثورة في إقليم دي لابلاتا: يسمّى أيضا 'إقليم الفضة' ويضمّ كل من الأرجنتين، الأرغواي، البراغواي وبوليفيا.

         يعود الفضل في تحريرها إلى القائد خوزي دي سانت مارتان José de saint martin، وهو من مواليد الأرغواي عام 1778م، سافر إلى اسبانيا وانخرط في السلك العسكري، وشارك في الحملات الإسبانية على شمال إفريقيا (مليلة – وهران)، وحصل على رتبة ملازم عام 1797م، عاد إلى أمريكا الجنوبية سنة 1812، واستقر بمدينة بيونس آيرس.

         أعلن سانت مارتان الثورة، وخاض عدّة معارك ضد الملكيين، واستطاع دحرهم ثمّ تتبّعهم حتى الشيلي، أين هزمهم سنة 1817م، ثم توجّه إلى ساحل بيرو وضرب حصار حولها؛ ليعلن استقلالها في 28 جويلية 1821، وتمكّن من تحرير أجزاء هامة من القارة الأمريكية؛ لتنشأ جمهوريات مستقلة منذ عام 1821م. بينما  غادر سان مارتن أمريكا اللاتينية متوجّها إلى فرنسا، حيث توفي عام 1850م.

3-4: الاستعمار البرتغالي في البرازيل والثورة هناك:

         البرازيل هي المستعمرة البرتغالية الوحيدة في أمريكا الجنوبية، وهذا بموجب معاهدة تورديسلاس 1494م، وقد استهدفت رحلات المستكشفين الأوائل للبرازيل لحصول على الذهب والمعادن الثمينة والاتّجار في الرقيق، واسم البرازيل مأخوذ من أحد أنواع الخشب البراق والمتوهّج اللون، وقد اتّخذتها البرتغال بدايةً؛ منفى للمجرمين حتى سنة 1515م.

         بدأ "مشروع الاستيطان الممنهج" في عهد الملك جواو 'يوحنا الثالث'، الذي قسّمها على قدماء المحاربين البرتغاليين في جزر الهند ( القباطنة) وهكذا نشأت 15 مستعمرة وفق 'نظام القبطانيات'، أين كان للقطبان العام (الحاكم العام) كامل الصلاحيات لإدارة الشؤون المدنية والعسكرية في الإقطاعيات، مع ضرورة دفع 1/5 من المعادن الثمينة والأحجار الكريمة و1/10 من المنتجات الأخرى للملك البرتغالي؛ مقابل ذلك أطلق الملك يد 'القباطنة' في استعباد الأهالي، ومنحهم صلاحية فرض الضرائب وسنّ القوانين ومنح تراخيص بناء المطاحن والمعاصر... وغيرها.

- إداريا: قُسّمت البرازيل بسبب مساحتها الشاسعة وضعف وسائل المواصلات إلى منطقتين تحت إدارة حكومتين: حكومة شمالية عاصمتها مدينة باهيا، وحكومة جنوبية عاصمتها مدينة ريو دي جانيرو، واستمرّ ذلك إلى غاية عام 1763م، حيث أعيد توحيد البلاد تحت راية حكومة مركزية، واعتبارها 'نيابة ملكية' تابعة للتاج البرتغالي؛ أي إلغاء نظام القبطانيات.

         كان ذلك عقب إصلاحات الماركيز بومبال Pombal، وهو رئيس الوزراء البرتغالي وواحد من الشخصيات المؤثرة في السياسة البرتغالية خلال القرن 18م، حيث قام بسلسة من الإصلاحات الاقتصادية، وسنّ قانونين لتحرير العبيد وحضر بيعهم في عامي 1755 و 1758م على التوالي. كما قام بطرد الرهبان من البرازيل عام 1760، بعد اتّهامهم بتحريض الهنود على الثورة. لكن إصلاحات بومبال كانت ذات فعالية محدودة بسبب الفساد الإداري والتمييز الطبقي و شساعة مساحة البرازيل.

- الثورة في البرازيل: عقب هزيمة نابليون عاد الملك البرتغالي جواو السادس إلى البرتغال، وترك ابنه بيدرو حاكما للبرازيل، هذا الأخير أعلن نفسه إمبراطورا على البرازيل، وفي عام 1840م خلفه بيدرو الثاني، وفي عام 1889م قامت الثورة وتمّ إعلان استقلال البرازيل ونفي بيدرو الثاني.

        رغم غنى جمهوريات أمريكا اللاتينية من ناحية الثروات والمعادن والمواد الأولية، ومساحتها الواسعة وطول سواحلها وكثرة جزرها وتنوّع مناخها، فضلا عن استقلالها في فترات متقاربة خلال الربع الأول من القرن 19م، إلاّ أنّها لم تستطع تحقيق وحدة سياسية أو اتحاد على الأقل على شاكلة ما حقّقته الو م أ، بل إنّ جمهوريات أمريكا اللاتينية دخلت عقب استقلالها في موجة من الحروب الحدودية والنزاعات؛ بسبب تنافس قادتها على السلطة، فقد تحوّل الثوار ومن خلفهم إلى مستبدين تدعمهم الجيوش.

         لقد احتاجت جمهوريات أمريكا اللاتينية إلى ثورات جديدة في منتصف القرن العشرين للتخلّص من الأنظمة الديكتاتورية، وقد قاد هذه الثورات أرنستو تشي غيفارا وفيدال كاسترو... وغيرهما.