2. العلاقات الاجتماعية، الانتماء والاستقلالية، الخصائص الشخصية

تمهيد:

    لقد دعت منظمة الصحة العالمية في ميثاق أوتاوا (La charte de Ottawa, 1986) إلى ترقية الصِّحة، وقد أكدت في هذا الميثاق على خمسة دعائم أساسية لتعزيز الصِّحة، وهي: تبني سياسة حول الصِّحة العامة، جعل البيئة الذي يعيش فيها المواطن محيط يليق بنوعية حياة طيبة، تعزيز العلاقات الاجتماعية، تدعيم أنظمة الرعاية الصِّحية وتطوير القدرات الشّخصية. في هذه المحاضرة سوف نسلط الضوء على العلاقات الاجتماعية والخصائص الشخصية لنفهم كيف يمكن للأخصائي الممارس أن يستفيد من هذه العناصر في تعزيز الصحة.

1- العلاقات الاجتماعية:

      تعتبر العلاقات الاجتماعية أحد أهم أبعاد جودة الحياة، فهي التي تغذيها وتضمن إشباع أدنى الحاجات الفزيولوجية انطلاقاً من العلاقة أم-رضيع، إلى أسمى الحاجات كتحقيق الذّات في وسط الجماعة المرجعية، وهناك العديد من العلاقات الضرورية في هذه الحياة. 

1. 1- العائلة والقرابة:

       توفر العائلة وصلات القرابة هي الأخرى شعورا بالانتماء والاحتماء، وتشبع حاجة الفرد إلى الحب، فقد بينت دراسة كل من شيلين ووال (Schilling et Wahl, 2000) على المسنين المقيمين بالمناطق الريفية في ألمانيا ويتمتعون بالعيش في وسط العائلة الكبيرة المليئة بالأبناء وأحفاد والإخوة والأخوات وأبنائهم، أن ذلك الوسط هو سبب رضاهم الكبير عن الحياة مقارنة بأقرانهم من المدينة الذين يعيشون في وحدة. فكون الإنسان متزوج ومتواجد مع الأطفال في البيت أو السكن بالقرب من الإخوة والاخواة هو عامل لتنبؤ بالرضا عن الحياة المرتفع ((Tarquinio, C., et al, 2011.

1. 2- الحب والزواج:

        يرى الكثير من الباحثين أمثال دينر وسليجمان (Seligman & Diener) أن الزواج من عوامل السعادة الأكثر قوة وفعالية مقارنة بما تحققه الوظيفة أو الموارد المالية أو المجتمع من إرضاء للفرد، فقد تبن أن السبب الأول في حالات الاكتئاب الشديد يعود إلى تمزق في علاقة مهمة من حياة الفرد. وفي دراسة استطلاعية بأمريكا تم استجواب مجموعة كبيرة من المكتئبين عن سبب اكتئابهم، وكانت أجوبة أكثر من النصف تدور حول فقدان عاطفي وكلما اشتدت درجات هذا الاضطراب العاطفي ارتفعت معها درجات الاكتئاب. وفي المقابل تبين أن أكثر العينات التي تعاني من مشاعر سلبية (قلق واكتئاب) هم أفراد متأخرين عن الزواج، الآباء المعزولين والأشخاص الذين يعيشون في عزلة (Jenkins et al, 1997). ((Tarquinio, C., et al, 2011 هذا يعني أن التأخر في الزواج أو الامتناع عن الزواج يصاحبه مشكلات انفعالية من شأنها أن تخفض من جودة الحياة.

1. 3- الصداقة:

        يمكن التنبؤ إلى الرّفاهية الذّاتية عند الناس من خلال وجود علاقات الصداقة في حياتهم، إذ تدل عدم وجود علاقات صداقة دائمة ومقربة على مشكلات نفسية (Hintikka et al, 2000) كما سجلت العديد من الدراسات على الجنسين مستويات منخفضة من المشاعر السلبية ومستويات مرتفعة من الصِّحة عند العينات التي تتمتع بعلاقات صداقة في حياتهم،والعزلة الاجتماعية ترتبط غالبا مع رفاهية ذاتية منخفضة، بل وتعتبر مؤشراً على وجود مشكلات نفسية أو عدم الرضا عن الحياة (Bowling et al, 1989)   ((Tarquinio, C., et al, 2011, p 117. 

1. 4- المساندة الاجتماعية:

       لقد تبين أن للمساندة الاجتماعية تقلل في مختلف الظروف من ردود الأفعال الفزيولوجية والعصبية الصماوية التي تصدر استجابة للضغط. وعادة ما يستند مختصو علم النفس لدى دراسة هذه الظواهر إلى منحى الضغط الحاد، اي عن طريق أخذ أفراد إلى المختبر وتعريضهم لمهمات تسبب لهم الضغط، ثم قياس استجابتهم السمباتوية، والاستجابات الصادرة عن الأجهزة الهيبوتلاموسية والنخامية المنشطة لقشرة الأدرينالية. وقد لوحظ دائما أن هذه الاستجابات كانت اقل انخفاضا عند وجود رفيق يقدم المساندة، مما هو الأمر في حالة عدم توفر ذلك (Christenfeld et al, 1997). وتبين أن مجرد وجود الاعتقاد لدى الأفراد بإمكانية الحصول على المساندة أو لدى التفكير بالمساندة التي يحصلون عليها في العادة كان يؤدي الى نتائج مفيدة. (Broadwell & Light, 1999) كما أن التأثيرات المهدئة التي تحدث بسبب المساندة التي يقدمها صديق، تكون أكبر من تلك التي تحدث عندما يقدمها شخص غريب (Christenfeld et al, 1997) ويبدو ان مستوى الفائدة التي تحققها مستوى المساندة تكون اكبر عندما تقدمها أنثى (Glynn et al, 1999). ويمكن للمساندة الاجتماعية أن تقلل من إمكانية حدوث المرض، وأن تسرع في الشفاء لدى التعرض للمرض، وأن تقلل من معدل الوفيات الناجمة عن الأمراض الخطيرة (House et al, 1988). وقد بينت الدراسات التي اهتمت بضبط الحالة الصِّحية الأصلية، بان الأفراد الذين لديهم علاقات اجتماعية من الناحية الكمية وأحياناً نوعية متميزة من العلاقات، تكون معدلات الوفيات بينهم متدنية (Berkman et al, 19985) (شيلي تايلور، 2008).

        يمكن أن نتخيل ما يمكن أن تفعله المساندة الاجتماعية في حالة خوف شديد من طفل فقد أمه للحظات ثم عثر عليها، أو شخص حزين ويعانقه شخص عزيز ليخفف عنه، أو المرأة عندما تعود من المستشفى إلى البيت بعد أن تضع مولودا فتجد البيت مليء بالأقارب يخدمونها ويشاركونها الفرح ولا يتركون مجالاً لظهور اكتئاب ما بعد الولادة (بورجي شاكر أ، 2016).

2- الانتماء إلى جماعة:

        الشعور بانتماء الفرد احتياج إنساني نفسي لجماعة تشبع حاجته للحب والأمن النفسي والتقبل الاجتماعي والاستماع لآرائه وإعطائه الفرصة للتعبير عن ذاته ومساعدته في توفير سبل الحياة والإنجاز، مما يجعل الفرد يبذل قصارى جهده للالتزام بمعايير الجماعة وقواعدها، ويشعر بالأمان بينها، ويشعر بالفخر كلما كانت ناجحة وآمنة مستقرة (خريبة، 2011). والانتماء هو ارتباط الفرد بالجماعة وتوحده معها، وشعوره بالتقبل والاستحسان والأمان والطمأنينة بينها، واهتمامه بأمورها والعمل من أجلها، وحصوله على التقدير والاهتمام على ما يقوم به (مصطفى مظلوم وتحية عبد العال، 2012). فالشعور بالانتماء مرتبط بمقدار حب الآخرين (أفراد الجماعة) والدعم الذي يتلقاه منهم بحيث تساعده الظروف بداخل هذه الجماعة أن يحقق أهدافه ويعبر عن ذاته ويشعر بتقديره وبالأمن الذي توفره له قوة الجماعة وبالتالي يصبح هو الآخر جزء من قوة الجماعة بدوره الفعال وخدمته لها. وينتج عن إشباع الحاجة إلى الانتماء والحب مشاعر مثل الفخر والاعتزاز، الكرامة، الحب وتقبل الذّات والآخرين، الأمن النفسي وتقدير الذّات وتنمي روح المسؤولية  والإبداع (Maslow, A., 1954, p 43).

3- الاستقلالية:

إذا كان الانتماء مصدراً للأمن فان ما يكمل هذا الشعور هو درجة استقلالية الفرد، ونعني بمصطلح "الاستقلالية" قدرة الفرد على الاعتناء بنفسه إلى درجة ما حسب القدرات التي يمتلكها، وكذلك الشعور بأن له مسؤولية على نفسه وأمام الآخرين يقوم بها حتى لا يكون حملاً وعبئاً على الآخرين.

       ترتبط  الاستقلالية بمشكلات صحية أقل (Goodwin et Friedman, 2006) وترتبط كذلك بقدرات جسمية أحسن، وبالالتزام والتقيد بشروط النظافة وغسل اليدين قبل الأكل والأسنان قبل النوم، واللباس المريح أثناء النوم، والاعتناء بالصِّحة الشّخصية وبتطهير المحيط على الأقل في حدوده الدنيا، كما ترتبط بالالتزام الاجتماعي وبالواجب اتجاه الأفراد المحيطين به (بورجي شاكر أ، 2016).

      إن الإفراط في الحماية أو عكس ذلك، عدم الاعتناء بالأطفال وإهمالهم، قد يؤدي إلى تشكل مخططات معرفية في أذهانهم حول التبعية ونقص الكفاءة، الخوف من الخطر والمرض، الانصهار والاعتمادية ومخطط الفشل والعجز (أنا فاشل)، فيصبحون غير قادرين على تخطيط أهداف شخصية لوحدهم Young, J., et al, 2005)). على الأخصائي أ يضع درجة الاستقلالية كمعيار يعمل من أجله، فوصول المفحوص إلى درجة أكبر من الاستقلالية أين يمكنه أن يستغني على الآخرين للمشي، للكلام، للتعبير أو للتكفل باحتياجاته سيرفع من جودة الحياة وما يشعر به من تحسن.

4- الخصائص الشخصية:

        إن الخصائص الشخصية كالقدرات، سمات الشخصية والاستعداد الوراثي أكيد يلعب دوراً في جودة الحياة، إذ يعتبر البعض أن جودة الحياة كسمة من سمات الشخصية لأنها تتصف بالثبات النسبي وأن الأحداث قد تغير من جودة الحياة لفترة معينة ثم تعود إلى سابقها. ومن هذه الخصائص يمكن أن نذكر:

4. 1- الاستعداد الوراثي:

     يعتبر الاستعداد الوراثي مند أهم منبئات الرّفاهية الذّاتية (Diener et al, 1999) وذلك لأن بعض الناس لديهم استعداد وراثي لأن يكونوا سعداء ويشعرون بتلك الحالة من الرّفاهية الذّاتية والرضا عن الحياة، ويعود أيضاً جزء من هذه الحقيقة إلى الفروق الفردية على مستوى الجهاز العصبي وكيفية استقباله المعلومات وترجمتها. وقد لاحظا باحثين آخرين (DeFries and Fulker, 1992) من خلال ملاحظة مجموعة من الرضع وتتبعهم، أن الرضيع الذي يبلغ من العمر 12 شهر يمكن أن يرث المشاعر الايجابية من والديه، وقام الباحثين (Tellegen et Lykken, 1996) بتحليل عدد من الدراسات، برهنا من خلالها أنه يمكن أن نفسر الرّفاهية الذّاتية على أنها سمة ثابتة نسبياً عند 40 إلى 55 % من الحالات ولها خلفية بيولوجية جينية وراثية تساهم في توجيه المشاعر (Diener, E., et al, 1999).

4. 2- الانبساطية:

     تعتبر أحد أهم السمات المرتبطة بجودة الحياة عند الفرد(Cohen et Wills, 1985 ; Pagel et Becker, 1987 ; Rook et Dooley, 1985)، فالمنبسط ينتمي بالضرورة إلى شبكات اجتماعية، وغالباً ما تكون هذه الشبكات غنية بالعلاقات الاجتماعية التي تقدم السند الاجتماعي وتغذيه بالدعم الوجداني والعاطفي الذي يحتاج إليه. يعمل هذا الدعم الاجتماعي على التخفيف من الصدمات ويحد من آثار الضغوط في العديد من الأحيان (Spencer, A.R., 1995).  ولهذا فان سمة الانبساطية تعد منبئ للرفاهية الذّاتية بينما نتوقع من العصابيين أن يكونوا على حالة متدنية من الرّفاهية الذّاتية حسب دراسات التي جمعها دينر (Diener, E., et al, 1999).

      الانطوائية لا تعني بالضرورة جودة حياة متدنية المنطوي عادة ما يكون ملتزماً بالعادات الصِّحية وكثير الاهتمام بالنظافة الشّخصية وعدم الخروج عن الأحكام الاجتماعية السائدة، وكلها منبئات ايجابية للصحة، ويبقى الجانب السلبي في الانطوائية هي تلك المراقبة المفروضة على التعبير عن الانفعالات ذات الطابع العاطفي، وهي التي يعبر عنها في النموذج السيكوسوماتي بالاحتباس الانفعالي، وهو السبب الأول في إحداث الأمراض السيكوسوماتية  (Dischamp, J., et Chneiweiss, L., 1999).

4. 3- التفاؤل:

التفاؤل هو أحد جوانب الانبساطية ويرتبط بالوجدان الايجابي، ويقابل التشاؤم سمة التفاؤل من النقيض المعاكس، إذ يؤكد كل من شاير وكارفار )1987 (Scheier & Carver, على وجود علاقة ايجابية بين الصِّحة البدنية والتفاؤل. يوظف المتفائل استراتيجيات فعالة لدى الفرد للتغلب على الضغوط الواقعة عليه، وترى كينغ (King, 2005)، أن التفاؤل يجعلنا نشعر بدنياً بحال أفضل، فالمتفائلون يعيشون بصحة أفضل من سواهم، لأن أجهزة المناعة لديهم تعمل بشكل أفضل لحمايتهم. وهذا ما تؤكده أيضاً نتائج دراسات عديدة التي تناولت التفاؤل في علاقته بالصِّحة الجسمية، حيث كشفت هذه الدراسات علاقة ارتباط موجية بين التفاؤل والصِّحة الجسمية وعلاقة سالبة بين التفاؤل والشكاوي الجسمية;Yee, 2008 ; Peterson et al, 1992 عبد الخالق، 1998( وعلاقة سالبة بين التفاؤل والأمراض السيكوسوماتية (Martinez-Correa et al, 2006)، كما يقوم التفاؤل بدور المعدل لتأثير ضغوط العمل على الصِّحة الجسمية (Yee, 2008)، وبالتالي يعد التفاؤل منبئاً بالصِّحة الجسمية لدى الفرد (Rasmussen et al, 2009) (جودة وأبو جراد، 2011).

4. 4- فعالية الذات: 

        فعالية الذّات هي ظاهرة نفسية معرفية تتمثل في معتقدات يكونها الفرد في ذهنه على شكل أحكام قد تكون ايجابية أو سلبية، تدور حول قدراته وإمكانية القيام بنشاطات معينة، وتحدد السلوك الذي يختاره ويراه مناسبا لتحقيق النتيجة المرغوب فيها، ولها دور مهم في توجيه السلوك ودفعه أو تثبيطه، وفي المثابرة أو الانسحاب وتُكتَسب من الخبرات السابقة المباشرة أو الغير مباشرة وفي نفس الوقت تؤثر في الخبرات الحالية وتعزِّز معتقداته حول فعالية الذّات أو تُشكِّك فيها (بورجي شاكر أ، 2016). تعمل فعالية الذّات كمعينات (ﺃﻭ كمعوقات) ﺫﺍﺘﻴﺔ ﻓﻲ ﻤﻭﺍﺠﻬﺔ المشكلات وهي خاصية شخصية قابلة للاكتساب والتطور، ولهذا سنخصص لها محاضرة كاملة وكيف يمكن أن نبني برامج التكفل تحت هذه الزاوية.

خلاصة:

       بالنسبة للأخصائي الممارس يمكنه أن يأخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار، إذ تعزيز الصحة من خلال تنمية مهارات لغوية، معرفية، حسية أو حركية سيخلق عند المصاب درجة من الثقة حول استخدام المكتسبات الجديدة وبأنه قادر على تعلم أساليب جديدة وبالتالي سيكون فكرة أحسن أو يغير أفكار كانت تدور في ذهنه في شكل مخططات حول عجزه وفشله. كما أن إدماج المصاب في مجموعات أثناء عملية التكفل قد يرفع من إدراكه لذاته في الوجود وهذا يعني جودة حياة أفضل ويعتبر الاستفادة من الدعم الاجتماعي خاصة من الأقارب والأهل أمر مهم في عملية التكفل أو في عملية المرافقة الوالدية.