4. التأثير الابستمولوجي لظهور الأنساق اللا إقليدية:

وانطلاقا من هذا التصور انقلبت المفاهيم الهندسية، فلم تعد الحقيقة الهندسية تعني المطابقة مع العالم الواقعي، بل انحصرت فقط في فكرة عدم التناقض بين قضايا النسق الهندسي الواحد، كون هذه الأخيرة تقوم على افتراضات لا علاقة لها بالواقع، وهذا التحول في فكرة الحقيقة الهندسية خصوصا والرياضية على العموم بل وحتى العلمية جعل أحد الرياضيين يعتبر عن هذا بقوله: " توجد في الهندسة حقيقة باطنة Vérité interne وحقيقة خارجةexterne، والحقيقة الباطنة هي أن كل هندسة تؤلف نسقا مقفلا على نفسه منسجم القضايا ولا تناقض بينها بحيث لا تتساءل حينئذ عن إمكان تطبيقها على الظواهر الخارجية [...]، ولكن إذا كان لابد أن نتساءل عن هذا السؤال الأخير فحينئذ تنشأ مسألة الحقيقة الخارجية التي يصح أن تضاف إلى هندسة ما، وتلك مسألة غير رياضية، وتتجاوز حدود الرياضة "(1).

وبالتالي فإن هذا التصور الجديد للحقيقة الهندسية ولطبيعة المكان نفسه يعتبر في نظر العديد من المفكرين طعنة نجلاء لنظرية كانط ونسقه الفلسفي القائم على حدس المكان، والتي – النظرية – سيطرت مدة طويلة على الفكر الرياضي والفلسفي، ومن هنا انزاحت فكرة واقعية المكان وكذا قبليته الكانطية، وأصبحت الهندسة تتحدث عن فكرة استقلال قضاياها من المكان أيما كان، فالحقيقة الهندسية لا تقاس بمدى صلتها بالمكان أو مطابقتها له، وإنما تقاس بميزان منطقي صرف هو عدم تناقضها فيما بينها مما أدى إلى نشأة عدة هندسات لاأقليدية تختلف باختلاف مسلماتها، ولم تعد تهم الرياضيين أية مجموعة من المسلمات الحقيقية بالمعنى السابق لها، وأيها أوضح من سابقتها بل أصبحت تعرف بمدى قدرتها على تحمل عبء البرهان دون أن تحدث تناقضا فيما بينها.

 ولقد عبر أنشتاين ( A.Einstein1898-1955)(*) عن هذا التطور في الهندسة بقوله:" إن التقدم الذي حققته الهندسة البديهية يتمثل في التفرقة الواضحة بين الشكل المنطقي وبين المضمون الواقعي والحدس، والهدف الوحيد للرياضيات في الهندسة البرهانية هو الهدف المنطقي الشكلي "(2)، وانطلاقا من هذا التحول أصبحت قضايا الهندسة تتخذ صورة، إذا كانت البديهيات صحيحة كانت النظريات الصحيحة مع اعتبار أن العلاقات القائمة بينها علاقات تحليلية تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي.

ومن هنا أصبحت الرياضيات تنقسم إلى فرعين: رياضيات بحتة تهتم بعلاقة اللزوم الكائنة بين البديهيات والنظريات. وتطبيقية إلى تقرير ما توصلت إليه الرياضيات البحتة على عالم التجربة وهو ما قصده راسل في قوله:" نمو الهندسة الأقليدية وضح أن الرياضة البحتة لا شأن لها بما إذا كانت بديهيات ونظريات إقليدس صحيحة بالنسبة للمكان الفعلي أم لا، فهذا من شأن الرياضة التطبيقية أن تقرره كلما أمكن ذلك "(1).

ولقد عبر أحد الرياضيين وهو"بوفون"Buffon  1707-1788 )عما وصلت إليه الرياضيات قائلا:"أننا نفترض وتنظر في افتراضاتنا ونخلص لوازم فنستنتج: فتكون النتيجة أو اللازم الأخير قضية صادقة بالبنية إلى افتراضنا، لكن هذا الصدق ليس أكثر واقعية من الافتراض نفسه "(2)، ومن هنا تم " سلخ الصفة المشخصة – بتعبير غاستون باشلار – عن المفاهيم الأساسية وتنتج هذه الصفة المشخصة علاقات تقوم بين هذه المفاهيم "(3).

ولقد عبر روبير بلانشيه عن هذا التطور والتحول الجذري في الهندسة خصوصا والرياضيات على وجه العموم قائلا:إن التأثير الابستمولوجي لهذه النظريات الجديدة(*) تأثير كبير، فهي على وجه الخصوص قد ساهمت في تغيير موقع مركز الاهتمام في الهندسة النظرية، وذلك بنقله من المحتوى إلى البنية، وعن الصدق الخارجي في القضايا المنعزلة إلى الاتساق الداخلي للنسق كله [...] وعندئذ نرى انفصال وجهي الحقيقة الهندسية الدين بقيا حتى الآن مختلطين في اتحاد يثير الدهشة "(4)، وبالتالي فإن نمو الهندسة كان أحد الأسباب الرئيسية لتغير موضوع الرياضيات من دراسة الكائن الرياضي الذي يطابق الواقع إلى دراسة البينة وخصائصها وعلاقاتها المنطقية دون ربطها بالواقع، ومن هنا لم تعد الرياضيات، والهندسة على وجه الخصوص تجمع بين الحدس والعقل في موضوع واحد. وبتغير الموضوع تغير المنهج وأصبح عبارة عن مجموعة من الإجراءات والتحويلات التي تجري على تلك البنيات، كما سقطت صفة البداهة واليقين المطلق عن مبادئ النسق الاستنباطي،فلم تعد سوى مجموعة من الفروض التي يختارها الرياضي في نسقه ولهذا اعتبرها البعض مجرد مواضعات أو قضايا متفق عليها،وهنا ظهرت فكرة الملاءمة وأصبحنا نتحدث عن أي الهندسات أكثر ملاءمة،وهذا ما جعل الهندسة الإقليدية -في نظر بوانكاريه- أكثر ملاءمة لنا لأنها أكثر بساطة من جهة ولأنها من جهة ثانية تنطبق على خصائص الأجسام الصلبة الطبيعية.

ومن هنا أصبحت الحقيقة الرياضية حقيقة ملاءمة، مما كان له انعكاس كبير على الميدان الفلسفي، واستغلت بعض المذاهب الفلسفية هذه الحقيقة فيما ذهبت إليه من آراء مثلما نجده خاصة في الفلسفة البراغماتية النفعية، ومن هنا أصبحت الرياضة بذلك علما ذات منهج فرضي استنتاجي .

ولعل هذا التطور الذي عرفته الرياضيات، لم ينحصر فقط في ميدان العلوم الرياضية، بل تعداها إلى ميادين عديدة ومن بينها المنطق، هذا الأخير الذي يقوم على المنهج الاستنباطي ومبادئه، منذ أن أقامه أرسطو، إلا أن هذا المنطق التقليدي كان -على حد تعبير كارناب (Carnap)- عاجزا عجزا تاما عن استبقاء ما يتطلبه الدور الجديد الذي يجب أن يلعبه في الفكر من ثراء في الفكر ودقة صورية وفائدة تنتج عن طريقة استخدامه "(1).

فما بلغته الرياضيات من صورية تامة في مفاهيمها ومنهجها وابتعادها عن الواقع وحتى عن اللغة العادية واستبدالها باللغة الرمزية، جعل المناطقة يسعون إلى إقامة منطق جديد يتوافق مع هذه الرياضة، محاولين بذلك اصطناع منهج أشبه دقة بالمنهج الرياضي، ويجعل – المنطق الجديد – العلماء يتمكنون من حل كثير من المشكلات الرياضية، خاصة بعد ظهور الهندسات اللاأقليدية وهو ما عبر عنه دافيد هلبرت (D.Hilbert) (1862-1943)(*) في كتابه أسس المنطق الرياضي قائلا: " أن هناك باعثا قويا أدى إلى تطور المنطق الجديد، وكان ذلك الباعث ناتجا عن حاجة الرياضيات إلى أساس دقيق يقوم عليه، وإلى طريقة دقيقة منهجية تبحث فيها وتجلى ذلك في كتاب " سجل الصيغ الرياضية " الذي أخرجه بيانو ومعاونوه ابتداء 1884 والذي أوضحوا فيه ضرورة التعبير عن جميع المبادئ الرياضية في عبارات خاصة بالحساب المنطقي "(1).



1)  المرجع نفسه ، ص 63.

(*)  عالم فيزياء ألماني، صاحب نظرية النسبية.

2) انظر عن فيليب فرانك: فلسفة العلم، الصلة بين العلم والفلسفة، ترجمة: علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، ط1، 1983، ص 18.

(1) برتراند راسل: مرجع سابق، ص 25.

(2)  روبيربلانشيه: نظرية العلم، مصدر سابق، ص ص74-75.

(3)  غاستون باشلار: مرجع سابق، ص ص 28-29.

(*)يقصد الهندسات اللاإقليدية.

(4)  روبير بلانشيه: الأكسيوماتيك، مصدر سابق ، ص 111.

(1)  انظر تارسكي: مرجع سابق، ص 06.

 (*) دافيد هلبرت: عالم رياضة ومنطق ألماني أول من صاغ الهندسة الإقليدية صياغة أكسيومية من مؤلفاته أسس الهندسة 1899.

(1)  انظر المرجع السابق، ص ص88-89.