3. ظهور الأنساق اللإقليدية:

 مع تطور الأبحاث واكتشاف نقائص وعيوب الجهاز الأقليدي، بما فيه حقيقة المسلمات نفسها ظهر ما يعرف بالهندسة اللاإقليدية والتي تعرف في الأساس على أنها " كل الأنظمة الهندسية التي تختلف عن النظام الهندسي الأقليدي وعبارة الهندسة اللاإقليدية"géomètre non- Euclidienne " هي من وضع الرياضي الألماني"جوس"(Gauss 1778-1855)ويقصد بالهندسات اللاإقليدية بصفة رئيسية هندسة لوباتشفسكي وبرنارد ريمان"(1)، إلا أنه سرعان ما توسع هذا التعريف ليشمل باقي الأنساق الهندسية التي ظهرت فيما بعد.

ويعتبر بروقلس) Proclusأول من حاول البرهنة على ضرورة عدم ظهور هذه المسلمة كمسلمة، لأنه من الممكن البرهنة عليها كنظرية كونها تنطوي على صعوبات، ومن هنا تصبح هذه المسلمة " مجرد فرض راجح الصدق ورجحان الصدق لا يكفي للإقناع في علم الهندسة، ولذلك لا مفر من البرهنة عليها "(2)، ولقد استمرت جهود البرهنة عليها وانتقلت إلى العالم الإسلامي -بعد ترجمة كتاب الأصول إلى اللغة العربية-حين حاول نصير الدين الطوسي البرهنة عليها، وسرعان ما انتقلت إلى العالم الأوروبي في بداية القرن 17م. وأشهر محاولة كانت لها أهمية كبيرة وأدت إلى نتائج غير متوقعة هي تلك التي قام بها الأب جيرولامو ساكيري عام 1733، فاستعمل البرهنة بالخلف لإثبات صحة المسلمة وهو مؤمن بصدقها مسبقا إلا أنه توصل أن النسق الذي أقامه على القضية التي افترضها والمخالفة للمسلمة كان خاليا من التناقض مما يترتب عليه إمكان قيام نظرية هندسية تخالف قضاياها قضايا الهندسة الإقليدية وخرج من ذلك بثلاث فروض مختلفة: فإما أن نسلم بأنه لا يوجد سوى مستقيم واحد مواز من نقطة خارج مستقيم، وإما أنه لا يوجد أي مستقيم مواز مطلقا، وإما أن توجد ما لانهاية من المستقيمات الموازية إلا أنه سرعان ما ألغى الفرضين الأخيرين واحتفظ بمسلمة التوازي وحدها.

ولعل محاولة الرياضي الروسي نيكولا لوباتشفسكي (N.Lobachevsky1743-1856م)، تعتبر أول عمل مطبوع ومؤسس في الهندسة اللاإقليدية، إذا أراد إثبات البرهان على المسلمة بواسطة البرهان بالخلف، فافترض أنه من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم موازيين أو أكثر، وراح يستنتج ويبرهن، إلا أنه لم يصل إلى إثبات المسلمة الإقليدية بل توصل إلى نتائج مخالفة مثل أن مجموع زوايا المثلث أقل من 180°، وهذه النتائج المخالفة لا تؤدي إلى بطلان فرض الانطلاق ولا إلى تأكيد صحة المسلمة بل أنه بقي فقط -كما يقول الجابري-: " أن هناك مقدمات مختلفة أدت إلى نتائج مختلفة، وهو شيء طبيعي "(1)، إذ لم يحدث هناك أي تناقض داخلي في نظام لوباتشفسكي الجديد، ومن ثمة فإن مسلمة إقليدس هي مسلمة مستقلة تماما عن باقي المسلمات الأخرى، لأن إنكارها لم يحدث أي تناقض، عكس ما افترضه إقليدس ومن ثمة " فإن أي نظام يشيد على عكسها يمتلك نفس المقدار من المشروعية الذي يمتلكه النظام المشيد عليها هي نفسها... مما يجعل هندسة لوباتشفسكي تقف الند للند وهكذا وجدت نفسها أمام هندسات متعددة لا أمام هندسة واحدة "(2).

ثم سرعان ما ظهر نسق هندسي آخر على يد الألماني ريمان (Riemann1826-1866م)، فهذا الأخير تجاوز المسلمة الإقليدية واتخذ منطلقه مسلمة أخرى مخالفة لها تماما فافترض أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن رسم أي مواز له وبالتالي فإن أي مستقيمين لابد أن يتقاطعا، وانطلاقا من هذا الفرض توصل ريمان إلى نتائج جديدة منها أن زوايا المثلث تساوي أكثر من 180°. ومما يجدر ذكره أن هذا النسق قد أقيم على تصور للمكان مناقض تماما لتصور إقليدس، فمكان ريمان مكان محدب، ومكان لوباتشفسكي هو مكان مقعر بينما مكان إقليدس فإن المكان مسطح ذو 3 أبعاد، وتوصل النسق الريماني بدوره إلى تأكيد صفة استقلال المسلمة الإقليدية عن باقي المسلمات تماما، وفكرة الاستقلال هذه هي من فتحت الباب واسعا لاستبدال هذه المسلمة بفروض أخرى إما أن تكون مختلفة عنها (مثل فرض لوباتشفسكي) أو مناقضة ونافية لها تماما (كما هو الشأن لفرض ريمان)، وبتعدد الفروض البديلة لها نقف أمام تعدد للأنساق الهندسية وهو تغيير جوهري في أسس الهندسة " غير مسبوق، ملئ باحتمالات أخرى للتغيير، ذلك لأنه نشأ سؤال جديد وهو هل يمكن إحداث تغيرات أخرى في أسس الهندسة بحيث تنشأ مزيد من الهندسات المنتظمة القضايا؟"(1).

 

 

صورة تمثل أنواع الأسطح الهندسية 

فالباحث في خصائص الهندسات الثلاثة السابقة (الإقليدية، هندسة لوباتشفسكي، وهندسة ريمان) يجد أنها كلها هندسات تفترض إشكالية انتقال الأشكال الهندسية في العوالم الممكنة دون أن يحصل فيها أدنى انحراف أو تشويه لشكلها، وهو ما سهل قياس شكل على آخر مختلف عنه من خلال المطابقةCongruence،الاستدارة حول نقطة أو ساق rotation، المساواةégalité ، التحويل  transfèration   أو الانعكاس Réflexion...إلخ، ومن ثمة أصبحت تعرف الهندسات الثلاثة بأنها هندسات قياسية، مما فتح المجال لتساؤل حول إمكانية وجود هندسات لا قياسية، وهو ما حدث بالفعل إذ تم اكتشاف الهندسة الكيفية(*) التي تقوم على الكيف الشكلي أولا ثم الكم، وهندسة الوضع التي يتعادل فيها شكلان هندسيان بواسطة مستويين مستمر ومتواصل وبالتالي فإن إحلال فكرة التعادل بدل المساواة في هاتين الهندستين جعلاهما تنتميان إلى مجال الهندسة اللاقياسية.

وبتعدد هذه الهندسات المختلفة، بحيث أن لكل واحدة منها خواصها ومميزاتها ومجالات استخدامها مع استبعاد دائم لفكرة واقعية المكان، وبالتالي فمجرد القيام بتحويلات مناسبة للمسلمات أو البديهيات نحصل على عدد لا متناه من الأنساق الممكنة منطقيا وهنا وقف الرياضيون أمام سؤال هام مفاده " كيف نتمكن من تركيب هذه الأنساق؟ - أو بعبارة أخرى – أي هذه الأنساق أسبق من غيره أو أساسي أكثر من غيره"(1)، وهنا جاءت محاولة الرياضي الألماني كلاين( F.Klein  1849-  1925م) الذي كان أول من قدم اقتراحا بهذا الشأن عام 1872 وكان اقتراحه يقوم على أن كل هندسة (هـ) تتميز بعائلة واحدة من التحويلات (ت)، وتتعامل مع ما للأشكال الهندسية من خواص وعلاقات لا تتغير بتغير تلك التحويلات "(2).

أي أن كلاين قد صاغ مبدأ عاما مفاده " أن نصف الهندسة (هـ1) بأنها أساسية أكثر من الهندسة (هـ2)، إذا كانت العائلة (ت1) هي جزء أصلي من (ت2))" بحيث أن ت1 وت2 هي عائلة التحويلات للهندستين هـ1 وهـ2 ومن هنا نجد أن كلاين قد عرف الهندسة من خلال مجموعة من الخصائص الصورية: يكون فيها هذا التعريف شاملا لجميع الأنساق الهندسية المتعددة(3).

ومن هنا أصبح الهندسيون يتحدثون عن خواص هندسية دون أدنى اكتراث بانطباقها أو مطابقتها للواقع ومن هنا أصبحت الهندسة " علما بتلك الخواص الهندسية الممكنة لا علما بخواص لموجودات حقيقية "(



1)  محمد فتحي عبد الله: مرجع سابق، ص 343.

2)  كامل محمد عويضة، مرجع سابق، ص 93.

1)  الجابري: مرجع سابق، ص 76.

2)  المرجع نفسه، الصفحة نفسها

(1)  ثابت الفندي: مرجع سابق، ص 59.

(*)  وتسمى أيضا بالهندسة الاسقاطية projective تتصل فيها من شكل إلى آخر بالتحويل الاسقاطي.

(1)  صلاح عثمان: مرجع سابق، ص 90.

(2)  المرجع نفسه، ص ص 94-95.

(4)  ثابت الفندي: مرجع سابق، ص 62.