1. تمهيد

1.3. المسلمات أو المصادرات:

   لقد اعتمد إقليدس في جهازه المنطقي بالإضافة إلى البديهيات على المسلمات التي هي أقل وضوحا من الأولى، مؤكدا هو ومن تبعه على أن هذه المسلمات " حقائق كلية وضرورية عن المكان الفيزيقي، ولهذا فهي صادرة عن المادة، وقد سبب لها أصلها التجريبي الماضي غموضا وتعقيدا "(1).

 وبالتالي فنحن نسلم بصدقها نظرا لتطابقها مع الواقع الخارجي، دون أن نبرهن عليها، ولعل هذا المصدر التجريبي هو ما جعل العلماء لم يشكوا في مصادرات إقليدس خلال عدة قرون كون أن " التجربة ذاتها كانت تعطي المشروعية لهذه الواقعية "(2)، إلا أن هذا اليقين لم يمنع بعض شراح إقليدس من القلق حول طبيعة هذه المصادرات وتداخلها من جهة ثانية، خاصة المصادرات الثلاثة الأولى والتي توصف بأنها إجرائية الطابع ومن ثمة فهي لا تغدو أن تكون أداة للقيام بإنشاءات هندسية لا غير.

 

  فإقليدس في استنتاجاته: " قد حصل له مرتين أن لجأ أثناء البرهنة نفسها ومن أجل هذه البرهنة إلى ذكر قضية خاصة جدا، طلب من الناس أن يسلموا له بها دون أن يتمكن من تسويغها إلا بضرب من اللجوء إلى الوضوح الحدسي "(1).أي أن إقليدس رغم لجوئه إلى البرهنة واعتماده عليها إلا أنه سرعان ما يلجأ إلى الحدس ليضمن صدق المسلمات دون برهنة أو مسوغ منطقي على ذلك.

 وهو ما نجده في مسلمة التوازي التي سلم بها إقليدس دون برهنة ليضمن برهنة القضايا اللاحقة انطلاقا من هذه المسلمة نفسها، التي اعتبرها واضحة بذاتها وذلك نظرا لعدم وجود أية مساحة في نطاق الخبرة المباشرة تثبت هذه المسلمة، ومن ثمة لا يمكن إقامة أي برهان على صحتها.

وبالتالي كانت هذه المسلمة كما وصفها بلانشيه: " كالحلقة الأجنبية في النسق وكالذريعة لسد فجوة في التسلسل المنطقي "(2)، ولعل هذا الادعاء يتأكد لنا من خلال فشل محاولات البرهنة عليها من طرف اليونانيين أنفسهم والعرب أمثال الطوسي (1201-1274)(*) وحتى المحدثين أمثال محاولات لكل من جيرولامو ساكيري(Gerolamo Saccheiri 1676-1733) ومن تبعه بمن قاموا بإنشاء هندسات لاإقليدية نتيجة لاستغنائهم عن هذه البديهية باعتبارهم لم يجدوا لها أي برهان، وتوصل هؤلاء أنها مجرد براهين مزعومة مؤسسة على افتراضات ضمنية وهو ما جعل جورج سارتون يصف بأنها مسلمات إقليدس كانت " أكثر الأجزاء جلبا للدهشة "(3)، وهنا توصل الباحثون إلى أنه بالإضافة إلى هذه المصادرات الصريحة فإن إقليدس قد سلم  ببعض المصادرات ضمنيا، فجاءت مضمرة في النسق وهي كثيرة كمصادرة التجانس التي ترى أن المكان متجانس الأجزاء في جميع جهاته، وهذا الفشل في برهنة المسلمات الخاصة، أدى إلى نشوء هندسات لاإقليدية تخالف مسلماتها المسلمات الهندسية الإقليدية – كما سنرى فيما بعد – والتي أحدثت انقلابا جذريا في جميع المفاهيم الرياضية التقليدية كالحقيقة الرياضية والنسق الرياضي نفسه، والصدق الرياضي، ومن ثمة لم تعد البرهنة الرياضية جزمية وضرورية كونها تستند إلى مبادئ صادقة مطلقا، حتى أن مفهوم الضرورة نفسها قد أصبح متعلقا بالنسق الضروري والمنطقي دون القضايا والمسلمات التي كان يفترض أن يؤدي إنكارها إلى وقوع في التناقض نظرا لطابع الضرورة ولكن ذلك لم يحدث مما أدى إلى إنشاء عدة أنساق هندسية متنافرة " بتعبير بلانشيه.



(1)  كامل محمد محمد عويضة، مرجع سابق، ص 90.

 (2) محمد وقيدي: فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1980،  ص 18.

(1)  روبير بلانشيه: الأكسيوماتيك، مصدر سابق ،ص 10.

(2) روبير بلانشيه: الأكسيوماتيك: مصدر سابق ، ص 10.

 (*)  مفكر عربي وعالم رياضي، له مصنفات في الفلسفة: من أهم مؤلفاته إثبات العقل الفعال.

 (3) جورج سارتون: تاريخ العلم، ج4، ترجمة: لفيف من العلماء، دار المعارف بمصر، مصر ، 1970، ص 85.