2. تاريخ الصوتيات العامة و مناهج الدراسة فيها

2.1. تاريخ الصوتيات

في هذا الميدان نجد أن الفكر الإنساني قد اهتم في فترة مبكرة جدا من عمر الحضارة الإنسانية بالظاهرة الصوتية ،ويعود ذلك في جوهره إلى دور الأصوات في اكتمال النظام التواصلي بين أفراد المجتمع البشري

عند الهنود

 نجد الهنود وعلى رأسهم العالم بانيني أول من قدم وصف دقيق للأصوات اللغوية من ناحية تطقها في تاريخ الإنسانية بحيث يقول جورج مونان في هذا الشأن "الأمر الذي يدهشنا في القواعد الهندية أنها قامت في التحليل اللغوي الثاني، وكان الهنود يعنون عناية قصوى باستبقاء اللفظ الصحيح للعبارات الدقيقة مما أدى إلى تدوين أول وصف للأصوات اللغوية"(أحمد حساني، 1999، ص 57)

عند اليونان

انشغل المفكرون والفلاسفة اليونان بالظاهرة اللغوية بكل مستوياتها منها ما هو صوتي ومنها ما هو تركيبي ودلالي إذ أن جل دراساتهم تناولت طبيعة النظام التواصلي بين أفراد المجتمع البشري وهي تعتبر مرجع علمي صحيح إلى حد الساعة، ويتبدى اهتمامهم بالدراسة الصوتية، خاصة في نظام الكتابة

عند العرب

أما فيما يخص الدراسات اللغوية العربية فقد تأثرت بالتحول الفكري والحضاري الذي أحدثه القرآن الكريم، وأحسن دليل على اهتمام العرب بالظاهرة الصوتية هو أن الأساس الأولي المعول عليه في وضع المعايير التأسيسية للنحو العربي، كان الصوت من حيث هو ظاهرة فسيولوجية قابلة للملاحظة المباشرة، حيث نجد قصة أبي الأسود الدؤلي حينما هم بوضع ضوابط لقراءة القرآن الكريم:"إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فأنقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فأنقط نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن اتبعت شيئا من ذلك غنه فاجعل مكان النقطة نقطتين".

ومن خلال هذا القول يمكن أن نستنتج ما يلي:

  • استخدام منهج علمي موضوعي قائم على الملاحظة الدقيقة كما هي في الواقع.
  • أنه يهدف إلى وضع ضوابط للأداء الفعلي انطلاقا من القراءة الصحيحة للقرآن الكريم وهي القراءة التي تخضع للكفاية اللغوية للسان العربي.
  • إن النظام القواعدي نشأ من بدايته في رحاب معاينة الظاهرة الصوتية.
  • *مصطلحات المميزات الوظيفية (حركات الإعراب) عند العرب أساسها الجانب الفيزيولوجي من الظاهرة الصوتية.
  • من خلال هذه الدراسة الواقعية تتجلى أهمية الصوت في اللغة الإنسانية.

 كما نجد الفراهدي قد اهتم هو أيضا بالأصوات اللغوية إذ نجد أول من اخرج معجم عربي يؤسس ترتيب مواده على مخارج الأصوات ويسمى "العين" نسبة إلى أول صوت حلقي حسب ترتيب الأصوات عند الخليل ،أما سيبويه فقد تناول موضوع الأصوات اللغوية تناولا شاملا من حيث المخارج والصفات والحالات الطارئة أثناء تأليفها وتركيبها في السياق اللغوي.

كما أوضع ابن الجني في كتابه "سير صناعة الإعراب" الصوت من الناحية العضوية والوظيفية إذ قدم وصفا دقيقا لجهاز النطق عند الإنسان فقال :"شبه بعضهم الحلق والفم بالناي، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس ساذجا كما يجري الصوت في الألف غفلا بغير صنعة فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبهه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة ونظير ذلك أيضا وترا لعود، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسل سمعت له صوتا، وإذا حصر آخر الوتر ببعض أصابعه سيراه أدى صوتا آخر فإن أدناه قليلا سمعت غير الاثنين ثم كذلك أدنى أصبعه من أول الوتر تشكلت لديك أصداء مختلفة إلا أن الصوت الذي يؤديه الوتر فعلا غير محصور نجده بالإضافة إلى ما أداه وهو مضغوط محصور أملس مهتزا ويختلف ذلك بقدر قوة الوتر وصلابته وضعف الصوت ورخاوته، فالوتر في هذا التمثيل كالحلق والخفة بالمضراب عليه كأول الصوت من أقصى الحلق وجريان الصوت فيه غافلا غير محصورة كجريان الصوت في الألف الساكنة، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع كالذي يعرض للصوت في مخارج الحروف من المقاطع، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا".

ومن هنا تظهر لنا جليا أن دراسة الصوت اللغوي عند العرب قد تم بدرجة كبيرة من العمق وذلك بشهادة الباحثين الأوروبيين إذ نجد من بينهم جورج مونان الذي قال بصريح العبارة "منذ القرن الثامن الميلادي كان علماء اللغة في البصرة، يسعون إلى وصف لغتهم وصفا صوتيا وسواءا أكانوا قد أوجدوا تلقائيا علما للأصوات جديرا بأن يذكرنا بالعلامة بانيني، أم أنهم اقتبسوا هذا العلم عنه، فتلك مشكلة على حدة ولكن لابد لنا بادئ ذي بدء أن نعترف بوجود هذا العلم في الأصوات وأنه علم فذ ممتاز"، ثم استشهد بعد ذلك بوصف الرازي للأصوات العربية "لهذه الحروف مجالات ومدرجات، فمجال الحاء والعين والغين والهمزة هو الحلق، ومجال القاف والكاف هو اللهاة ومجال الجيم والضاء والشين هو جانب الفم من ذولق اللسان على حافة الأسنان الأمامية (/ظ/،/ث/،/ ذ/) ومن الحنك الذي ينطق عليه اللسان (/ن/،/د/) /ط/) ومن اللثة (/ص/،/ز/،/س/) ومن جانب الفم (/ر/،/ل/،/ن/) ومن ألفاه (/ف/، /ب/، /م/) أما حروف العلة، الألف، الواو والياء فهي حروف هوائية لأنها تنطلق بلا ضجيج من جوف الفم"  وعلق مونان على هذا القول "وما من ريب أننا لا نستطيع طوال أوائل العصر الوسيط أن نشاهد في أوروبا حديثا مماثلا".  لم تقف اسهامات العلماء العرب عند تعريف الأصوات، بل تعدت ذلك الى أن طبقوا مبادئ علم الفيزياء في الأصوات على الموسيقى وذلك نحو عام 425هـ(1033م).  (Amyde La Brétéque, 1997, P 220)