1. الأطر الابستيمولجية للمقاربات الكمية والكيفية
1.4. الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية
على عكس الرؤية السابقة التي تؤكد على التشابه والتداخل القائم بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية،ظهر موقف يتبنى رؤيته من الصراع المستمر بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية،ويوضح أصحاب هذا الموقف أرائهم في ما يلي:
_ إن من خصائص الظاهرة الإنسانية أنها لا تقبل الملاحظة الحسية.
_ البحث في الظواهر الإنسانية يغلب عليها الطابع الكيفي لا الكمي الذي تمتاز به العلوم الطبيعية.( عبد الجواد2002،ص219).
_ الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة لأن هناك عوامل عديدة تتداخل في تحديدها، الأمر الذي يطرح صعوبة في تعليل الظاهرة وتحديد العامل الذي يتحكم في مسارها.
_ الظاهرة الإنسانية ظاهرة ذاتية لأن الإنسان هو الذي يفكر وهذا ما يعيق تحقيق الموضوعية.
_ يرى الأنثروبولوجي المعاصر"ستراوس" أن تشبيه الظاهرة الإنسانية بالطبيعية رأي فيه الكثير من الإجحاف لأن علوم الإنسان لم تقدم سوى تفسيرات فضفاضة وتنبؤات تعوزها الدقة،ومن ثم تظل هذه العلوم وسط الطريق متأرجحة بين التفسير والتنبؤ دون أن تحقق تقدما كبيرا يؤهلها لبلوغ مستوى العلوم الطبيعية.
_ يرى "ايمانويل كانط" أن الظاهرة الاجتماعية لا تشبه الطبيعية في شيء لأنه يؤكد أن ملكة العقل هي المسؤولة عن نشأة الوجود البشري،وذلك أن العقل يحاول دائما تجاوز نطاق التجربة بحثا عن الحقيقة التي تميز الظواهر،ويسير"سميل"على خطى كانط بشأن تفسير الظاهرة الإنسانية والاجتماعية ،فالعالم لكي يدرك الظاهرة الاجتماعية يضطر إلى أن ينظم رؤيته لها من خلال أنساق ومقولات ونماذج...تكون بمثابة أطر للفهم ومحددات له.( المسيري،2002،ص13.)
_ ويذكر"عبد الوهاب لمسيري"أن هناك عدد من الاختلافات والفروق بين الظاهرتين الطبيعية والإنسانية تتلخص في النقاط التالية:
_ أسباب الظاهرة الإنسانية يصعب حصرها لأنها متعددة ومتداخلة ومتشابكة،بينما يسهل تحديد وحصر العلة أو العلل التي تكون وراء نشوء الظواهر الطبيعية.
_ تتميز الظاهرة الطبيعية بغياب المكون الشخصي أو الثقافي أو التراثي عنها،فهي بلا شخصية ولا ثقافة ولا تراث،كما أنها مجردة من الزمان والمكان مثل تجردها من الوعي والذاكرة والإرادة، وبالمقابل نجد أن هذه المكونات الشخصية والثقافية والتراثية مكونات أساسية في بنية الظاهرة الإنسانية،أضف إلى ذلك تعدد هذه الثقافات وتعدد الشخصيات الإنسانية،هذا مع حضور الوعي والإرادة الحرة والشعور والذاكرة...في الظاهرة الإنسانية.
_ دراسة الظواهر الطبيعية تقود إلى صياغة قوانين عامة يمكن التأكد من وجودها وصحتها بالرجوع إلى الواقع، أما دراسة الظواهر الإنسانية فتوصلنا إلى تعميمات تقريبية، قد تثبت ولا تثبت إذا حاولنا تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة.( عبد المعطي محمد،ص ص322،321)
*إضافة لكل هذه الفروق تختلف وقائع العلوم الطبيعية عن وقائع العلوم الإنسانية في كون الأولى يمكن إدراكها عن طريق الحواس لأنها أحداث فيزيقية، أما الثانية فلا يمكن إدراكها عن طريق الحواس لأنها ذاتية وتختلف من فرد إلى أخر،ولذلك فهي وقائع تتصف بحريتها وبعدم قابليتها للتكرار.
ولقد رفض كثير من العلماء الغربيين الرؤية الساذجة التي تصر على إقصاء الجوانب الفردية للظاهرة الإنسانية،والتي تدعو إلى إلحاقها بالظواهر الطبيعية،ويرى "ويلهم ديلتي" أنه توجد حدود فاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية،ورأى أن العلوم الاجتماعية مبنية على أسس منهجية مختلفة عن العلوم الطبيعية،فالفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية يكمن في أن مادة العلوم الاجتماعية هي العقول البشرية،وليست مشتقة من أي شيء خارجها مثل العلوم الطبيعية التي هي مشتقة مثل العلوم الطبيعة التي هي مشتقة من الطبيعة،فالإدراك الإنساني والنفسي هما غاية العلوم الاجتماعية،ويمكن الوصول إليها من خلال التحديد الدقيق للمعاني والقيم التي ندرسها هي عقول الفاعلين الاجتماعيين،وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية،ويوضح هذه الرؤية الفيلسوف "ميرلوبونتي "في كتابه "فينومينولوجيا الروح":أن تشبيه الظاهرة الإنسانية بالطبيعية هو حذف ونسيان للعالم المعاش.( أبو زيد،2001،ص24). أي أنه ينبغي العودة إلى الإنسان باعتباره مولدا للمعنى.