2. سقوط مملكة علوة
بعد سقوط مملكة مقرة المسيحية أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، أدى إلى ازدياد موجة الهجرات العربية، وتعتبر هجرة جهينة العربيةالتي أشار إليها ابن خلدون هي واحدة من خليط هائل من القبائل العدنانية والقحطانية وبطونها المختلفة التي تجمعت في أنحاء النوبة الشمالية عقب سقوط دنقلة، هذه القبائل اتجهت جنوبا نحو سنار الحالية بسبب فقر البيئة الشمالية للنوبة وندرة مراعيها، حيث قال عنهم ابن خلدون: " وانتشروا (أي جهينة) ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكاثروا هناك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد".
يبدو أن العرب لم يجدوا مقاومة قوية من قبل ملوك علوة، حيث نحج العرب في تحقيق مآربهم لا بحد السيف بل بالإختلاط والتزاوج من بنات المملكة، حيث يقول ماكمايكل: " إن كل الدلائل تشير إلى أن النصر –باستثناء أقاليم معينة كإقليم جبال النوبا حيث لا يزال العرب يمتلكون الشهول، على حين يسكن الزنوج التلال- قد تم غالبا بالإتفاق والتزاوج أكثر مما أكتسب بقوة السلاح".
في البداية كانت هذه القبيلة تحت سلطان علوة، محافظة على نظامها القبلي وكانوا يدفعون الأتاوى لملوك علوة، ومع توصل هجرات جديدة على مر القرون كثرت أعدادهم، حيث أصبح لجهينة 25 وحدة قبلية قرب سوبا على النيل الأزرق وأكثر منها في الأقاليم الغربية في أوائل القرن السادس عشر ميلادي، ثم اشتد ضغط أعراب جهينة على ملوك علوة الذين حاولوا صدهم، ولما لم يستطيعوا لهم دفعا استمالوهم بالمصاهرة، فانتقل الملك إلى أبناء جهينة ببنات ملوك علوة حسبما يقتضي به نظام الوراثة المعروف عند النوبيين جميعا ففترق ملكم كما قال ابن خلدون في القرن الخامس عشر ميلادي.
المعروف أن مملكة علوة المسحية تألفت من عدة مملك صغيرة خاضعة للملك الكبير في سوبا، هذه الممالك الصغيرة هي التي انتقل سلطانها لأبناء جهينة، في حين قام السلكان الأكبر بتحويل المدينة تسمى سوبا بمدينة كوسة في القرن الرابع عشر، وبهذا تفقد سوبا مكانتهاالقديمة.
وما يمكن قوله أن قبائل جهينة لم تكن الوحيدة التي أفادت من تداعي مملكة علوة وانحلالها بل شاركتها القابلئ العربية الأخرى التي استقرت في جهات متعددة من مملكة علوة وعلى هذا نشأة في جوفها عدة امارات عربية مستقلة.
ففي القرن الخامس عشر ظهرت عدة ممالك ومشيخات اسلامية في حوض النيل الأوسط، وكان لظهورها أثر خطير في تطور الحياة الإجتماعية والسياسية، مما ساعد على زوال بعض الأسس التي قامت عليها الملكية المسيحية في علوة، واضحت الأرض ملكا للجماعة القبلية بعد أن كانت ملكا خاصا للملك، وصارت الأرض توزع على الجماعة يقومون على استغلالها ودفع الضريبة عنها لشيخ القبيلة أو زعيم الدار، وهذا يعني الأنتقال من مرحلة الإقطاع المطلق إلى نظام يعطي للفرد نصيبا من جهوده.
وثمة تطور آخر على الحياة السياسية، وذلك بالأنتقال من نظام الوراثة القديمة القائم على نظام الأمومة إلى نظام وراثي في بيت شيخ القبيلة أو الدار والذي يتكون من مجموعات القائل في الإقليم الذي اتخذته دارا لها، ولعل أهم لقيام هذه المشيخات الإسلامية في حوض النيل الأوسط، وهو ازدياد انتشار الإسلام بين كثير من أهل البلاد.
رغم التطور الإجتماعي والسياسي في هذا الجزء من النيل إلا أن هذا لم يؤد إلى الإستقرار بفعل اختلال الأمن والنزاع بين القبائل العربية حول مواطن الرعي وبين الوطنيين من ناحية أخرى مما أدى إلى تدهور الأوضاع الإقتصادية ، الأمر الذي تم التفكير في انشاء حكومة مركزية تخضع لها شتى الجماعات والقبائل المتنازعة لإقرار الأمن وحماية طرق التجارة القديمة.
وهنا قام عمارة دونقس زعيم الفونج وجمع رجاله في جبل مويا، وتحالف معه عبد الله (عبدلاب) شيخ عرب القواسمة من جهينة فأخضعوا ملك العنج وملك الغرب عام 1505م فانتصر فيها الحلفان ففر العنج إلى جبال فازوغلي وكردفان وبقي منهم القليل اعتنقوا الإسلام.
وقد اشترط الحلف بين الحليفين عمارة وعبد الله أن يكون عمارة هو المقدم على زميله في الزعامة وحمل لقب الملك، على أن يحل عبد الله محله مدة غيابه وحمل لقب شيخ، حيث انتقل هذا النظام الذي وضع أساسه الحليفان إلى أولادهما من بعدهما.
حيث اتخذ عبد الله مدينة "قرى" مقرا له، وأخذ عمارة مدينة سنّار لتصبح عاصمة الفونج التي امتدت مساحتها من سواكن شرقا إلى النيل الأبيض غربا ومن أقصى جبال فازوغلي جنوبا إلى الشلال الثالث شمالا، أي انها اشتملت على معظم النوبا العليا علوة وقسم كبير من بلاد النوبة الشمالية مقرة، حيث يقال أن حملة حربية أرسلها ملك سنار لإخضاع النوبة السفلى ووصلت حتى الشلال الثالث ولما أراد قائد الحملة التقدم شمالا هزمته جيوش الغز الأتراك عند "حنك"، وبهذا ظلت حنك (شمال دنقلة) تمثل حدا فاصلا بين نفوذ الفونج جنوبا وبين نفوذ الأتراك الذي شمل النوبة السفلى من حنك إلى أسوان.
وهكذا تم ميلاد هذه الدولة الإسلامية أوائل القرن السادس عشر ميلادي على أنقاض مملكة علوة المسيحية، هذه الدولة اشتملت على عناصر مختلفة؛ عربية، حامية، شبه زنجية، وهي ذات ثقافات مختلفة ومختلطة.