مملكة الفونج في السودان الشرقي

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء
Livre: مملكة الفونج في السودان الشرقي
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Saturday 23 November 2024, 11:49

Description

تتناول هذه المحاضرة التكوين السياسية والتطور الحضاري لمملكة الفونج الإسلامية في السودان الشرقي. 

1. مقدمة

يطلق لفظ النوبة على أجزاء وادي النيل الممتدة على جانبي نهر النيل الأعظم من أسوان إلى جنوبي إلتقاء النيلين الأبيض والأزرق، بالإضافة إلى مناطق من حوض النيل الأزرق والأتبرا حتى أطراف الحبشة شرقا وأقاليم كردفان ودارفور غربا، حيث نشأت ثلاث ممالك مسيحية على أديم النوبة بلاد النوبة مسيحية امتد نفوذها من الشلال الأول حتى إقليم سنّار على ضفاف نهر النيل الازرق؛ أول هذه الممالك من الشمال هي المريس (Elmaris) أو نوباتا (Noubata) وعاصمتها المرس وقيل "نوباديا" والعاصمة "فرص"، وفي الوسط مملكة المقرة (Elmakara) وعاصمتها دنقلا (Dengala)، أما في الجنوب نجد مملكة علوة (Oloua) وعاصمتها سوبا (Souba). 

منذ الربع الأول من القرن الرابع عشر، لم تعد بلاد النوبة وطن النوبيين فحسب بل شاركهم فيها قبائل عربية من غير بني كنز، حيث لم يعد الشلال الثاني حاجزا يمنع تدفقهم جنوبا ، بل كثيرا من الجماعات العربية التي تعيش في مصر  والتي اشتركت في الحملات المملوكية على بلاد النوبة مدة نصف قرن  من عام 1276 إلى غاية 1323م، هذه الجماعات استقرت في مقرة عقد انسحاب القوات المملوكية مثل بني بكر، بني عمر، بني شيبان، بني هلال وغيرهم.

والواضح أن دولة كنز قد استعانت بالعرب المقيمين في بلاد النوبة للوصول إلى سدة العرش، حيث أصبح العرب قوة وكثرة عددية تمكنوا من التغلب على بقايا بيوت الإمارة النوبية القديمة، فضلا عن تحدي السلطان المملوكي والإستقلال عنه، حيث كان دور العرب الذين استقروا في بلاد النوبة هو القضاء على مظاهر الملكية النوبية المسيحية، بإزالة البيت الملكي النوبي القديم وإحلال العنصر العربي محله، حيث اختلط النوبيون واعتنق الكثير منهم الإسلام منذ القرن التاسع الميلادي وهذا في أرض مريس ثم فيما بعد جنوبا منذ منتصف القرن الثالث عشر ميلادي، حيث انتشر الإسلام في بلاد النوبة سيما بعدما أضحى ملوك النوبة من المسلمين وبذلك اقطعت الجزية بإسلامهم (معاهدة البقط) حسب ابن خلدون.

وخلاصة القول أنه لم يكد ينتصف القرن الرابع عشر حتى كان النوبيون قد اعتنقوا الإسلام باستثناء أقلية نوبية ظلت على المسيحية حتى أواخر القرن الخامس عشر. الأمر الذي عجل بسقوط مملكة مقرة  التي ظلت تقاوم لوحدها دون نتيجة الضغط  العربي والمملوكي عليهم  وعدم دعمهم من الممالك المسيحية المجاورة، لاسيما أمام النزاع الذي نشب بين ملوك النوبة وملوك علوة والذي كان من أهم العوامل التي عجلت بسقوط مملكة مقرة عام 1323م،. وظل بنو كنز يمثلون أقوى العناصر النوبية المستعربة في بلاد النوبة حتى نهاية الدولة المملوكية الثانية في مصر والشام عام 1517 على يد السلطان سليم.

2. سقوط مملكة علوة

بعد سقوط مملكة مقرة المسيحية أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، أدى إلى ازدياد موجة الهجرات العربية، وتعتبر هجرة جهينة العربيةالتي أشار إليها ابن خلدون هي واحدة من خليط هائل من القبائل العدنانية والقحطانية وبطونها المختلفة التي تجمعت في أنحاء النوبة الشمالية عقب سقوط دنقلة، هذه القبائل اتجهت جنوبا نحو سنار الحالية بسبب فقر البيئة الشمالية للنوبة وندرة مراعيها، حيث قال عنهم ابن خلدون: " وانتشروا (أي جهينة) ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكاثروا هناك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد".

يبدو أن العرب لم يجدوا مقاومة قوية من قبل ملوك علوة، حيث نحج العرب في تحقيق مآربهم لا بحد السيف بل بالإختلاط والتزاوج من بنات المملكة، حيث يقول ماكمايكل: " إن كل الدلائل تشير إلى أن النصر –باستثناء أقاليم معينة كإقليم جبال النوبا حيث لا يزال العرب يمتلكون الشهول، على حين يسكن الزنوج التلال-  قد تم غالبا بالإتفاق والتزاوج أكثر مما أكتسب بقوة السلاح".

في البداية كانت هذه القبيلة تحت سلطان علوة، محافظة على نظامها القبلي وكانوا يدفعون الأتاوى لملوك علوة، ومع توصل هجرات جديدة على مر القرون كثرت أعدادهم، حيث أصبح لجهينة 25 وحدة قبلية قرب سوبا على النيل الأزرق وأكثر منها في الأقاليم الغربية في أوائل القرن السادس عشر ميلادي، ثم اشتد ضغط أعراب جهينة على ملوك علوة الذين حاولوا صدهم، ولما لم يستطيعوا لهم دفعا استمالوهم بالمصاهرة، فانتقل الملك إلى أبناء جهينة ببنات ملوك علوة حسبما يقتضي به نظام الوراثة المعروف عند النوبيين جميعا ففترق ملكم كما قال ابن خلدون في القرن الخامس عشر ميلادي.

المعروف أن مملكة علوة المسحية تألفت من عدة مملك صغيرة خاضعة للملك الكبير في سوبا، هذه الممالك الصغيرة هي التي انتقل سلطانها لأبناء جهينة، في حين قام السلكان الأكبر بتحويل المدينة تسمى سوبا بمدينة كوسة في القرن الرابع عشر، وبهذا تفقد سوبا مكانتهاالقديمة.

وما يمكن قوله أن قبائل جهينة لم تكن الوحيدة التي أفادت من تداعي مملكة علوة وانحلالها بل شاركتها القابلئ العربية الأخرى التي استقرت في جهات متعددة من مملكة علوة وعلى هذا نشأة في جوفها عدة امارات عربية مستقلة.

ففي القرن الخامس عشر ظهرت عدة ممالك ومشيخات اسلامية في حوض النيل الأوسط، وكان لظهورها أثر خطير في تطور الحياة الإجتماعية والسياسية، مما ساعد على زوال بعض الأسس التي قامت عليها الملكية المسيحية في علوة، واضحت الأرض ملكا للجماعة القبلية بعد أن كانت ملكا خاصا للملك، وصارت الأرض توزع على الجماعة يقومون على استغلالها ودفع الضريبة عنها لشيخ القبيلة أو زعيم الدار، وهذا يعني الأنتقال من مرحلة الإقطاع المطلق إلى نظام يعطي للفرد نصيبا من جهوده.

وثمة تطور آخر على الحياة السياسية، وذلك بالأنتقال من نظام الوراثة القديمة القائم على نظام الأمومة إلى نظام وراثي في بيت شيخ القبيلة أو الدار والذي يتكون من مجموعات القائل في الإقليم الذي اتخذته دارا لها، ولعل أهم لقيام هذه المشيخات الإسلامية في حوض النيل الأوسط، وهو ازدياد انتشار الإسلام بين كثير من أهل البلاد.

رغم التطور الإجتماعي والسياسي في هذا الجزء من النيل إلا أن هذا لم يؤد إلى الإستقرار بفعل اختلال الأمن والنزاع بين القبائل العربية حول مواطن الرعي وبين الوطنيين من ناحية أخرى مما أدى إلى تدهور الأوضاع الإقتصادية ، الأمر الذي تم التفكير في انشاء حكومة مركزية تخضع لها شتى الجماعات والقبائل المتنازعة لإقرار الأمن وحماية طرق التجارة القديمة.

وهنا قام عمارة دونقس زعيم الفونج وجمع رجاله في جبل مويا، وتحالف معه عبد الله (عبدلاب) شيخ عرب القواسمة من جهينة فأخضعوا ملك العنج وملك الغرب عام 1505م فانتصر فيها الحلفان ففر العنج إلى جبال فازوغلي وكردفان وبقي منهم القليل اعتنقوا الإسلام.

وقد اشترط الحلف بين الحليفين عمارة وعبد الله أن يكون عمارة هو المقدم على زميله في الزعامة وحمل لقب الملك، على أن يحل عبد الله محله مدة غيابه وحمل لقب شيخ، حيث انتقل هذا النظام الذي وضع أساسه الحليفان إلى أولادهما من بعدهما.

حيث اتخذ عبد الله مدينة "قرى" مقرا له، وأخذ عمارة مدينة سنّار لتصبح عاصمة الفونج التي امتدت مساحتها من سواكن شرقا إلى النيل الأبيض غربا ومن أقصى جبال فازوغلي جنوبا إلى الشلال الثالث شمالا، أي انها اشتملت على معظم النوبا العليا علوة وقسم كبير من بلاد النوبة الشمالية مقرة، حيث يقال أن حملة حربية أرسلها ملك سنار لإخضاع النوبة السفلى ووصلت حتى الشلال الثالث ولما أراد قائد الحملة التقدم شمالا هزمته جيوش الغز الأتراك عند "حنك"، وبهذا ظلت حنك (شمال دنقلة) تمثل حدا فاصلا بين نفوذ الفونج جنوبا وبين نفوذ الأتراك الذي شمل النوبة السفلى من حنك إلى أسوان.

وهكذا تم ميلاد هذه الدولة الإسلامية أوائل القرن السادس عشر ميلادي على أنقاض مملكة علوة المسيحية، هذه الدولة اشتملت على عناصر مختلفة؛ عربية، حامية، شبه زنجية، وهي ذات ثقافات مختلفة ومختلطة.

3. قيام مملكة الفونج الإسلامية

لقد ظلت الهجرات العربية، الفردية والجماعية، تصل بلاد النوبة عبر فترات متفرقة، منذ القرن الأول الهجري وحتي القرن العاشر عبر حدود مصر والبحر الأحمر ، ورغم النصر الكبير الذي تحقق بسقوط مدينة دنقلا سنة 1317م ، واعتلاء عرشها ملك مسلم إلا أن البلاد تعرضت للفوضي والفرقة .

وظلت مملكة علوة المسيحية قائمة في المناطق الوسطي من النوبة، ولم تحسم قضية التحول الحضاري نهائيا في بلاد النوبة إلا بقيام دولة الفونج الإسلامية سنة 1504م علي يد عمارة ابن عدلان ( دنقس) وعبدالله جماع . وبذلك استطاعت دولة الفونج أن تقدم للنوبة حكومة قوية موحدة ، ودولة شملت أكثر المناطق التي تكون بلاد النوبة وادي النيل ، استطاعت أن تقدم جهدا عظيما في التمكين للإسلام والحضارة الإسلامية فيه .

وكان لها الفضل في إعطاء النوبة وجهه العربي الإسلامي الذي يظهر فيه اليوم باسم جمهورية السودان، إن الحكم على مدى أهمية الدور الحضاري الذي قامت به دولة الفونج الإسلامية في النوبة يقتضينا القيام بدراسة شاملة لمختلف الجوانب الحضارية التي حققتها هذه الدولة في بلاد النوبة ، حتي نتبين الوحدة في المنطلق الفلسفي الذي يتحكم في مظاهر هذه الحضارة ، ومدي الترابط والتجانس في هذه المظاهر ، دراسة تتناول المظاهر السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

3.1. نشأة مملكة الفونج

كان لسقوط دولة المقرة في شمال النوبة على يد المسلمين ، واعتلاء عرشها ملك مسلم عام 1317م تمهيدا لتحول السلطة في كل أقاليم النوبة الوسطى والجنوبية للقبائل العربية المسلمة ، وقد مرت فترة ليست بالقصيرة حتي قيام مملكة الفونج الإسلامية، حيث تكاثر العرب في إقليم علوة ، وبرز وجودهم بصورة واضحة حتى طغى على السكان الأصليين ، وإنتشر بذلك الإسلام يوما بعد يوم.

وقد كان قيام مملكة الفونج الإسلامية ثمرة تحالف بين الفونج بقيادة زعيمهم عمارة ابن عدلان ( دنقس )، والعبدلاب بقيادة زعيمهم عبدالله جماع سنة 1504م على أرجح الأقوال،
وتشير المصادر إلى أن عبدالله جماع زعيم العبدلاب قام بالدور مهم في هذا الحلف وعمل على تجميع كل القبائل العربية في المنطقة ، وعلى لعب الفونج الدور الاعظم بساقط مملكة علوة المسيحية ، لتحقيق أهدافه وغاياته النبيلة في الإنتصار للإسلام والمسلمين ، فكان عمارة معروف بثقابة الفكر ، وسداد الرأي ، وقوة الشكيمة ، وكان ظهوره في مسرح الأحداث في السودان في مستهل القرن السادس عشر الميلادي نقطة تحول بارزة في تاريخ السودان، أما الفونج فقد كان دورهم الرئيسي في قيام المملكة هو الإشتراك بقوة عسكرية غالبة أدت إلى سقوط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا.

إن قيام دولة الفونج كان مـن الأحداث ذات الشأن في تاريخ النوبة وإفريقيا ، ولم يكن مثل هذا الحدث أمراً هيناً كما يتصور البعض ، وقد ترتبت عليه نتائج هامة علي الصعيدين المحلي والعالمي ، وقيامها كان إعلانا رسميا لإنتشار الدين الإسلامي والسيطرة العربية في بلاد النوبة.

لقد بدأ بقيام دولة الفونج الإتصال الرسمي بين النوبة والبلاد العربية والإسلامية ، وهذا يعتبر تحولا هاما ومنعطفا خطيرا ستكون له آثاره المستمرة علي مدي الأيام ، وكان انتصارا لحركة الجهاد الإسلامي في إفريقيا ، وعم الفرح والسرور معظم البلاد الإسلامية لأنها كانت بلسما لجراح المسلمين الذين أصابهم الحزن والاسي لسقوط دولة الأندلس على يد المسيحيين عام 1492م في وقت قريب من قيام دولة الفونج .

3.2. نظم الحكم والإدارة في مملكة الفونج

لقد وضعت الأسس الأولي للنظام السياسي والإداري الذي سارت عليه دولة الفونج الإسلامية في الإتفاق الذي تم بين عمارة دنقس وعبدالله جماع، وبهذا الاتفاق تم ترتيب نظام الحكم والإدارة، حيث اختار مؤسسا الدولة النظام الملكي الوراثي أسلوبا لممارسة الحكم والإدارة .

وبموجب هذا النظام أصبح عمارة دنقس زعيم الفونج ملكا على الدولة يمارس سلطاته من عاصمته التي اختطها وهي مدينة "سنّار "، بينما يكون عبدالله جماع وقومه نواباً عنهم في إدارة الأقاليم التابعة لهم في القسم الشمالي من الدولة وعاصمتهم "قرى".

ولم يكن هذا النظام الملكي غريبا على النوبة ، فقد كانت مملكتا المقرة وعلوة ، تمارسان نظاما ملكيا ، كما أن هذا النظام الملكي الوراثي كان مألوفا في الدول الإفريقية والبلاد العربية منذ القدم .

ولم يكن النظام الملكي لدولة الفونج الإسلامية ، نظاما مستبدا كما يظهر للوهلة الاولي ، وإنما كان يأخذ بالشورى ، فقد كان للدولة مجلس شوري يساعد في اختيار الحكام وتسيير شئون الدولة ، وكذلك يقوم بعزل السلطان إذا اقترف مايستحق العزل.

وقد أخذت الدولة بنظام الحكم اللامركزي ، لأنه يناسب طبيعة النظام القبلي الذي ينزع إلى الحرية ، وكان سائدا في الدولة ، كما يناسب أيضا طبيعة التحالف بين الفونج والعبدلاب ، الذي يعطي العبدلاب قدرا كبيرا من الحرية والاستقلال الذاتي في ظل التبعية لملوك سنّار داخل الدولة الواحدة . كما أن النظام اللامركزي يناسب أيضا ما يتطلبه اتساع بقاع السودان، من توفر قدر كبير من الاستقلال والحرية والحكم اللامركزي . ويتضح لنا أن نظام اللامركزية كان النظام الامثل والاوفق لمقابلة ظروف السودان في تلك المرحلة .

3.3. النظام العسكري لمملكة الفونج

اعتمدت دولة الفونج الإسلامية اعتمادا كبيرا علي الجهاز الحربي ، وهي مدينة في وجودها للقوة الحربية التي كانت تتمتع بها ، فقد رأينا أن ظهورها كان ثمرة انتصار حربي ، وأن دور الفونج الاساسي في الحلف الذي أدي إلى اسقاط دولة علوة وتخريب عاصمتها سوبا ، هو مهمة تجهيز الجيش.

وقد استطاع هذا الجيش الانتصار على طلائع الدولة العثمانية في حنك بالقرب من الشلال الثالث وأوقف بذلك زحف السلطان سليم الذي فتح مصر عام 1517م، وقد لاحظ بروس الرحالة الاوربي الذي زار سنار سنة 1772م ، قوة جيش الفونج وسطوته ، ووصف براعة الخيالة، بأنها كانت أعظم قوة ضاربة في أعالي النيل ، وكان يحتفظ بها دائما على درجة مرموقة من الكفاية واللياقة، غير أن هذه القوة الحربية كانت في النهاية السبب الرئيسي في تحول السلطة من أيدي ملوك الفونج إلى الهمج بقيادة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش .

3.4. النظام القضائي لمملكة الفونج

كان لظهور الفونج والعبدلاب في مسرح الأحداث في النوبة ايذانا بظهور نظم قضائية جديدة للمجتمع السوداني تقوم على النظام الإسلامي ، فمباديء الإسلام تعني عناية كبيرة بالعدالة ، كما أن الشريعة الإسلامية واجبة الاتباع على كل مسلم.

وهكذا عندما قامت دولة الفونج الإسلامية ، ارتبط النظام القضائي في النوبة بالإسلام ارتباطا وثيقاً ، وغلب عليه فقه الإمام مالك لأنه المذهب الغالب في السودان، وبذلك أصبح الفضاء الإسلامي سمة من سمات دولة الفونج ، وركيزة من ركائزها ، وأصبحت الشريعة الإسلامية هي القانون الذي يقوم عليه القضاء في عهد الفونج .

4. الجوانب الحضارية لمملكة الفونج

.الجوانب الحضارية لمملكة الفونج

4.1. الجانب الإجتماعي

باستمرار الهجرات العربية ودخول الإسلام في النوبة ، ثم قيام دولة الفونج الإسلامية حدثت نقلة جذرية في طبيعة التكوين الاجتماعي للسكان ، وطبيعة نظم الحكم وحياة المجتمع ، فقد زال ما كان قائماً من فوارق بين الراعي والرعية ، واستردت الرعية حريتها الفردية ، بعد أن كانت تعاني من عبودية مطلقة للملك ، وأصبحت تنعم بحياة كريمة في ظل التقاليد القبلية العربية والإسلامية .

وبذلك قضي الإسلام على نظام يقوم على أسس إقطاعية ليقيم مكانة مجتمعاً يقوم على مبدأ الإنسانية ويتمتع بالحرية والمسئولية الاجتماعية والمساواة الكاملة ، ويترجح لنا أن ذلك كان من أهم الأسباب التي جعلت السكان المحليين يسارعون لدخول الإسلام والإنضواء في بوتقة المجتمع الجديد إذ أن الإسلام أنقذهم من العبودية لملوكهم .

وبذلك فقد تشرب المجتمع الجديد العادات والتقاليد الإسلامية والعربية، وبالتدريج تغلبت العربية على اللهجات المحلية، وأصبح المجتمع الجديد مجتمعا إسلاميا في تكويناته واتجاهاته ومثله وأهدافه وأشواقه، وانمحت الفروق الواسعة بين فئات المجتمع، ولم يلمس الرحالة الأجانب وجود طبقات اجتماعية، فالأثرياء وحتي الملــــوك والسلاطين يأكلون ويلبسون مثل ما يفعل أفراد الشعب.

وكان جانب المساواة الاجتماعية بين أفراد الشعب وطبقاته المختلفة من أهم العوامل التي ساعدت علة تحقيق وحدة اجتماعية حقيقية في المجتمع النوبي في عهد دولة الفونج الإسلامية ، فالإسلام يقيم الروابط الوثيقة على أساس التقوى وليس على أساس اللون أو العنصر ، وهذا ما ساعد على اختلاط القبائل العربية بالقبائل النوبية المحلية وانخراط الجميع في التكوين الاجتماعي الجديد علي أساس مباديء الدين الإسلامي ، وقد روي صاحب الطبقات أن الفقيه عمار أراد أن يزوج ابنته لتلميذه عبدالله بن صابون وهو مملوك لأمراة ، وقال في ذلك : " ماوجدت لها كفؤا غيره" ، قال تعالى :"إن أكرمكم عندالله اتقاكم ".

4.2. الجانب الإقتصادي

تعتبر دولة الفونج الإسلامية عموما ، من الدول التي تمتعت بظروف اقتصادية طيبة ، شملت مختلف ضروب النشاط الاقتصادي ، كالتجارة والزراعة والرعي ، وقد اشتهرت سنار بالثروة والغني،  كما اشتهرت من قبلها الممالك المسيحية القديمة ، وقد تمثلت هذه الظروف الاقتصادية في توفر الأراضي الخصبة وكثرة الأمطار ، ووجود نهر النيل وفروعه المختلفة .

وقد كان تنظيم الاقتصاد في عهد الفونج انعكاسا لسياسة الدولة الإسلامية الناشئة ، فقد أصبحت مظاهر الاقتصاد في كثير من جوانبها إسلامية خالصة ، واخذت الدولة بالنظام الضريبي الإسلامي المتمثل في الزكاة والعشور والخراج، كما أخذت بنظام بيت المال الإسلامي وموارده المختلفة ، كما أصبح نظام ملكية الأرض مشابها لنظام الملكية في الدولة الإسلامية ، وتحولت ملكية الأرض للدولة بعد أن كانت سابقا ملكا خاصا للملك.

ومن ناحية أخري كان الاقتصاد في دولة الفونج انعكاسا للحكم اللامركزي الذي سارت عليه الدولة ، فقد كانت اللامركزية تشمل أيضا فروع بيت المال في الأقاليم،
ولم تكن الإدارة المحلية تتطلب دخلا كبيرا ، ولذلك لم يفرض ملوك سنّار على أقسام دولتهم غير جزية معلومة بسيطة يجمعها حاكم القسم ويدفعها للدولة ، وفي ظل هذا النظام اللامركزي للتنظيم الاقتصادي ، اكتفت الدولة بالإشراف العام على الإقتصاد ولم تتدخل تدخلا كبيرا في التحكم في توجيهه أو احتوائه .

وعموما فإن الاقتصاد في عهد دولة الفونج رغم السلبيات التي لحقت به كالمجاعات والكوارث التي كانت تصيب البلاد من حين إلي حين ، إلا أن بعض الإيجابيات قد تحققت بفضل دولة الفونج ومن ذلك :

-      ارتبط نظام الاقتصاد بالنظم الإسلامية في المعاملات في البيع والشراء وتحريم الربا والغش والإحتكار

-    تطور نظام ملكية الأرض ، وأصبحت له اسس ثابتة وفق النظام الإسلامي بعد أن كانت الأرض ومن عليها ملكا للملك في النظم السابقة.

-    النظام الضريبي في الدولة رغم مظاهر البساطة إلا أنه في كثير من تفصيلاته ينبع من الإسلام فهو يقوم علي الزكاة والعشور والجمارك والضرائب المختلفة التي عرفت في الدولة الإسلامية .

انتظمت القوافل التجارية بين دولة الفونج والبلاد العربية والإسلامية وأصبحت التجارة اكثر رواجاً

4.3. الجانب الفكري

لقد كان لقيام دولة الفونج الإسلامية ، ميلاد دولة عربية إسلامية ، ذات إتجاه فكري محدد نحو الإسلام والحضارة الإسلامية ، وانتماء عضوي للكيان العربي الإسلامي ، والإسلام يرادف كلمة حضارة ، وعندما تقوم له دولة تصبح هذه الحضارة دستورها وأهم دعائمها في كل مايتصل بكيانها.

وهكذا يمكننا أن نعتبر قيام دولة الفونج وبقية الممالك الإسلامية في النوبة هو الميلاد الحقيقي لغلبة الثقافة العربية والإسلامية في النوبة، وأما ماسبقها من جهود فهو حالة المخاض التي هيأت لهذا الميلاد ، ووضعت بذوره وبداياته حتي اكتملت عناصره .

لقد جاءت الحركة الفكرية في النوبة تعبيرا عن هذا الإتجاه الفكري ونتاجا طبيعياً لغلبة التيار الإسلامي العربي ، وثمرة لكافة الجهود التي بذلت في هذا السبيل ، سواء من ملوك الفونج ، أو مشايخ العبدلاب ، وزعماء البلاد الآخرين أو العلماء ومشايخ الطرق الصوفية أو عامة الشعب ، لقد أصبحت الوجهة الحقيقية للدولة وجهة إسلامية ، ولم يكن هناك مجال لأي اتجاه آخر، فمنذ البداية اختفي كل نشاط رسمي للمسيحية .

كما أن محاولات روبيني اليهودي في زيارته المشبوهة للنوبة عند قيام دولة الفونج ، لم تحدث أي أثر في الحياة الفكرية في النوبة، ولكنها دلالة قاطعة هي ومثيلاتها على إتجاه النوبيين آنذاك إلى الانصهار في البلاد العربية قاطبة ، وقد كانوا يشعرون ، بأنهم جزء لايتجزأ من العالم العربي.

وقد استقبل العالم الإسلامي دولة الفونج الإسلامية ، بما يوحي بهذا الدور الذي اضطلعت به، والتوجه الإسلامي الذي اتخذته، وقد استطاعت هذه الدولة الجديدة أن تحتوي العنصرين العربي والإفريقي في تكامل ثقافي في بوتقة الحضارة الإسلامية، فلم يعد هناك صراع أو تنافر وإنما حدث إنسجام تام وانصهار داخل الوعاء الحضاري الجديد، انبثقت منه كل الاسس الفلسفية والفكرية للمظاهر الحضارية في دولة الفونج الإسلامية .

وقد تشكل النتاج الفكري الثقافي في عهد الفونج ، ممثلاً في الحركة الدينية الثقافية بشقيها العلمي والصوفي، ولكــل منهما أسبابه ومظاهره وتأثيره في المجتمع، حيث
كان الاتجاه السائد في دولة الفونج الإسلامية عدم التدخل في توجيه الحركة الفكرية لمصلحة مذهب ديني معين، وإنما فتح الباب للجميع من العلماء والفقهاء والمتصوفة ، دون تدخل في تأييد مذهب على آخر أو طريقة على طريقة ، وكانت الدولة تكرم الجميع وترحب بهم ،وتسمح بكل نشاط ديني إسلامي، ما لم يهدد سلطانها، ولذا فقد إنتشرت مجموعة من الطرق الصوفية ، إلى جانب العلماء ، كما عرفت مذاهب متعددة منها المذهب المالكي والشافعي .

وكما أشرنا من قبل فقد اتخذت الحركة الفكرية في النوبة مظهرين هامين هما : الطرق الصوفية والحركة العلمية ولكل منهما تأثير واضح في المجتمع النوبي في عهد الفونج، إلا أن الثقافة الصوفية بما فيها من اعتدال أو شطط اصبحت هي الغالبة علي الحركة الفكرية في النوبة في عهد الفونج حتي صارت سمة عليها.

ورغم هذه الهيمنة للثقافة الصوفية ، إلا أن الثقافة العلمية الدينية كانت هي الأسبق في النو حيةث ارتبطت بدخول الإسلام فيه ، قبل قيام دولة الفونج، ولما تأسست دولة الفونج دخلت مجموعة من العلماء والفقهاء وبدات حركة علمية نشطة لتدريس العلوم الإسلامية الشرعية المختلفة وهي علوم القرآن والحديث والفقه والتوحيد وعلوم اللغة العربية ، ويزيد من تأثير هذه الحركة وقوتها ، الحاجة الملحة للتعليم الديني الصحيــح ، ولكن يقلل من فعاليتها اتساع بقاع النوبة ، وثقل المهمة التي كانت تنتظر تحويل النوبة من بلاد كانت خاضعة للمسيحية إلى بلاد إسلامية .

هذه الفئة من حملة الفكر والثقافة الإسلامية ، التي اتخذت مجال التعليم الديني ، وحملت لواء الثقافة العلمية وأسست المساجد والزوايا في كل أنحاء البلاد، يرجع الفضل الأكبر في نشر الإسلام وبث مبادئه الصحيحة في النوبة، ومن هؤلاء أولاد جابر الركابي في بلاد الشايقية ، ومدرسة الغبش في بربر ، والمجاذيب فـي الدامر ، ومدارس قوز العلم بمنطقة شندي ومدرسة إسلانج ، وأم عضام ، ومدارس الحلفاية ، ودنقلا تحت رعاية ابناء سوار الذهب ثم حفير مشو وسنار والهلالية وأربجي ، وهناك كثير غيرها ظلت مشاعل هدي إلي مابعد عهد الفونج .

وقد ظل مسجد كترانج عامرا بدروس العلم والقرآن خمسة قرون لم تنقطع إلا قليلا ، وقد استطاعوا بقوة الصبر وقوة العزيمة والإحتمال ، والجهد المتصل أن يدفعوا عن البلاد ظلام الجهل والضلال ، ويشيعوا في أرجائها نور الإيمان والهداية ، وبفضل هؤلاء العلماء انقشع ظلام الجهل وتقدم الوعي الديني وارتفعت مدارك الناس الدينية وصلح إسلامهم.

ولابد أن نذكر بالتقدير دور الفونج في هذه الحركة الفكرية والذين كان دورهم يمثل جانبا من أهم هذه الأدوار جميعا ، فهم الذين حسموا قضية الصراع الفكري في البلاد لمصلحة الإسلام ، وهيأوا المناخ الصالح للحركة الثقافية بشقيها الصوفي والعلمي ، وشجعوا الفقهاء والعلماء من جميع البلاد دون حجر علي بلد دون بلد ، وفكر دون فكر ، وفتحوا لهم قلوبهم وقصورهم وخزائنهم وتأييدهم المطلق وتشجيعهم حتي أصبحت النوبة في وقت قريب قطرا إسلاميا تحتل مكانة بين البلاد الإسلامية ، وينعم اليوم بفضل هذا العمل الفكري والديني الكبير ، كما أسس العبدلاب المراكز الثقافية والرواقات فـي الحجاز ومصر لتشجيع طلاب العلم ، وساهموا في هذه الحركة الفكرية بجهد كبير .

5. تدهور المملكة وسقوطها

بلغت دولة الفونج أوج قوتها واتساعها في عهد السلطان بادي أبوشلوخ ، إذ تحققت في عهده أعظم انتصاراتها على الحبشة وكردفان غير أن هذا العهد كان يحمل في طياته بداية النهاية لهذه الدولة فقد طغى الملك بادي وانغمس في اللهو والفساد مما أدي إلي تحويل السلطة للهمج بزعامة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش في كردفان ، وتم عزل السلطان بادي ، وتولي الملك ابنه ناصر سنة1751م وكان ضعيفا ، فصار الحـــل والربط بين الهمج وتغلبوا على الفونج.

وبدأ عهد الضعف والإنهيار ، وأصبحت القوة هي الطابع الأساسي الذي ينظم علاقة الحاكم بشعبه ، وبدأ عهد الصراع بين الوزراء والملوك ، وانتهي عهد الشوري ، وامتد الصراع إلي الهمج أنفسهم فكثر القتل والعزل بين الملوك والوزراء والخلافات والحروب الأهلية .

حتي إذا دخلت جيوش محمد علي باشا بقيادة ابنـــه اسماعيل لم نجد أي مقاومة تذكر، ولم يسع زعماء سنّار الا التسليم والطاعة ، ووقع بادي السادس آخر ملوك سنار تنازلا عن جميع سلطاته لخليفة المسلمين بالقسطنطينية مبايعا له في 13 يونيو سنة 1821، وكان ذلك ختاما ونهاية لدولة الفونج الإسلامية التي ظلت تحكم السودان مايزيد على ثلاثة قرون .