4. الجوانب الحضارية لمملكة الفونج
4.3. الجانب الفكري
لقد كان لقيام دولة الفونج الإسلامية ، ميلاد دولة عربية إسلامية ، ذات إتجاه فكري محدد نحو الإسلام والحضارة الإسلامية ، وانتماء عضوي للكيان العربي الإسلامي ، والإسلام يرادف كلمة حضارة ، وعندما تقوم له دولة تصبح هذه الحضارة دستورها وأهم دعائمها في كل مايتصل بكيانها.
وهكذا يمكننا أن نعتبر قيام دولة الفونج وبقية الممالك الإسلامية في النوبة هو الميلاد الحقيقي لغلبة الثقافة العربية والإسلامية في النوبة، وأما ماسبقها من جهود فهو حالة المخاض التي هيأت لهذا الميلاد ، ووضعت بذوره وبداياته حتي اكتملت عناصره .
لقد جاءت الحركة الفكرية في النوبة تعبيرا عن هذا الإتجاه الفكري ونتاجا طبيعياً لغلبة التيار الإسلامي العربي ، وثمرة لكافة الجهود التي بذلت في هذا السبيل ، سواء من ملوك الفونج ، أو مشايخ العبدلاب ، وزعماء البلاد الآخرين أو العلماء ومشايخ الطرق الصوفية أو عامة الشعب ، لقد أصبحت الوجهة الحقيقية للدولة وجهة إسلامية ، ولم يكن هناك مجال لأي اتجاه آخر، فمنذ البداية اختفي كل نشاط رسمي للمسيحية .
كما أن محاولات روبيني اليهودي في زيارته المشبوهة للنوبة عند قيام دولة الفونج ، لم تحدث أي أثر في الحياة الفكرية في النوبة، ولكنها دلالة قاطعة هي ومثيلاتها على إتجاه النوبيين آنذاك إلى الانصهار في البلاد العربية قاطبة ، وقد كانوا يشعرون ، بأنهم جزء لايتجزأ من العالم العربي.
وقد استقبل العالم الإسلامي دولة الفونج الإسلامية ، بما يوحي بهذا الدور الذي اضطلعت به، والتوجه الإسلامي الذي اتخذته، وقد استطاعت هذه الدولة الجديدة أن تحتوي العنصرين العربي والإفريقي في تكامل ثقافي في بوتقة الحضارة الإسلامية، فلم يعد هناك صراع أو تنافر وإنما حدث إنسجام تام وانصهار داخل الوعاء الحضاري الجديد، انبثقت منه كل الاسس الفلسفية والفكرية للمظاهر الحضارية في دولة الفونج الإسلامية .
وقد تشكل النتاج الفكري الثقافي في عهد الفونج ، ممثلاً في الحركة الدينية الثقافية بشقيها العلمي والصوفي، ولكــل منهما أسبابه ومظاهره وتأثيره في المجتمع، حيث
كان الاتجاه السائد في دولة الفونج الإسلامية عدم التدخل في توجيه الحركة الفكرية لمصلحة مذهب ديني معين، وإنما فتح الباب للجميع من العلماء والفقهاء والمتصوفة ، دون تدخل في تأييد مذهب على آخر أو طريقة على طريقة ، وكانت الدولة تكرم الجميع وترحب بهم ،وتسمح بكل نشاط ديني إسلامي، ما لم يهدد سلطانها، ولذا فقد إنتشرت مجموعة من الطرق الصوفية ، إلى جانب العلماء ، كما عرفت مذاهب متعددة منها المذهب المالكي والشافعي .
وكما أشرنا من قبل فقد اتخذت الحركة الفكرية في النوبة مظهرين هامين هما : الطرق الصوفية والحركة العلمية ولكل منهما تأثير واضح في المجتمع النوبي في عهد الفونج، إلا أن الثقافة الصوفية بما فيها من اعتدال أو شطط اصبحت هي الغالبة علي الحركة الفكرية في النوبة في عهد الفونج حتي صارت سمة عليها.
ورغم هذه الهيمنة للثقافة الصوفية ، إلا أن الثقافة العلمية الدينية كانت هي الأسبق في النو حيةث ارتبطت بدخول الإسلام فيه ، قبل قيام دولة الفونج، ولما تأسست دولة الفونج دخلت مجموعة من العلماء والفقهاء وبدات حركة علمية نشطة لتدريس العلوم الإسلامية الشرعية المختلفة وهي علوم القرآن والحديث والفقه والتوحيد وعلوم اللغة العربية ، ويزيد من تأثير هذه الحركة وقوتها ، الحاجة الملحة للتعليم الديني الصحيــح ، ولكن يقلل من فعاليتها اتساع بقاع النوبة ، وثقل المهمة التي كانت تنتظر تحويل النوبة من بلاد كانت خاضعة للمسيحية إلى بلاد إسلامية .
هذه الفئة من حملة الفكر والثقافة الإسلامية ، التي اتخذت مجال التعليم الديني ، وحملت لواء الثقافة العلمية وأسست المساجد والزوايا في كل أنحاء البلاد، يرجع الفضل الأكبر في نشر الإسلام وبث مبادئه الصحيحة في النوبة، ومن هؤلاء أولاد جابر الركابي في بلاد الشايقية ، ومدرسة الغبش في بربر ، والمجاذيب فـي الدامر ، ومدارس قوز العلم بمنطقة شندي ومدرسة إسلانج ، وأم عضام ، ومدارس الحلفاية ، ودنقلا تحت رعاية ابناء سوار الذهب ثم حفير مشو وسنار والهلالية وأربجي ، وهناك كثير غيرها ظلت مشاعل هدي إلي مابعد عهد الفونج .
وقد ظل مسجد كترانج عامرا بدروس العلم والقرآن خمسة قرون لم تنقطع إلا قليلا ، وقد استطاعوا بقوة الصبر وقوة العزيمة والإحتمال ، والجهد المتصل أن يدفعوا عن البلاد ظلام الجهل والضلال ، ويشيعوا في أرجائها نور الإيمان والهداية ، وبفضل هؤلاء العلماء انقشع ظلام الجهل وتقدم الوعي الديني وارتفعت مدارك الناس الدينية وصلح إسلامهم.
ولابد أن نذكر بالتقدير دور الفونج في هذه الحركة الفكرية والذين كان دورهم يمثل جانبا من أهم هذه الأدوار جميعا ، فهم الذين حسموا قضية الصراع الفكري في البلاد لمصلحة الإسلام ، وهيأوا المناخ الصالح للحركة الثقافية بشقيها الصوفي والعلمي ، وشجعوا الفقهاء والعلماء من جميع البلاد دون حجر علي بلد دون بلد ، وفكر دون فكر ، وفتحوا لهم قلوبهم وقصورهم وخزائنهم وتأييدهم المطلق وتشجيعهم حتي أصبحت النوبة في وقت قريب قطرا إسلاميا تحتل مكانة بين البلاد الإسلامية ، وينعم اليوم بفضل هذا العمل الفكري والديني الكبير ، كما أسس العبدلاب المراكز الثقافية والرواقات فـي الحجاز ومصر لتشجيع طلاب العلم ، وساهموا في هذه الحركة الفكرية بجهد كبير .