دراسة الظواهر الدلالية
1- الترادف
ظاهرة الترادف في اللغة العربية كثر حولها النقاش من العلماء واللغويين والأدباء والباحثين، وقد عدَّها كثيرٌ منهم قديمًا وحديثًا سمة من سمات اللغة العربية وميزة من ميزاتها.
وقد ساهم في بحثها ودراستها الفلاسفة الإغريق، وعلى رأسهم أرسطو، حيث عالجها في كتابيه (فن الشعر) و(فن الخطابة)، وفلاسفة الهند وعلماء اللغة العرب القدامى والمحدثون، وعلماء اصول الفقه، وعلماء اللغة الغربيون المحدثون.
والترادف مظهر من مظاهر اللغة العربية التي ارتـفعت به حتى بزت اللغات اتساعا وتشعبا، فاللغة العــربية فسيحة الآفاق، مترامية الأطراف تتميز بالثراء، وغزارة الألفاظ والمفردات التي ليست لها في اللغــات الحية شبيها. وقد اتسمت هذه المفردات بحلاوة الجرْس، وسلامة النطق والعذوبة حيث تمتاز بالمرونة، وقد ضربوا لذلك أمثلة، منها: ما ورد في معجم لسان العرب حول كلمة (الـعسل)، حيث عدّدوا له أسمــاء مـرادفة كثيرة (ثمــانون اسمـا) منها: الضرب، والضربة، والضريب، والشوب، والذوب، والــحميت، والتحمـويت، والجَلس، والورس، والشَّهد، والشُّهد، والمــاذي، ولعاب النحل، والرحيق وغيرها، ولـكلمة (سيف) عشرات من الأسمـاء المترادفة مثل: الصارم، والـرداء، والـقضيب، والصفيحة، والمفقّر، والصمصامة، والكهام، والمشرفي، والحسام، والعضب، والمذكر، والمهند، والــصقيل، والأبيض ومـــا إلى ذلك، وممـــا يكشف عن تعدد المترادفـات وتنوع الدلالات في الـعربية أن يقـول (جرجي زيدان) الأديب الفاضل: " في كل لغـة مترادفات أي عدة ألفـاظ للمعني الواحد، ولكن العـرب، فاقوا في ذلك سائر أمم الأرض، ففي لغتهــم للسنة 24 اسمًا، وللنور 21 اسمًا، وللظــلام 52 اسمًا، وللشمس 29 اسمًا، وللسحــاب 50، وللمطــر64، وللبئر 88، وللمــاء 170 اسمـًا، وللبن 13 اسمًا، وللعسل نحــو ذلك، وللخمر مائة اسم، وللأسد 350 اسمًا، وللحية مائة اسم، ومثل ذلك للجمل، أما الناقة فأسماؤها 255، وقِسْ على ذلك أسماء الثور والفرس والحمــار، وغيرهــا من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهمــا، ناهيك عن مترادفات الصفات، فعندهم للطويل 91 لفظًا، وللقصير160 لفظًا، ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه".
الترادف لغة واصطلاحًا:
المراد بـ " الترادف" في اللغة والاصطلاح: صلة اللفظة المفردة بالمعنى: إما أن يتحد فيها اللفظ والمعنى، وإما أن يتعدد فيها اللفظ، والمعنى واحد، وإما أن يتحد فيها اللفظ ويتعدد المعنى.
والترادف في اللغة: من الردف، وهو ما تبع الشيء، وكل شيء تبع شيئا فهو ردفه، وإذا تبع شيء خلف شيء فهو الترادف.
وفي الاصطلاح: هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد، هكذا عرفه الإمام الرازي وعرَّفه الآخرون بأنه دلالة عدة ألفاظ على معنى واحد، أو دلالة الألفاظ المختلفة على المعنى الواحد، وهذا كالدار والبيت، وذهب ومضى وانطلق، وقعد وجلس، وغير ذلك.
وأمَّا مفهوم الترادف كظاهرة لغوية عند علمائها القدامى:
قال( الفيروز آبادي) قول " (الرازي) هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد ".
وعرفه (الجرجاني): " بأنه ما كان معناه واحدا وأسماؤه كثيرة، وهو ضد المشترك؛ أخد من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب واللفظين راكبان عليه كالليث والأسد".
واختلف العلماء في تعريف الترادف، نذكر من ذلك:
- قال سيبويه: (اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب، واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق، واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وُجدان الضَّالة).
ويمكن أن نستنتج من كلام (سيبويه) أنه أول مَن أشار إلى ظاهرة الترادف، حين قسم علاقة الألفاظ بالمعاني كما رأينا، ونستنتج أيضًا أنه يرى أن الترادف هو اختلاف اللفظين والمعنى واحد، وضرب على ذلك مثلًا هو ذهب وانطلق.
وقال (أحمد مختار عمر): " إننا إذا أردنا بالترادف التطابق التام الذي يسمح بالتبادل بين اللفظين في جميع السياقات، دون أن يوجد فرق بين اللفظين في جميع أشكال المعنى (الأساسي والإضافي والأسلوبي والنفسي والإيحائي)، ونظرنا إلى اللفظين في داخل اللغة الواحدة، وفي مستوى لغوي واحد، وخلال فترة زمنية واحدة، وبين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، فالترادف غير موجود على الإطلاق ... أما إذا أردنا بالترادف التطابق في المعنى الأساسي دون سائر المعاني، أو اكتفينا بإمكانية التبادل بين اللفظين في بعض السياقات، أو نظرنا إلى اللفظين في لغتين مختلفتين، أو في أكثر من فترة زمنية واحدة، أو أكثر من بيئة لغوية واحدة، فالترادف موجود لا محالة، ويمكن التمثيل لذلك بكلمتي: وصل وجاء اللتين تنتظمان مع كلمات؛ مثل: قطار ـ محمد ـ الخطاب، ولكنهما تستقلان في سياقات أخرى، فنحن نقول: وصل من سفره (ولا نقول جاء)، ونقول: جاء الربيع (ولا نقول وصل).
نخلص مما تقدم إلى أن الترادف يعني توارد اللفظين، أو أكثر، على مسمى واحد، أو اسمان عبر بهما عن معنى واحد، أو ألفاظ مفردة دالة على شيء واحد، أو ما كان معناه واحدا وأسماؤه كثيرة، ونلحظ من مجموع ما ذكر سابقًا أن الترادف يدور معناه على التتابع والتعاون والركوب.
فائدة الترادف:
للترادف فوائد، أهمها:
الأول: أن تكثر الوسائل إلى الإخبار عما في النفس، فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق بهن، وقد كان الأذكياء في الزمن السالف ألثغ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك بعض.
الثاني: أن الترادف يعين المتكلم على بلاغة القول، ورصانة التأليف، وإقامة وزن الشعر، فيمكنه من التوسع في سلوك طرق الفصاحة وأساليب البلاغة في النظم والنثر، وذلك لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع والقافية والتجنيس، وغير ذلك من الأصناف البديع، ولا يتأتى ذلك باستعمال مرادفه مع ذلك اللفظ، وهذا يعين على التنويع في أساليب التعبير، والبعد عن التكرار، وإبراز المعنى الواحد في صور عدة، على حسب المقام ومقتضى الحال.
الثالث: أن الترادف يمكن من العدول عن كلمة إلى أخرى أخف منها أو أفصح، أو أوضح كما يفيد في تفسير الكلمة التي لم يفهم معناها بكلمة أخرى، وهو المعروف عند المناطقة بالتعري اللفظي، مثل القول؛ البر هو القمح، والعسجد هو الذهب.