السيرورة التاريخية لفكرة المواطنة :

     تمرّ المفاهيم في نشأتها وتبلورها بعدة مراحل و مفهوم المواطنة كغيره من المفاهيم عرف هذه السيرورة التاريخية.

إن المواطنة و كما كشف الكاتب "هيثم مناع" كلمة دخيلة على العربية ومن ثمة، يمكن ردّها إلى منشئها اليوناني وبذلك تكون «إسبرطة كمنشئ لفكرة المواطنية، التي نربطها اليوم بشكل أساس بفكرة الحقوق الليبرالية النفعية وممارستها وإجراء المناقشات السياسية المستفيضة.»[i]، كما تقوم فكرة المواطنة لدى الاسبرطيين على جملة من مبادئ: وهي «مبدأ المساواة، امتلاك جزء من الأراضي المشاعة، واعتماد  الاقتصاد على عمل العبيد، ونظام صارم للتربية والتدريب، بالإضافة إلى تناول الوجبات في موائد جماعية، والخدمة العسكرية، وميزة الفضيلة المدنية، والمشاركة في حكومة الدولة »[ii] كما نعرف ويعرف الجميع أن الوجه العام للحياة الاجتماعية ب أثينا قائمة على الرِّق والاستعباد حيث « كانت المواطنية الاسبرطية عالة اقتصادية على كاهل العمال المستعبدين »[iii]بحيث يلزم عليهم العمل وتقديم الخدمات العسكرية و يُستثنى من ذلك الأسياد والأشراف، وقد « كانت المواطنة اليونانية حقا وراثيا محصورا في أبناء أثينا من الرجال، ولم تكن الإقامة مؤهلا يعتد به لنيل حق المواطنة، فقد استثني من المواطنة الغرباء المقيمين والأطفال والنساء، العبيد المحررون (كذا )، فقد كانوا جميعا محرومين»[iv] هذا ما جعل النظام المواطني اليوناني نظاما إقصائيا كرّس فكرة التمييز الطبقي، الجنسي، والعرقي.

و لا نزال نناقش فكرة المواطنة عند اليونان، ومن بين الفلاسفة الذين تناولوا "المواطنة" نجد أفلاطون* الذي رأى أن المواطنين غير متساوين، بل هم موزعون على ثلاث طبقات أو درجات  «طبقة الفلاسفة والحكام، طبقة الحراس، وطبقة عامة الشعب »[v] وعلى الكل احترام طبقته وفق مقولة "احترام ما أهلته له الطبيعة" .

فإذا اتسم الفكر الإغريقي بالتجريد والمثالية «والألفاظ الفلسفية أو السياسية أو الأخلاقية يفكر الروماني بألفاظ حقوقية، لتطابق التشريع مع الواقع، فالتشريع الواضح المدون حلّ محل الكلمة اللوغوس اليوناني المثالي»[vi]فعلى خلاف اليونان الذين اهتموا بالتنظير، كرّس الرومان جهدهم على الممارسة والتطبيق، فكانت حضارتهم عسكرية عملية .

كما «كانت المواطنية الرومانية أكثر مرونة، إذ أقام الرومان المواطنية من درجات متنوعة، وأتاحوا الفرصة للعبيد للتنعم بكرامة المواطن »[vii] وتقوم فكرة مواطنة لدى الرومان على جملة « من الحقوق والواجبات؛ فالواجبات الأساسية هي الخدمة العسكرية وتسديد ضرائب معينة، والحقوق كحقوق التصويت، وتولي مناصب المسؤولين الرسميين »[viii] وهنا نلمح الجانب الإيجابي لجهود الرومان، حيث وسعوا فكرة المواطنة وكانوا أكثر واقعية من اليونانيين؛ هذه التوسعة لم تكن مثالية أو إنسانية وإنّما حركتها استراتيجيات الهيمنة الاستعمارية وامتداد الأمبراطورية الرومانية .

وقد تطور في العصر الحديث «مفهوم المواطنة بعد تأثره بحدثين مهمين هما: إعلان استقلال الولايات المتحدة عام 1776،  و المبادئ التي أتت بها الثورة الفرنسية عام 1789، فكانت نقطة تحول تاريخية في مفهوم المواطنة من خلال ما جاء به إعلان الاستقلال من أن الناس جميعا ولدوا متساوين، فأصبح مفهوم المواطنة مبني على فكرة الشعب صاحب السيادة»[ix] حيث أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية إعلانا تضمن بموجبه عدة حقوق من أبرزها المساواة والحرية وحق الملكية والأمن ومقاومة القمع.

أما عن المواطنة في الإسلام فقد كانت « -المواطنة- كما علمنا لفظة غربية المنبت فهي مترجمة وجديدة على الفكر الإسلامي، دخل هذا المصطلح اللغة السياسية العثمانية بصيغة أعم هي "وطن" مع بداية دخول الحداثة الأوربية إلى الامبراطورية العثمانية وأوّل مرة استخدمت فيها كلمة وطن كانت في فرمان سلطاني، عام1839 وهذه المرة الأولى التي يشير فيها المسلمون إلى وطن وليس إلى أمة »[x] وقد أقر المستشرقون ومن بينهم « برنالد لويس أن مفهوم المواطنة غريب تماما عن الإسلام بحجة أن لفظة مواطن بالمفهوم الغربي الذي يعني المشارك في الشؤون المدنية غير موجود في اللغة العربية، وقد رفض هذا الاتهام الباحثون العرب وبينوا أن هناك لفظة تحمل مضمون المواطنة من حيث هي حقوق وواجبات بين عناصر المجتمع وهي لفظة "مسلم"»[xi] يقول حسن السيد الخطاب: «سبق الإسلام منذ عهد النبوة بمبدإ المواطنة وقبل ظهور مفهوم الدولة المعاصرة، وقبل الاتفاق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في (ديسمبر) 1948، ويتمثل هذا في الوثيقة المعروفة وهي صحيفة المدينة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وأبرزت هذه الوثيقة أمرين: ميلاد الدولة الإسلامية في الوطن الجديد، صهر المجتمع المدني في أمة واحدة على الرغم من التنوع الثقافي والعقدي »[xii] فنحن دائما نشيد بالغرب ومنجزاته، لكن ننسى أن الإسلام كان سباقا في صياغة عدة مفاهيم من بينها مفهوم المواطنة، قد يُختلف في تسميتها حاليا عما كانت تُسمى به إلا أنها كانت موجودة، فتنطلق فكرة المواطنة في الإسلام من مبادئ متشابكة مع بعضها البعض؛ فالإنسان مخلوق كرمه الله وهو في هذه الأرض مستخلف وعليه مسؤوليات "دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية"، وباختياره للسلوك الإيجابي والصحيح يثاب،أما بارتكابه المعاصي والتجاوزات يعاقب،  هذا ما يبرر أن الإسلام جعل » حدود المواطنة أوسع من الحدود الجغرافية الإقليمية الضيقة للوطن الإسلامي، ويكون كل فرد مسلم أو معاهد مواطنا، لأنه عضو من الأمة الإسلامية، له كل الحقوق، وعليه كل الواجبات فالمسلم ليس له وطن مخصوص، وكل البلاد الإسلامية هي وطن المسلم »[xiii] وعلى هذا الأساس فالمواطنة الإسلامية قد تتخطى الحواجز الجغرافية إلى الإنسانية كافة.

كما تقوم المواطنة في الإسلام على عدة أسس يمكن تحديدها في: «الحرية وعدم استبداد الحاكم، توفر المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والعرف »[xiv] هذا ما جعل مبادئ الدين الإسلامي وأسسه تكون مبادئ كونية.



[i]  ديريك هيتر،تاريخ موجز للمواطنة، تر: آصف ناصر، مكرم خليل، دار الساقي،لبنان، (ط1)،2007،ص.19

[ii]  المرجع نفسه،ص.21

[iii] المرجع نفسه،ص.22

[iv]  جابر ياسر حسن عبد التواب، المواطنة في الشريعة الإسلامية دراسة فقهية مقارنة، دار المحدثين للبحث العلمي والترجمة والنشر،مصر،(ط1)،2011،ص.24

* ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ:ﺃﻋﻈﻢ ﻓﻴﻠﺴﻑ في ﺍﻟﻌﺼﺭ القديمة، ﻭﺭﲟﺎ ﰲ ﺍﻷﺯﻣﻨﺔ ﻗﺎﺒﺔ، ﻭﻟ ﻋﺎﻡ 427 ق.م، من عائلة أرستقراطية أثينية كانت نبالة أصل أفلاطون ﺗﺷﺤﻪ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﰲ ﻣﻀﻤﺎﺭ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ،  ﺇﻥ ﳎﻤﻋﺔ ﺍﶈﺎﻭﺭﺍﺕ ﺍﻟﱵ ﺗﻨﺴ ﺇﻟﻴﻪ ﺗﻀ ﺯﻫﺎء ﺛﻼﺛﲔ ﳏﺎﻭﺭﺓ، ﻣ ﺃﳘﻬﻤﺎ ﺍﳉﻤﻬﺭﻳﺔ، ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ،  أسس ﺍﻷﻛﺎﺩﳝﻴﺔ، ﻣﺎﺕ ﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻋﺎﻡ347ق.م .ﻳﻨﻈﺮ: ﺟﺭﺝ ﻃﺮﺍﺑﻴﺸﻲ،  ﻣﻌﺠ 73-71،ﺹ.2006،(3ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ )ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ،  ﺍﳌﻨﺎﻘﺔ، ﺍﳌﺘﻜﻠﻤﻥ،  ﺍﻟﻼﻫﺗﻴﻥ، ﺍﳌﺘﺼﻥ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻠﻴﻌﺔ، ﻟﺒﻨﺎﻥ، (ﻁ3)،2006،ص.71-73.

[v]  أحمد المنياوي، جمهورية أفلاطون،دار الكتاب العربي،مصر،(ط1)،2010،ص.84-85

[vi]  جان توشار وأخرون، تاريخ الفكر اليوناني، تر:علي مقلد، الدار العالمية للنشر والتوزيع،لبنان،(ط2)،1983،ص.56

[vii] ديريك هيتر،تاريخ موجز للمواطنة،ص.53

[viii]  المرجع نفسه، ص.55-56

[ix] جابر ياسر حسن عبد التواب،المرجع السابق،ص.25

[x] المرجع نفسه،ص.26

[xi] المرجع نفسه،ص.27

[xii]  حسن السيد خطاب، حقوق المواطنة وواجباتها في ضوء الكتاب والسنة، كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر، (د.ط)،(د.ت)،ص.11

[xiii]  المرجع نفسه، ص.9

[xiv]  المرجع نفسه، ص.7

آخر تعديل: Sunday، 21 April 2024، 11:45 PM