مقدمة:
تشكل الفلسفة الفينومينولوجية التيار الفلسفي الثاني الكبير الذي أدى إلى قطع الصلة عن الفكر السائد في القرن التاسع عشر في الحضارة الغربية المعاصرة على حد تعبير المفكر الأوروبي (بوخنسكي) في كتابه المعنون: "الفلسفة المعاصرة في أوروبا". والأدق أن يقال بأن الفينومينولوجيا هي من تيارين من نفس النوع خرجا من منعطف واحد، هو منعطف (فرانز برنتانو)-(1838-1917)، أما التيار الثاني فهو الذي يمثله (ألكسيس مينونج) و(كرستيان إرنفلز).
أما الفينومينولوجيا ذاتها وهي أهم بكثير من تلك الحركة الأخرى فإن مؤسسها هو الفيلسوف الألماني والرياضي (إدموند هوسرل)-(1859-1938) الذي قادته الرياضيات إلى الفلسفة، حيث استوقف نظره دقة الرياضيات ومتانتها واتفاق العقول عليها، فحاول أن يجعل للرياضيات دور منهجي في المعرفة من خلال دراستها دراسة فلسفية تقود بنا إلى بلورة منهج موضوعي عقلاني بالاعتماد على خطوات التحليل الرياضي والوصف العلمي.
هذا، ولقد كان كل هذا يهدف إلى تحويل الفلسفة من تلك المذاهب الميتافيزيقية المجردة إلى علم يقيني دقيق يكون أساسا لكل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية، والحق أن هذه هي غاية كتيبه الموسوم ب: "الفلسفة كعلم صارم" حيث اقترح لنا المنهج الفينومينولوجي (علم دراسة الظواهر) كبديل للميتافيزيقا القديمة ابتغاء علمنة الخطاب الفلسفي. وعمل على تجاوز ما يسمى بأزمة الموقف الفلسفي المعاصر الذي يتلخص في الإدعاء الذي تحذو حذوه كلتا النزعتين الوضعية والنفسانية، اللتان تعتقدان بأن الحقيقة العلمية تكمنان في الحذو حذو المنهج العلمي الوضعي القائم على الملاحظة والتجربة وتقنين النتيجة العلمية على حد تعبير زعيم الوضعية المنطقية أوجست كونت.
1- ميلاد الفينومينولوجيا عند هوسرل:
بادئ ذي بدء، ينبغي أن نشير إلى حقيقة مؤداها أن الفلسفة الفينومينولوجية أو الظاهراتية لها ارتباط وثيق بالسياق التاريخي الذي هو عالق بالحرب العالمية الأولى والثانية نظرا للدمار الذي شهدته وعايشته الإنسانية، من جهة، والسياق المعرفي يتجلى في أزمة العلوم الإنسانية في مطلع القرن العشرين، "...فقد أدى ترقي البحوث السيكولوجية، والاجتماعية، والتاريخية إلى الحكم على شتى الآراء والأفكار والفلسفات، باعتبارها مجرد نتائج لفعل بعض العوامل الخارجية المتآزرة (من سيكولوجية، إجتماعية، تاريخية) وهكذا مال علماء النفس، إلى الأخذ بالتفسير النفساني المتطرف، بينما مال علماء الاجتماع إلى الأخذ بالتفسير الاجتماعي المتطرف، فيحين تمسك التاريخ بالتفسير التاريخي المتطرف..." (زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، ص: 334)
هذا، ولقد أدى تعارض هذه المناهج وتباين منطلقاتها في تفسير الظواهر الفردية والاجتماعية، إلى اختلاف عميق في فهم هذه الظواهر ذاتها، وبالتالي بدأنا نقف على إشكالية جوهرية في تاريخ الفكر والعلوم الإنسانيين؛ وهي إشكالية (الفهم)، [على الشاكلة الآتية] هل نصل إلى فهم الظواهر بناء على شروط سيكولوجية؟ [...] وهل العلوم - التي تدعي الموضوعية – التجريبية والعقلانية – هي أصلا مؤهلة لتفسير هذه الظواهر في شموليتها على الرغم مما تدعيه من ضوابط منهجية وتقنية؟ (مصطفى شميعة، فينومينولوجيا هوسرل وأثرها في بناء مفاهيم نظرية التلقي، ص: 97)
لقد كانت هذه التساؤلات بمثابة المحك الأساسي الذي قاد هوسرل – رائد الظاهراتية – إلى تأسيس فلسفة الفينومينولوجيا أو ما يسمي بعلم دراسة الظواهر. وهذا ما يحيلنا إلى القول مع هوسرل بنقد النزعة الموضوعية بغية جعل الفلسفة علما دقيقا.
2- نقد النزعة الموضوعية:
إن التطور الذي عرفه البحث العلمي أدى إلى افتراض صياغة رياضية مطلقة واعتبارها وجودا مستقلا عن الذات فتتحقق بذلك النزعة الموضوعية التي هي من وجهة نظر هوسرل المحور الرئيسي لأزمة العلوم الأوروبية فهذه الأخيرة خطت بالإنسانية بإتجاه القوانين الصارمة. (زهور حمر العين، النقد الفينومينولوجي عند إدموند هوسرل، ص: 78)
ولا ريبة في أن هذه الحقيقة تبدو لنا منذ الوهلة الأولى "عند النظر إلى عنوان: (أزمة العلوم الأوروبية) إلى وجود مفارقة Paradoxe بين الدال والمدلول فالأزمة تشير إلى التراجع، الانحطاط، التدهور، والعالم الوضعي بما يقدمه من دلالات ينم عن عطاء مبهر، هذه المفارقة تطرح أزمة العلم بفقدان العلم روح الإنسانية ونسيان عالم العيش، العلم كمعرفة جاءت لتنظيم العالم في سلسلة محكمة الحلقات، فالانقلاب الذي حصل في نهاية القرن الماضي في التقييم العام العلوم، إنه لا يتعلق بعلميتها، بل بالدلالة التي كانت تتخذها، بالدلالة التي كان العلم عموما يتخذها، والت يمكن أن يتخذها بالنسبة للوجود البشري. (المرجع نفسه)
وما تجدر الإشارة إليه في ذات السياق، هو أن الثورة العلمية التي عرفها القرن 17م أدت إلى ترييض الطبيعة؛ أي اختزال العالم إلى مجرد عدد أو صورة رمزية بعيدا عن تفاعله مع الذوات [...] لذا يجب على الفلسفة – حسب هوسرل – أن تنتقد هذه العلوم لأن هذا النقد يقودنا إلى إدراك حقيقة العلوم التقنية، في حدودها، والتنبيه إلى المخاطر التي تنجم عن تحول هذه العلوم إلى غاية في ذاتها بدل أن تكون مجرد وسيلة، لكن على الفلسفة أولا أن تتحرر من التوجه العلمي – التقني ثم تعود إلى الأشياء في ذاتها، (مصدق إسماعيل، الفلسفة في عصر العلم والتقنية، ص: 14، 15)
3- أزمة العلوم الإنسانية الأوروبية من منظور إدموند هوسرل:
إن هيمنة دقة العلوم الوضعية عل الخطاب العقلاني الغربي يعد السبب المباشر الذي أدى إلى نشوء أزمة الثقافة الأوروبية في القرن العشرين والتي ترجع بداياتها الأولى وإرهاصاتها الى الأنموذج العلمي الرياضي الديكارتي والفيزيائي الغاليلي. ولا ريبة في أن هذا ما دفع هوسرل إلى استحداث أفق نقدي للعالم وللنماذج المعرفية المتزامنة مباشرة مع الازمة الحديثة التي مست بالقيم الإنسانية.
لقد أحدث العلم تحولات في بنية الفكر الغربي اتجه به إلى أسوء لحظة تاريخية عرفتها أوروبا بفعل ريضنت (Mathématisation)الحداثة المجال الطبيعي وفق دلالات رياضية - ولا شك في اننا تطرقنا لهذا المثال في المحاضرة الثانية مع المنهج الرياضي لدي روني ديكارت – مجردة لم تكن تهتم بالمجال الروحي الأخلاقي والديني من منطلق أن ما عرفه الفكر الغربي المعاصر هو استبدال سؤال الكيف الذي يبحث حول الماهية وحرية الإنسان ...إلخ الماهية بطرح سؤال الكم الذي حول الإنسان لمعاصر إلى معادلات رياضية مجرد من ذاتيته الإنسية.
ووفق هذا المنظور العلمي الحديث أدرك هوسرل على أن أوروبا ينبغي أن تتجه إلى استعادة المغزى الإنساني من العلم وأن تراهن على إثراء المشهد الثقافي بغية التحرر من النموذج العلمي للمعقولية التي اشتُقت من الرياضيات ومن الفيزياء الديكارتي والغاليلية. فإذا كان ديكارت يعتقد بأنه حرر الإنسانية من سيطرت قبضة الكنيسة في العصور الوسطى فإن التاريخ يشهد بأنه سقط من جديد في ما يسمى بعلمنة السيطرة. (علي الحبيب الفروي، الإنهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا، ص: 24)
يرى هوسرل في كتابه المعنون: " أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية" أن هذه الأزمة التي تعيشها أوروبا في عمقها أزمة علوم عرفتها العقلانية والتي غلب عليها الطابع العلمي والنفعي إثر سقوطها في قبضة الفلسفة الوضعية التي ادعت بأنها وحدها الكفيلة بأن تجعل الإنسان سيد الطبيعة، وأن تخضعها لإرادته بالصورة الطي تحكم فيها كما يشاء. [...] وهذا يعني أن عقلانية عصر الأنوار قد انزلقت وانحرفت من تأدية وظيفتها التحررية إلى النزعة الوضعية، لذلك فإن هيمنة الخطاب الفلسفي الوضعي على العقلانية الغربية هو السبب الرئيسي في هذه الأزمة، (كمال بومنير، فراءات في الفكر النقدي لرمدرسة فرانكفورت، ص: 6، 7) وهذا يعني حسب هوسرل "أن كل العلوم دخلت ، في نهاية الأمر، في أزمة فريدة من نوعها، إنها أزمة لا تمس العلم المتخصص في نجاحاته النظرية والعملية، لكنها تهز حقية كل معنى." (إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانسندنتالية، ص : 53) لهذا السبب كان هوسرل يرى حقيقة هذه الأزمة في الدلالة العلمية التي تقدمها مختلف العلوم الإنسانية وليست في علمية العلوم ومنهجيتها.
هذا، ويندرج نقد هوسرل للنزعة الوضعية ضمن محاولته الكشف عن فشلها وعجزها عن إدراك الحقيقة الكلية، لذلك فإن المفهوم الوضعي للعلم يقصي كل تلك الأسئلة والإشكاليات والمفاهيم التي لها علاقة بالوجود الإنساني، كالغاية والمعنى والحرية والماهية القيم الإنسية وغيرها. لذلك لا تستطيع توجيه الإنسان إلى بلوغ غاياته الإنسانية. (كمال بومنير، ص: 7) وهذا ما يتفق معه المفكر الجزائري كمال بومنير حينما يقول ما يلي نصه:
"إن الأزمة الحالية التي تعيشها أوروبا مرتبطة أساسا بهذه النزعة الموضوعية التي تفصل المعرفة العلمية عن مجال البحث في المعنى والغاية والمصير الإنساني، وبالتالي فإن الأزمة في عمقها وجذورها هي أزمة معنى (Crise du sens) وأزمة عقلانية تجتازها الإنسانية اليوم، وهي ناتجة عن سيطرة النزعة الوضعية وتصورها الإختزالي للمعرفة العلمية." (المرجع نفسه، ص: 22)
4- الفينومينولوجيا كبديل لتجاوز أزمة العلوم الإنسانية:
وقد حصل بهذا إذا، أنه لما فشل الخطاب الوضعي في إدراك الحقيقة الكلية الجوهرية – فيما استبعد الفكر الفلسفي الأصيل من المجال العلمي – أدرك هوسرل ضرورة تأسيس منهج فلسفي جديد أي الفينومينولوجيا، التي تختلف عن المناهج الوضعية القائمة على الملاحظة والتجريب والتنبؤ وتتناسى الوصف الفينومينولوجي وإدراك الماهيات الكامنة في الوعي من خلال القصدية كما زعم هوسرل، بحيث يتم إنجاز الإيبوخي. (المرجع نفسه، ص: 8) فهوسرل يرى حلا جذريا لهذه الأزمة في الوحدة المنظمة للفلسفة الفينومينولوجية باعتبارها علما دقيقا كليا. إن إقامة علم دراسة الظواهر تقوم على قاعدته كل العلوم والمعارف، من خلال التأسيس الجديد، وعلى قواعد مبادئ يقينية، يمكن أن يضمن الخروج من الأزمة المتمثلة في هيمنة الأزمة الوضعية. (المرجع نفسه، ص: 23)
يقول هوسرل في هذا السياق ما يلي: "ليس لأزمة الوجود الأوروبي سوى مخرجين: أفول أوروبا في اغترابها عن المعنى العقلي لحياتها والسقوط في عداء الروح وفي البربرية، أو نبعاث أوروبا انطلاقا من روح الفلسفة بفضل بطولية للعقل تتخطى النزعة الطبيعية نهائيا." (إدموند هوسرل، المصدر نفسه، ص: 558)