روافد المسرح  المغاربي

تمهيد

      شكلت التجارب المسرحية العالمية الأثر البالغ في نشأة المسرحية المغاربية على غرار نظيرتها في الوطن العربي، غير أنه لم يغفل عن الأشكال المحلية المتوارثة؛ ولا المصادر العربية، وبقي متشبثا بمضامينها وشخصياتها المتعددة التي تنبع من روح عربیة أصیلة؛ تؤكد قدرة العقل والوجدان المغاربي على استیعاب الإنجازات الفنیة والدرامیة للمسرح العالمي والتحولات الاجتماعیة و السیاسیة و الفكریة و الثقافیة التي شهدتها المجتمعات المغاربية، و بذلك فقد تظافرت ثلاثة روافد أساسية شكلت معالم التجربة المسرحية في المغرب العربي.

1- الروافد المحلیة:

     لقد كان التراث الشعبي بمثابة البديل الخيالي للواقع، والتعبير الرومنسي عن آمال الشعوب ؛ فاعتمده المسرحيون في إطار البحث عن مسرح مغاربي أصیل باعتمادهم على لغة مسرحیة تستمد خصوصیتها من التراث المحلي و الاستفادة من الحلقة والقراقوز و المسرح التقلیدي الشعبي كمشروع لبناء أسس و آفاق جدیدة للمسرح المغاربي، فالعودة إلى التراث الشعبي تعني التأصيل وتحقيق الذات والهوية من خلال إحياء التراث وتكييفه فنياً وجمالياً ليلائم الواقع.

هذه الموروثات الشعبية كانت في مجملها تعابير ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وفكرية مستمدة من واقع الموروث الثقافي الشعبي المغاربي، كما هو الشأن  في مسرحية  "كل واحد وحكمو" التي ألفها الجزائري ولد عبد الرحمان كاكي عام 1966م ؛  مستخدما اللغة العامية الشعبية البسيطة بـما فيها من  إيـحاء ورمزية،  أمّا مسرحيته "القراب والصالحين" التي كتبت سنة 1965 م، والفائزة بالميدالية الذهبية للمعهد الدولي للمسرح بمصر عام 1990م  فهي كذلك من النماذج الرائجة في الجمع بين الأسطورة المحلية التي تتداولها ألسنة الناس في الغرب الجزائري وشمال إفريقيا.

و من الموروث دائما المحلي اعتمد الطيب الصديقي (1939-2016) "فن البساط" في مسرحيته  "أبو حيان التوحيدي" فيلسوف الأدباء مستقرءًا تاريخ الدولة العباسية، فعدّ هذا العمل مسرحية تاريخية وتراثية ذات منحى أدبي وفلسفي صيغت في قالب شعبي بساطي، و وظف كذلك "سلطان الطلبة" في مسرحيته " سلطان الطلبة"، و إذا انتقلنا إلى عبد الكريم برشيد (1943-  ) فنجده اعتمد "خيال الظل" في مسرحيته "ابن الرومي في مدن الصفيح".

2- الروافد العربية:  

     يعتبر الموروث الثقافي العربي من أهم روافد  المسرح المغاربي، حيث كان له الأثر البالغ  في رسم ملامحه، ولعل توظيف تراث قصص "ألف ليلة وليلة" باعتباره مصدرا أساسيا من مصادر الإبداع والنشاط الفكري والحضاري في الحياة الإنسانية، فهو القيمة الثابتة لإقامة التواصل بين الماضي والحاضر،

و من هذه المنطلقات سعى الكثير من المسرحيين في المغرب العربي ك "عز الدين المدني والطيب الصديقي والطيب العلج وعلولة وعبد الكريم برشيد و ولد عبد الرحمن كاكي وغيرهم" إلى البحث المتواصل عن تأصيل هذا الفن بالاعتماد على الموروثين العربي والشعبي، بغية التوعية واللذة الفنية،  فتناول العديد منهم قصص ألف ليلة وليلة، إلى جانب تناقلها بين ألسنة الـمجتمع البشري بكل طبقاته على مر حقب زمنية عديدة، حيث استلهم منه العديد منهم  على غرار ولد عبد الرحمن كاكي في مسرحيته  (ديوان القراقوز) المستوحاة من إحدى قصص ألف ليلة وليلة ( مريزاد صاحبة الابتسامة الوردية و الطائر المتكلم"، كما  اقتبس محمد منصالي (1899-1945)) مسرحية ( فتح الأندلس) ؛ لمصطفى كامل ، و مثلت بالعاصمة في 23 جوان1923 م ، و من الموروث الأدبي كذلك اعتمد الطيب الصديقي (1939-2016) فن المقامات في مسرحيته "مقامات بديع الزمان الهمذاني"، أمّا سلالي علي المدعو علالو فقدم  مسرحية " أبو الحسن المغفل " أو "النائم اليقظان" التي عرضت سنة1927  مقتبسة من المسرحية نفسها "أبو الحسن المغفل"  لمارون النقاش، الذي استوحاها بدوره من الحكا ية التي ترويها شهرزاد في الليلة الثالثة والخمسين بعد المائة من حكايات ألف ليلة وليلة .

-3 المصادر الغربية

      تأثر المسرحیون المغاربة  كغيرهم في المشرق العربي ببعض تيارات المسرح العالمي و برواده، بغية التأسيس للظاهرة المسرحية في المغرب العربي، مع عادات و التقاليد و الموروثات الأصلية لشعوب هذه المنطقة، و تجلت مظاهر التأثر بالتيارات الغربية التالية:

3-1: مسرح العبث و اللامعقول:

      يُعرف "باتريس بافيس" " P.Pavis"  العبث على أنّه كل  "ما يشعرنا و كأنه غير معقول،  و يفتقر كليا إلى المعنى، أو إلى علاقة منطقية تربطه  بما تبقى من  النص أو الخشبة في فلسفة الوجود و الحياة. لا يمكن تفسير العبث من خلال العقل،كما أنّه لا يعترف للإنسان بأيّ تعليل  فلسفي أو سياسي لعمله..." ، 

       ومن المسرحيين المغاربة الذين تأثّروا بهذا التيار نذكر ولد عبد الرحمان كاكي،  فاقتبس عن بكيت " نهاية اللعبة" ، أمّا مسرحيته " الأميرة الصلعاء" المقتبسة عن يونسكو فتجسد حوادث الحياة اليومية و عدم قدرة الناس لا على الكلام و لا على السكوت ( العجز عن التواصل)

3-2: المسرح الملحمي:

         قام المسرح الملحمي على خلفية وعي بأن العالم قد تغير، ولم تعد الأشكال الدرامية التقليدية قادرة على استيعاب الواقع و التعبير عنه و الاستجابة لطموحات الإنسان المعاصر .

ظهر مفهوم المسرح الملحمي في ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي كمحصّلة لتوجّهات مسرحية سابقة في أوروبا و روسيا هدفت إلى تغيير وظيفة المسرح في المـــــجتمع من خلال تغيير المسرح ذاته كـــــــشكل و كمضمون، و أوّل من استعمل هذا التعبير هو بسكاتور (E- Piscator) (1893-1966) ، الذي ألّف كتابا مهما فيه أسـمـاه " الـمسرح السياسي " عام 1930م، و من ثًمّ إلى برتــولد بريــخت (BERTOLT BRECHT) (1898-1956) الذي قدّم عام 1949م كتابا أكثر نضجا تحت عـــنوان "الأورجــانون الصغير للمسرح "، بهدف إضفاء الصبغة الملحمية على المسرح، لأنّ الملحمة لا تتقيّد بزمان و مكان محددين.

   وجد المسرحيون المغاربة فيه ما هو قريب من تقاليد المسرح العربي الذي يمحو المسافة بين الممثل والمتفرج، وعن اتجاهه السياسي لدعم نضاله من أجل الحرية والاستقلال ، فهو يعتمد على وسائل فنية منها التأريخية ليصدر الجمهور حكمه دون تأثير عاطفي، لتسبق بذلك عملية التفكير إصدار الحكم، و في هذا التوجه قدم ولد عبد الرحمان كاكي مسرحيتان من التراث هما "ديوان القراقوز"  و"القراب والصالحين" على غرار مسرحية "سيدي عبد الرحمان المجذوب" للمغربي الطيب الصديقي، و كلّها بُنيت على المنهج البريختي، "وتيار المسرح البريختي هو واحد من أكبر وأقوى التيارات العالمية التي تسود في المسرح المعاصر ليس في ألمانيا وحدها فحسب، بل في العالم كله.

3-3: كوميديا ديلارتي:

   - الكوميديا ديلارته: (commedia dell’ arte ) تعني كوميديا الفن، وكلمة الفن تدل على الاحتراف لا المعنى الجمالي، نشأت في إيطاليا منذ القرن السادس عشر(ق16م)، تقوم على الارتجال، أي تقديم المشاهد دون الاستناد إلى نص متكامل مسبق، أو سيناريو يحدّد دخول وخروج الممثلين، والخطة العامة للحدث، و تبنى  ولد عبد الرحمان كاكي هذا النهج القائم على الارتجال و ذلك "من خلال العمل الذي قدمه عام1957 بعنوان "الشبكة " .

Modifié le: Sunday 18 February 2024, 22:29