موقف كارل ماركس المناهض لمثالية فريدريش هيجل:
1- تمهيد:
لقد كانت فلسفة هيجل متشبعة ببعد تأمّلي متعالي عن التجربة الإنسانية الحسيّة الواقعية في كتابه الموسوم: فينومينولوجيا الرّوح، بعدما استقى مفهوم الظّاهراتيّة من الكتب التي تمثل مرحلة شباب كانط الذي استعمل لأوّل مرّة لفظ الظّاهريّات لوصف الطبيعة باعتبار أنه كان عالمًا في الجغرافيا ينشد وصف ظواهر الأرض والسّماء بما فيها المطر والرّعد والبرق والرّيح ...إلخ، أي وصف الظواهر الطبيعية بصفة عامة.
لكن، بعدما تساءل هيجل قائلاً: أين الظواهر؟ هل هي في الطّبيعة أم في النّفس العارفة، أي النفس المدركة؟ قام بردّ الظّواهر إلى ظواهر الذّات، مبيّنًا أنّه لا توجد ظواهر موضوعية غير مدركة، وما دامت الظّواهر مدركة فإن الذات هي جزء لا يتجزأ من الموضوع الخاضع لعملية الإدراك، كما أنّ الموضوع هو أيضًا جزء من الذّات.
من هنا تشكلت الثنائية الهيجلية المتمثلة في الدّياليكتيك القائم بين الذّات العارفة وموضوع المعرفة، وإن جاز القول، تكونت علاقة صراع بين الأنا والعالم الخارجي، بعد أن نجح هيجل في بناء هذه الأنا الترنسندنتالية في فينومينولوجيا الرّوح، لتظهر لنا، بعد ذلك، عظمة الفلسفة الغربية في العودة إلى الأنا الترنسندنتالية، وهو المشروع الذي أسّس له الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت الذي يعطي أهمّية بالغة للأنا المفكرة التي تتمثل ماهيتها في الفكرة.
ومن خلال هذا المنطلق، نفهم بأنّ هيجل يريد أن يفهم الواقع الخارجي المحسوس عن طريق العقل (الرّوح)، وبالتّالي جعل كلّ ما هو عقلاني واقعي، فاتخذ انطلاقته في مؤلّفه الثّاني المعنون: علم المنطق بمقولته الشّهيرة الآتية نصّها: "إنّ كلّ ما هو واقعي عقلاني، وكلّ ما هو عقلاني واقعي" وراح يحصر عمل الإنسان في ملكة الإدراك.
من هنا، اتخذ (كارل ماركس)-(1813-1883)،(Karl Marx) انطلاقته في نقد مثاليّة هيجل الموضوعيّة من هذه الفكرة التي تصف لنا هيجل وكأنّه يردّ الإنسان إلى ملكته العقلية في حين أنّ ماركس يؤكّد في العديد من مؤلّفاته أولوية العالم الخارجي عن الذّات العارفة، وأنّ العالم هو مصدر المعرفة في مختلف أشكالها.
ولكن ما نلاحظه وما نستشفّه من خلال مؤلّفات ماركس هو أنّ موقفه المناهض لمختلف المنظومات الفلسفيّة المثاليّة لم ينصهر فقط في مثل هذه الأشكال المثاليّة، بل امتدّ إلى غيرها ليصل إلى المذاهب الفلسفيّة الماديّة في مختلف أشكالها كماديّة (لودفج فيورباخ)-(1804-1872)،(Ludwig Feuerbach) الحدسيّة.
إنّ هذا العامل يدفعنا إلى تعيين الملامح الإبيستيمولوجيّة التي تميّز المنظومة الفكريّة الماركسيّة حيث دعت بنا الضّرورة المنهجية إلى عرض فلسفة ماركس عرضًا موضوعيًّا علميًّا خاليًا من كل المواقف الإيديولوجيّة بالمعنى السّلبي. لكن قبل الشّروع في ذلك، ينبغي علينا أن نطرح الإشكاليّة الآتيّة:
إذا كان ماركس مناهضًا لكل من الفلسفة المثاليّة والفلسفة الماديّة على حدّ سواء، فما عساه أن يكون في وجهة نظره الفلسفيّة؟ أهو مادي أم مثالي أو مادي ومثالي في آن واحد؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ وفي هذه الحالة الأخيرة كيف يمكن لنا أن نصنّفه؟
في الحقيقة، إنّ موضوع بحثنا هذا يحدّد لنا منذ البداية تلك المحاور التّحليليّة الهادفة إلى كشف حقيقة الفكر الماركسي بالمعنى الدّقيق، ولقد كان من الضّروري أن ننطلق بتبيان موقف ماركس من مثاليّة هيجل، وعن طريق إماطة اللّثام عن نقده المصوّب إزاء ماديّة فيورباخ الحدسيّة التي جاءت لتؤسّس صرح فلسفي جديد ينتقد من خلاله مثاليّة هيجل.
وبالتّالي، فإنّ الغاية من هذا البحث تتلخّص في تبيان البعد البراغماتي العملي الذي يجب أن تتّخذه الفلسفة كنشاط فكري نوعي متحرّر من كلّ القيود الميتافيزيقية، ذلك لأنّ العالم الخارجي هو هنا أمامنا ومعنا، وهو الذّي نعيشه، بحيث من المستحيل تصوّره في مكان آخر متعالي عنه. فالوظيفة المركزية للمنهج الجدلي اللامادي عند ماركس لا ينحصر في فهم العالم ورده إلى الذات العرفة، بل فضلا عن ذلك، "إن النظرة الجدلية إلى الواقع وإلى الحقيقة لا يمكن أن تنفصل عن التطبيق فالنظرية والتطبيق مبنيان على فكرة أساسية هي فكرة التجاوز الذي يربطهما لأنه نظري وعملي في نفس الآن، موجود في التاريخ وفي الواقع." (عبد اللطيف عبادة، 1984، ص: 51)
ولا ريبة، في أن أول خطوة خطاها ماركس في نقده لمثالية هيجل، وأكد على ضرورة تجاوزها، وأنها تعد الأساس الذي يقوم عليه النقد الفلسفي، هي نقد الدين، في كتابه الموسوم ب: "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل". وذلك بحكم أن:
"اللاهوت أضحى يمثل حقيقة تؤسس عليها الفلسفة، مما يفرض على الفلسفة أن تؤسس لنقد جذري للدين بغية إماطة اللثام عن ماهيته في صورته الممثلة في استلاب الناس، من جهة، وكونه يعد أصل كل استلاب من جهة أخرى." (Henri LEFEBVERE, 1968, p. 1)
ومما تجدر الإشارة إليه، في هذا السياق، إن دور الديالكتيك يتمثل في تحقيق التجاوز "والتجاوز الماركسي يشمل على نقد التركيب الهيجلي. يجب أن يتجاوز الدين [...] بواسطة الفلسفة. وتجاوزه يكمن في زواله. فالاستلاب الديني أساس لكل استلاب ولذلك يجب أن يقضى عليه." (عبد اللطيف عبادة)
وللعلم لم يتوقف ماركس عند هذا الحد بل يصرح بضرورة تجاوز الفلسفة، ويقصد الفلسفة المبنية على التصورات المثالية المجردة، وبالخصوص مثالية هيجل. هذا الأخير الذي يفسر الظواهر الطبيعية والمضاهر الاجتماعية باعطاءها أبعادا مثالية متعالية مفارقة للوجود البشري. هذا بالإضافة إلى القضايا التي نجد بأن هيجل يعطي فيها الأولوية للأصل على الفرع كمسألة الأولوية بين الأنا كملكة والوجود، وبعض من المفاهيم مثل الوعي والإغتراب ومفهوم العمل.
أما بخصوص ثنائية الوعي والوجود الإنساني ولمن تصلح الأولوية هل لهذا أم لذاك؟ نجد بأن ماركس قد كان "عدائيا ومناهضا لكل المفاهيم المتعلقة بالوعي البشري من حيث أنها تفسر تفهم كملكة تكتسي طابعا إنسانيا. لأن ماركس يؤكن دائما بوجود ما هو إنساني في الوعي، [...] ومن المستحيل – حسب ماركس - استعاب معنى ما ينطوي عليه الوعي من خصوصية بشرية إذا انطلقنا من الفهم الذي يحصر الوعي في الملكة. ولا شك، أننا في هذا السياق، سنطرح التساؤل الآتي: لماذا لا يعطي ماركس الأولوية للوعي ولا ينطلق في تفسيراته لمختلف الظواهر والتناقضات من الشعور؟"(Franck Fichbach, 2008, p. 16)
في الحقيقة، تعد هذه القضية المسألة الجوهرية في بحثنا هذه والتي سنتطرق لها بكل دقة.
هكذا كان من اللّزام علينا تفادي كلّ مفهوم فلسفي بإمكانه أن ينفي تصوّر ماركس الجديد لبناء فلسفة جديدة تؤدّي رسالة التّغيير الاجتماعي وتتجاوز مفهوم تفسير العالم.
بتعبير آخر، تفدي كل تلك الأنساق المجرّدة التي تقف كعائق أمام الفلسفة العلميّة الثّوريّة التي تتلخّص وظيفتها الجوهريّة في تحليل الواقع وكشف حقيقة بنياته التّحتيّة الخفيّة بغية تغييره، خاصة عندما تستدعي الضّرورة ذلك.
أي وجب علينا، في نظر ماركس، أن نعيد النّظر في وظيفة الفلسفة في حياة الإنسان، بكلّ أبعادها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة، بحكم أنّها هي التي تحدّد طبيعة الذّات الإنسيّة وتعطي لنا الوجه الحقيقي لمعنى الإنسان والتّاريخ في آن واحد.
2- انفصال ماركس عن مثاليّة هيجل:
أ- موقف ماركس المناهض لمثاليّة هيجل:
لقد أطلق الهيجليّون الشّباب على مثاليّتهم إسم الماديّة الصّحيحة، أمّا ماركس وإنجلز فقد تنكّروا بهذا الإدّعاء الذي لا أساس له، وناقضا المثاليّة بالأطروحات الأساسيّة لفهم مادي متكامل للعالم، ينطلق من الحل المادي للمشكلة الأساسيّة في الفلسفة، ويتوصّل إلى استنتاج علمي بصدد الدّور الحاسم للإنتاج المادي في الحياة الاجتماعيّة، (جماعة العلماء السوفييت،2007،ص:168)، بحكم أنّهما توصّلا إلى:
"استنتاج أولويّة الوجود وثانويّة الوعي من النّاحيّة الفلسفيّة أو كذلك من النّاحيّة الفلسفيّة التّاريخيّة في آن واحد. وهما إذ ينتقدان الهيغليّين الشّباب الذين يستثنون علاقة الإنسان النّظريّة والعمليّة بالطّبيعة والصّناعة، فإنّهما يثبتان أنّه لا سبيل إلى فهم أيّ عنصر من العصور التّاريخيّة إذا انطلقنا من وعيه الاجتماعي (السّياسي، الأدبي، اللاّهوتي) فقط، دون الاعتبار أنّ هذا الوعي نفسه ينبغي أن يحدّد تفسيره في تطوّر الحياة الاجتماعيّة الماديّة،" (المرجع نفسه) ليتّضح، بعد ذلك، أنّ الهيجليّون الشّباب هم في الواقع مثاليّون، وفوق ذلك ذاتيّون، ويمثّل هيجل – حسب ماركس - "الحدّ الأقصى الذي يمثّل الفلسفة الذّاتيّة والتّصوّرات الميتافيزيقيّة، وأنّه التّعبير الأعلى في المخيّلة التي تؤدي إلى اغتراب الإنسان."(Jean Yves Calvez,1974)
وما ينبغي الالتفات إليه بهذا الصّدد، هو أنّ ظاهرة الاغتراب تعدّ بمثابة العامل الرّئيسي الذي أدّى بماركس إلى صياغة فلسفته النّقديّة الاجتماعيّة المناهضة لمثاليّة هيجل، وبالتّالي التّخلّي والرّحيل من مملكة الوهم الميتافيزيقي التي تمثل عائقًا أمام الإنسان يمنعه من استيعاب ذاته الإنسيّة وتجسيدها لتتخذ شكل الكلّي و حقيقتها الملموسة. هكذا "هاجم ماركس بنقده الفلسفة المثاليّة بصفة عامّة، رافضًا بذلك كل تأمّل نظري، وأعاب على البحث التّجريبي الفلسفي، كاشفًا عيوب التّصوّر الهيجلي للمطلق." (Lefebvre,1964)
إن فريدريش هيجل الذي يعطي بعدا تأمليا مجردا في تفسيره لمفهومي الإغتراب والعمل حيث يرى أنه يتمثل في تمظهر الروح وسيطرتها في التاريخ، نجد ماركس، بحكم المنهج المادي الجدلي الذي حذى حذوه، يفسره مفهموما الاستلاب والعمل بكيفية أخرى، أي بسلخها من البعد المثالي الهيجلي ورده إلى أصله المتمثل في لعبة الكلمات الآتية: الخضوع، علاقات اجتماعية، السيطرة، الأشياء...إلخ. فهذا هو إيمانويل رونو يقول في هذا الصدد يقول ما يلي:
"يرى ماركس بأن مسألة خضوع الأفراد في علاقات الإنتاج الإجتماعية الرأسمالية غير مرتبطة بسيطرة مجموعة من الأفراد، في اطار المنظومة الرأسمالية الاجتماعية، من طرف الآخرين، ولكن، الأمر يتعلق بسيطرة الموضوعات المنتجة أي (الأشياء) على الأفراد؛ مما يؤدي بنا إلى القول بضرورة تعويض مفهوم السيطرة بالإغتراب أو إعادة صورنته بمفهوم الإغتراب." (Emmanuel Renault, 2011, pp. 17, 18)
أما بخصوص مفهوم العمل، فقد تجاوز ماركس العمل بوصفه فينومينولوجيا كاشفة عن قدرات الإنسان الباطنية، على الرغم من تأثره بهذا الشرح الهيجلي. إذ يكشف عن أمور تنبتي عليها المنظومة الرأسمالية التي تحول العمل من تحقيق الذات الإنسية إلى الإغتراب. وأن العمل – حسب ماركس – هو تحقيق قيمة مادية تبادلية أو استعمالية وقد تكون فائضة: نسبية أو مطلقة. وبالفعل هذا ما نعثر عليه في مقال مهم لأحد الشراح الماركسيين المعاصرين، حيث يقول:
"العمل بالمنظور الماركسي، هو جوهر يعكس قوة خلاقة للقيمة، كما يظفي فائدة تعود بالمنفعة على المؤسسات الرأسمالية." (Karl Hermann Tjaden, 2008, pp. 117, 118)
ولكي لتحقيق غرضه من النقد الصارم نشر عام 1843 نصًّا يبيّن من خلاله موقفه المناهض والعدائي لمنظومة هيجل الفلسفيّة وللدّين، وذلك ما يتّضح في كلامه الذي يرمي إلى استبدال الفلسفة المثاليّة بالفلسفة الماديّة، نظرًا لكون هذه الأخيرة تأخذ على عاتقها مهمّة تجاوز التّصوّرات الميتافيزيقيّة المجرّدة فتستبدل نقد السّماء بنقد الأرض. وبعد ذلك في كتابه "مساهمة في نقد فلسفة الحقّ عند هيجل" عام 1843، يرى أنّ "الديّن يمثّل عائقًا أمام الإبداع [...]، [في حين أنّ] السّعادة الحقيقيّة للشّعوب تفرض إلغاء الدّين، كونه مرآة عاكسة لتعاسة الشّعوب. من هنا، ينبغي تحويل النّقد الدّيني إلى نقد قائم على الحقّ، ومن النّقد اللاّهوتي إلى النّقد السّياسي."(E.Balibar,1993, p.16)
الواقع إنّ ما تجدر إليه الإشارة في ذات الإتّجاه، هو أنّ ماركس يركّز انتقاداته على مثاليّة هيجل باعتبارها أكثر المذاهب تأمّليّة تقدّمًا وأكثرها انتشارًا في السّاحة المعرفيّة، وذلك راجع إلى ارتباطها الوثيق بالدّيانة المسيحيّة. يقول ماركس في هذا السّياق ما يلي:
"إنّ فلسفة التّاريخ الهيجليّة، هي مجرّد تعبير فلسفي عن المذهب المسيحي في صورته الألمانيّة الكاشف عن التّناقض القائم بين العقل والمادة، وبين اللّه والعالم،[...]، ففلسفة التّاريخ الهيجليّة تصادر مسبقًا على وجود عقل مجرّد أو مطلق،"(Karl et Friedrich,1972, p.107) الذي هو اللّه خالق العالم المادّي. إنّ هذا التّجريد الذّي يميّز المثاليّة الهيجليّة دفع الماديّون إلى إصدار حكم مفاده أنّ "المثاليّة الحقيقيّة توجد عبر التّاريخ إلى جانب الدّين، إذ ولدت من الدّن ونجمت عنه. فهذا هو (فلاديمير اليتش أوليانوف لينين)-(1870-1924)،(Vladimir Ilitch Oulianov Lénine) يقول في هذا الموضوع عبارة شهيرة وهي: المثاليّة ليست سوى صورة مهذّبة ومنقّاة للدّين،هكذا ادعى المثاليّون ومن بينهم هيجل أنّ الكون خلق بواسطة روح ترفّ فوق الظّلمات والتي هي المطلق (اللّه) اللاّمادي،بمعنى أنّ المثاليّة الهيغليّة كما يرى ماركس هي شكل مهذّب من أشكال الدّين." (بوليتزر،2001،ص:90)
والدّليل على ذلك يتّضح لنا في كتابه "مخطوطات 1844الاقتصاديّة – الفلسفيّة" حينما اعترف لأوّل مرّة بأنّ فيورباخ هو أوّل من كشف هذا المزيج بين المنطق واللاّهوت الذي يتشكّل منه "علم المنطق" لدى هيجل.
وبالفعل، هذا ما نعثر عليه في كلام ماركس الذي يلي نصّه:
"إنّ فيورباخ هم الوحيد الذي له موقف رصين وصارم في نقده الموجّه للديالكتيك الهيجلي، وهو الذي قدّم اكتشافًا حقيقيًّا ومخلصًا في هذا الموضوع. وبالتاّلي يعدّ في وجهة نظري بمثلبة المنتصر الحقيقي على الفلسفة القديمة [...]. إنّ مساهمة فيورباخ العظيمة بخصوص هذا الموضوع، والتي أثّرت فينا بعد ذلك، تتلخّص في عمله الآتي نصّه:
-أنّه برهن وأثبت أنّ الفلسفة ليست أيّ شيء آخر، فهي تمثّل فقط الدّين الموضوع في شكل أفكار والمطوّر بواسطة عمليّة التّفكير، والذي يعكس شكلاً آخر ومجالاً آخر للوجود المتمثّل في اغتراب الإنسان عن ماهيته الحقيقيّة. هكذا قام فيورباخ بتفسير الديالكتيك الهيجلي (حيث أسّس فيما بعد نقطة انطلاق بنّاءة وإيجابيّة) قائلاً: إنّ هيجل، في الحقيقة، يتحدّث عن الاغتراب، عن اللاّمحدود، وعن العالم المجرّد، أو(الماهيّة) و(عن التّجريد المطلق والجامد والسّاكن.) وبالتّالي، فإنّ رسالته الفلسفيّة تحمل في طيّاتها معان دينيّة لاهوتيّة. إنّ هذا العامل اللاّهوتي أدّى بفيورباخ إلى التّفكير في ضرورة إلغاء اللاّمحدود، وتعويضه بالواقع المحدود والملموس والمحسوس الخالص، حيث اعتبر بأنّ الفلسفة هي إلغاء لكل من الدّين واللاّهوت. كما قام بإلغاء سمة الإيجابيّة في دياليكتيك هيجل، وأعاد تجديد كلّ من الدّين واللاّهوت."(Karl Marx,1972, p.108)
والحقيقة أن ما رفضه ماركس في كتاب هيجل العمدة المعنون: "علم المنطق"، على الرغم التأثر الشديد به - مع العلم أن ماركس قد قرأ هذا الكتاب وسحر به حتى انعكس كتابه المعنون: المعالم والأسس العامة لنقد الإقتصاد السياسي بلغة هيجلية - هو إجتهاد هيجل من أجل تحويل العلاقات الإجتماعية، العمل، علاقات الإنتاج إلى مقولات فلسفية مثالية أكثر من ذلك خيالية ومجردة. وفي وصفه لهذه المسألة يقول ماركس ما يلي نص:
"إن كل موجود، [...] حي يعيش على الأرض وتحت الماء، بإمكان النزعة المثالية وقوة ملكة التجريد لدى أنصارها، اختزال كل هذه الكائنات المادية إلى مقولات منطقية؛ فبهذه الطريقة يعمل الميتافيزقيون من أجل تحقيق امكانية جعل العالم المادي بأكمله يضيق فيختنق في عالم التصورات المجردة، عالم المقولات المنطقية." (Karl Marx, 1972, Misère de la philosophie, p. 116)
وفي رده العنيف المناهض لهذه المسألة يقول ما يلي:
"كل ما هو موجود في هذه الحياة، كل ما هو حي يعيش على الأرض أو تحت الماء، لا يمكن علينا أن نحكم بأنه يتمتع بوجوده، وأنه حي يعيش، خارج نطاق النشاط الفيزيولوجي، حيث ينتج عن النشاط الإنساني في التاريخ علاقات اجتماعية، وعن النشاط الصناعي منتوجات صناعية، إلخ." (Ibid., p. 116)
إن الفيلسوف هيجل الذي يرى - من خلال هذا المنظور المثالي - بأن " التاريخ لا يتجسد بما يضفيه عليه روح العصر، من منطلق أن التاريح حسبه ما هو إلا إنتعاش وتتابع الأفكار وتسلسلها في ملكة الفهم. يعتقد أنه بصدد بناء عالم عن طريق ما يمليه عليه النشاط العقلي الفكري، في حين أن ما قام به، بالاستناد إلى منهجه المطلق، ينحصر في إعادة بناء وجمع الأفكار الموجودة في عقول الناس بكيفية نسقية." (Ibid., p. 118.)
كما يرفض أيضا مثاليّة هيجل من حيث أنّها تحصر كل أبعاد الإنسان في عمليّة الشّعور بالذّات فقط، وذلك ما كان يمثّل لبّ الدّراسة النّقديّة الماركسيّة إزاء منظومة هيجل النّسقيّة.
وبالتّحديد، يقول ماركس في هذا السّياق ما يلي:
"يستبدل هيجل في كتابه «ظاهريّة الرّوح» الإنسان بالشّعور بالذّات، حيث تظهر حقيقة الإنسان الغنية بالأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة محصورة في إحدى ملكاته المتمثّلة في الشّعور بالذّات [...]. فعلى هذا الأساس يمضي هيجل في «ظاهريّة الرّوح» ليصل إلى ضرورة إحلال المعرفة المطلقة محلّ الحقيقة الإنسانيّة، فالمعرفة المطلقة، بالتّحديد، هي –حسب هيجل- منحصرة في الوعي الذّاتي للإنسان ولا شأن لها بالعالم الموضوعي. لهذا حوّل هيجل الإنسان إلى إنسان الشّعور بالذّات، بدلاً من أن يحوّل الشّعور بالذّات إلى شعور الإنسان الحقيقي الذي يعيش في العالم الموضوعي الواقعي المحسوس المحدّد وجوده. [...] إنّ الهدف الذي يحذو حذوه هيجل، في «ظاهريّة الرّوح»، هو إرادته وإصراره على إثبات أنّ الشّعور بالذّات هو الواقع الوحيد والكلّي الممكن."(Karl Marx,1968, pp.116,117)
يتبيّن لنا من خلال هذا النّص، أنّ ما قام به ماركس يتمثل في إماطة اللّثام عن العيب الذي تتصف به مثاليّة هيجل التي حوّلت الإنسان من كائن عامل إلى كائن تنحصر نشاطاته في عمليّة الشّعور ليس فقط، بحيث تمّ فصله عن العالم الخارجي المحسوس، وبالتاّلي، إنّ ماركس يرى بأنّ هيجل قد أغفل تلك الصّلة التي تربط الإنسان بالطّبيعة الخارجيّة المتمثّلة في علاقة العمل التّي تحرّك الإنسان وهو بصدد ممارسة نشاطاته التّطبيقيّة فتتموضع ماهيته الإنسيّة في شكل الصّنعة التي تكشف عن قدراته العقليّة والخياليّة المستترّة، بوصفه كائنًا يتألّف من (الجسم: اللّحم، العظام) و (الرّوح: التي ماهيتها الفكرة).
بتعبير آخر، لقد ردّ هيجل – حسب ماركس - في «ظاهريّة الرّوح»، الإنسان العامل إلى الذّات العارفة عوض من أن يعمل على كشفها، فاغترب الإنسان عن معاني الإنسانيّة ومضامينها، بحكم أنّ ماركس ينطلق في كتابه: "الإيديولوجيّة الألمانيّة" الذي نشر عام 1846 من فكرة مهمّة جدًّا، مؤدّاها أنّ الأفراد الإنسانيّون اجتماعيّون بطبعهم، ينتجون في إطار الشّروط التي تمليها عليهم حياتهم الاجتماعيّة.
وبهذا، يمكن القول أنّه انتقد المثاليّة الألمانيّة التي فصلت بين الإنسان والطبيعة وخلقت صلة بين الإنسان واغترابه، "هذه الصّلة التّي لا تتطابق ولا تتوافق مع جوهر الإنسان، أي مع وعي الذّات،"(Karl Marx,1972) ومن هنا، سمّي كتابه ب: "الإيديولوجية الألمانيّة".
ومن خلال هذا الفهم الماركسي لطبيعة الإنسان، نفهم أنّ الإنسان، في الأصل، هو إبن الطّبيعة والمجتمع الذي يشترك فيه الحياة مع أقرانه، وذلك نظرًا لكونه "مدفوع بالقوى الطّبيعيّة، القوى الحيويّة. إنّه كائن طبيعي ونشيط وفعّال [...]، يتمتع بكيانه المادي المتشكّل من أعضاء الجسم والدّم والعظام، وموهوب بالقوى الطبيعيّة، حيٌّ، واقعيٌّ، حسّاسٌ، واعيٌ وهادفٌ، بمعنى، موجودٌ من أجل تحقيق هدفه في الوجود بالمطالبة بحقوقه والتّظاهر والدّفاع عن حياته."(Ibid., pp.115,116)
كما يعدّ، في منظور ماركس، "كائنٌ يتمتّع بمجموعة من الحاجات والرّغبات، ولد في الطّبيعة، كائنٌ يعمل وينتج، ويخترع بغية سدّ حاجاته البيولوجيّة [...] وهو بذلك مناضل ضدّ الطّبيعة التي منها يبرز."(Lefebvre, 1964, p.41)
يواصل ماركس مهمّته في كشف عيوب النزعة المثاليّة، فيعاتب أعلام الفلسفة المثاليّة باتّخاذهم الفرع (الرّوح) أصلاً والأصل (الدّماغ) فرعًا. بتعبير آخر، يعتبر موقف ماركس عدائي ومناهض للمثاليّين الذين على رأسهم (جورج باركلي)-(1684-1753)،(Georges Berkeley)، ثمّ هيجل، اللّذين رأيا بأنّ الفكر هو أصل المادة في الحركة، وأنّ المادة ما هي إلاّ انعكاس لصورة الوعي، إذ يرى أنّها بالضّرورة على خطأ.
وإذا كانت صيرورة التّاريخ لدى هيجل تقوم على العقل وحده، فإنّ هذا التّاريخ هو من منظور ماركس "لا فعاليّة له، إنّه لا يملك الثّروات الهائلة، إذ ليس في وسعه توجيه نشاط الإنسان صوب تحقيق أهدافه بل على العكس من ذلك، يوجّه الإنسان التّاريخ على نحو تحقيق مقاصده، لذا فإنّ التّاريخ مجرّد إطار يعكس نشاط الإنسان الحيّ والفعّال والواعي والهادف."(Marx et Friedrich,1972, p.16)
هكذا يعتبر الماديّون بأنّ الأصل هو الدّماغ (المادة أو العضو)، والفرع هو الرّوح (الفكرة)، وكانوا صادقين في تأكيدهم "ضدّ المذهب المثالي لباركلي وضدّ الفلاسفة الذين يختبئون وراء مذهبهم اللاّمادي: أنّ العلم والأشياء، هما من جهة متجسّدين خارج أفكارنا، وأنّه ليسا بحاجة إلى أن يتجسّدا، ومن جهة أخرى، ليست أفكارنا هي التّي تخلق هذه الأشياء، لكن العكس تمامًا، إنّ الأشياء هي التّي تعطي لأفكارنا بعدها الأونطولوجي المادي."(Politzer,1970, pp.59,60)
إنّ هذه الحقيقة تجرّنا إلى القول، إنّ ماركس كان يقصد من خلال نقد النزعة المثاليّة، وبخصوص مسألة أسبقيّة الرّوح على المادة، أنّ "الديالكتيك في الفكر والوعي يعكس حركة المادة، وإذا تاريخ المعرفة والعلم يعرض ويقدّم لنا صيرورة ديالكتيكيّة (الثّورات، الصّراعات بين المتناقضات...إلخ)، فذلك راجع في المقام الأوّل إلى وجود ديالكتيك في الطّبيعة،[...] هناك إذن ديالكتيك طبيعي، مادي، أوّلي وجوهري يتمثّل في الوجود، بمعنى، الطّبيعة الماديّة المحدّدة للوعي الذي تعكسه"p. 23) (Lefebvre,1964,، التي تتألّف من دينامكيّة المادة في الواقع على نحو ما تمليه الشّروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة والظّروف التّاريخيّة بصفة عامّة.
على أساس هذه الفكرة يقيم ماركس صرح فلسفته الماديّة مناهضًا جميع الأنساق الفلسفيّة المثاليّة، بحيث يعطي الأولويّة لشروط الحياة الاجتماعيّة بالنّسبة لأيّ حقبة تاريخيّة كانت، في تعيّن أو تحديد طبيعة الأفكار والمبادئ التي تنتشر وتسود روح العصر.
وبالفعل، هذا هو المعنى الذي نستشفّه من خلال كلامه الذي يلي:
"ليس وعينا الذي يحدّد ويعيّن الشّروط الماديّة لحياتنا، إنما العكس من ذلك تمامًا، فالشّروط الماديّة ووجودنا الاجتماعي هو الذي يحدّد وعينا."(Karl Marx,1947, p.5)
إنّ من خلال هذا المنطلق وعلى أساسه يبدو هيجل بالنّسبة لماركس "في نهاية نقده، غامضًا ومبهمًا، وعليه فقد اعتبرناه دائمًا وثوقيًّا و دوغمائيًّا [...]، ففي كتابه« فينومينولوجيا الرّوح»، أعاد عمليّة بناء صرحه الميتافيزيقي المفعم بلأوهام. ألم يحاول هيجل إعادة بناء العالم الحسّي وعالم التّاريخ بردّه إلى الوعي الذّاتي للإنسان؟"(Jean yves Calvez,1974, p.48)
نعم، فكما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، تعدّ محاولة هيجل في ردّ الظواهر إلى الذّات وتعقّل العالم الخارجي وجعل كلّ ما هو واقعي عقلاني، - في العالم الحسّي النّسبي الذي تسود فيه بعض التناقضات الاجتماعيّة المبتذلة المغايرة لطبيعة الوعي الإنساني-، من أجل بلوغ المطلق والكمال، السّبب الرّئيسي الذي جعل ماركس يتّهمه "بالتّصوّف والمشي على الرّأس [...]، إذ قال بأنّ منهجه الموسوم بالدّيالكتيك المادي مضاد مباشرة لمنهج هيجل في النّقد الدّيالكتيكي [...]. كما صرّح في الأخير بأنّ غايته من كلّ هذا تتمثّل في جعل مثاليّة هيجل ماديّة، وذلك بغية مواجهة مختلف التّناقضات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة السّائدة في العالم المادي الملموس."(E.Balibar,1993, p.19)
وبالإضافة إلى ذلك، لقد عرفت مثاليّة هيجل نقدًا لاذعًا في الوقت الذي كان فيه ماركس يكتب مؤلّفه الضّخم الموسوم "رأس المال. مساهمة في نقد الاقتصاد السّياسي"، أي في المجلّد الأوّل والجزء الأوّل منه.
والدّليل على ذلك نعثر عليه في كلام ما نصه ماركس:
"على الرّغم من أنّ طريقتي الدّيالكتيكيّة لا تختلف عن الطّريقة الهيجليّة من حيث الأساس، إلاّ وأنّني عمدت إلى نقد الجانب الصّفي فيه، حتّى أصبحت طريقتي تمثّل ندّها تمامًا، لأنّ حركة الفكر، هذا الفكر الذي يشخّصه هيجل ويطلق عليه اسم الفكرة التي كانت في نظره خالقة للواقع وصانعة له، وما الواقع إلاّ الشّكل الحادثي للفكرة، فإنّني أرى العكس من ذلك، إذ ليست حركت الفكر إلاّ انعكاس للحركة الواقعيّة، منقولة إلى الإنسان ومستقرّة فيه، فإذا كان هيجل يشوّه الدّيالكتيك بالصّوفيّة، حيث كان يسير على رأسه، فما علينا إلاّ أن نعمل على إعادته يسير على قدميه، لكي نرى له هيئة معقولة تمامًا [...]، ذلك لأنّه من حيث جوهره هو نقدي وثوري، له علاقة مباشرة مع الأوضاع القائمة" (كارل ماركس،1982، ص:22،23)،
ولكن الاختلاف الذي يكمن بين كلّ من هيجل وماركس بخصوص مفهوم الثّورة هو أنّها تتخذ انطلاقتها بالنّسبة للأوّل من العالم المثالي بوصفها تهدف إلى تنظيم العالم، بينما يرى ماركس أنّها تتمثل في الصّراع المحتدم القائم بين الطبقتين المتنازعتين:
البروليتاريا التي تثور ضدّ أوضاع الفقر والبؤس واللاّمساواة وضدّ ميكانيزم الملكيّة الخاصّة، والبورجوازيّة التي تمتلك القوى المنتجة وموضوعات العمل ملكيّة خاصّة.
إنّ ماركس يؤكّد بأنّ الثورة تنفجر إثر هذا التّناقض الجوهري الذي تحمله المنظومة الرّأسماليّة في طيّاتها، وبالضّبط بعد إدراك الطبقة العمّاليّة بأوضاعها المزريّة والتّناقضات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة التي تشكّل بنية المنظومة الرّأسماليّة الليبرالية، كالتّناقض بين العمل والاستغلال، والتّناقض القائم بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والعمل الجماعي من جهة والرّبح الخاص من جهة أخرى.
إذن، ألا يدلّ هذا على أنّ "الوجود الاجتماعي هو الذي يحدّد الوعي الاجتماعي، باعتبار أنّ كلّ إنتاج فكري مرتبط بصورة أو بأخرى بسيرورات العمل المادّي" (إرنست ماندل،1980)
وباعتبار أنّ "البشر يدخلون في الواقع خلال عمليّة إنتاجهم في إطار علاقات محدّدة للإنتاج تتوافق مع الدّرجة المحدّدة لتطوّر قواهم الماديّة الإنتاجيّة. والنّتيجة الكلّيّة لهذه العلاقات الإنتاجيّة تكوّن وتشكّل البناء الاقتصادي للمجتمع، والأساس الواقعي الذي يقام عليه البناء الفوقي القانوني والسّياسي التي يتماثل معها أشكال محدّدة للوعي الاجتماعي. إنّ نمط إنتاج الحياة الماديّة هو الذي يقرّر عمليّة الحياة الاجتماعيّة، السّياسيّة والعقليّة بوجه عام."(Karl Marx,1974, p.5)
أمّا فيما يخصّ كتابه "بؤس الفلسفة"، فعلى الرّغم من كونه يمثل ردًّا عنيفًا ومرهقًا على "فلسفة البؤس" لبرودون، إلاّ أنّه يوجّه دائمًا سهام نقده إزاء كلّ فلسفة تقوم على أساس البحث الميتافيزيقي، ومن بينها رفضه غموض النّسق الهيجلي. يقول ماركس بهذا الصّدد ما يلي:
"إنّ الصّيغة الهيجليّة ليست ثلاثيّة إلاّ بفضل رغبة المعلّم الطّيبة أو خطأه، وهي تتضمّن أطراف ثلاث حيث لا يوجد في الحقيقة سوى إثنين، وهي بالتّالي لا ترى أنّ المفارقة لا حلّ لها على الإطلاق، إنّها تشير إلى تذبذب أو تضاد قابل لإحداث توازن فحسب."(كارل ماركس، دون تاريخ،ص:12)
وهذه المسألة تتّضح جليًّا وبدقّة من خلال قوله الآتي نصّه:
"على غرار هيجل، كنت قد تبنّيت فكرة أنّ حلّ المفارقة ينبغي أن يكون من خلال طرف أرقى هو التّركيب الذي يختلف عن الطّرفين الأوّلين، الموضوعة والنّقيضة، إنّه خطأٌ في المنطق بقدر ما هو خطأ في التّجربة، لكنّني عدت عنه اليوم. لا حلّ للمفارقة، هنا يكمن العيب الأساسي لمجمل الفلسفة المثاليّة.فالطّرفان اللّذان تتألّف بهما يتوازنان [...] إنّ التّوازن ليس تركيبًا، كما عناه هيجل وكما كنت قد افترضته من بعده."(كارل ماركس، دون تاريخ، ص:12)
ولكي يؤكد ماركس ما راح إليه في هذا الصدد، نجده يعاتب هيجل في مسألة العمل، من منطلق أن هذا الأخير، يضفي عليها "الصيغة الروحانية بمعنى ما في آثاره اللاحقة، ولا سيما في كتاب فنومنولوجيا الفكر، ذلك أن (الفكر) هو الذي ينتقل بفاعليته المستمرة من اليقين المباشر إلى المعرفة المطلقة. وأن سلبية العمل تصبح على هذا النحو ذاك الدرب من الشك، وبكلمة دقيقة، من اليأس الذي يقود الشعور إلى وعي ذاته." (هنري أرفون، 1977، ص ص: 39، 40)
وعلى هذا الأساس، تنهض فلسفة ماركس المادية لتقع في ملتقى المادية والمثالية. وتؤكد، بالمقابل، أن النظرية المثالية تعترف بالدور البارز الذي تضطلع به الفاعلية البشرية ولكنها تحدد هذه الفاعلية بالفاعلية الذهنية وتتغافل، بهذا الاعتبار، عن العالم المشخص. وعلى هذا فإن الأمر أمر نقل مبدأ الممارسة من "التصور المثالي المجرد للفكر" إلى "الفاعلية الإنسانية الواقعية المشخصة". (المرجع نفسه، ص: 40)
وفي هذا السياق نعثر على نص مهم لماركس يصف فيه الطابع المثالي الذي تكتسيه طريقة هيجل في التفكير، وذلك في كتابه الموسوم ب: "بؤس الفلسفة" حيث يقول ما يلي نصه:
"إذا كان الإنجليزي، يحول، من خلال طريقته في التفكير، الناس إلى قبعة لا يرتديها إلا الرجل البورجوازي، فإن الألماني، من خلال منهجه المثالي، يرتفع بالقبعة إلى مستوى الأفكار المجردة. الإنجليزي، هو دافيد ريكاردو، موظف البنك الثري والإقتصادي المتميز؛ بينما الألماني، فهو فريدريش هيجل، أستاذ الفلسفة البسيط بجامعة برلين." (Karl Marx, 1972, p. 113)
وبالإضافة إلى هذا النقد الماركسي المناهض لمثالية هيجل، نجد بأن صديقه فريدريك إنجلز هو أيضا بدوره يصف طريقة هيجل في التفلسف بالخطأ المثالي للهيجيلية، وذلك في كتابه المعنون: "الإشتراكية الكوباوية والإشتراكية العلمية" حيث يقول ما يلي نصه:
" إن الحكم بأن هيجل مثالي، إن دل على شيء فإنما يدل على أنه عوض أن يعتبر أفكار روح عصره كانعكاس مجرد للأشياء وصيرورة الوقائع القائمة، نجده، على العكس من ذلك، يعتبر الأشياء وتطورها كأنها صور بسيطة مطابقة لعالم الأفكار موضوعة متواجدة لكننا لا نعي مكان تواجدها: قبل أو بعد هذا العالم الذي نعيشه. وعليه، فكل شيء – حسب المنطق الهيجلي – موضوع وواقف على رأسه. وبالنسبة لتسلسل الوقائع العالم فهي أيضا متعاكسة بأكملها." (Friedrich Engels, 1973, p. 84)
كما صوب إنجلز سهام نقده العدائي لنسق هيجل الفلسفي في هذا النص الذي يلي:
"ليس في متناولنا البحث عن الأسباب المتعلقة بالتحولات الاجتماعية وكل الانقلابات السياسية في عقول الناس وفي فهمهم المتنامي لمفهوم الحرية و العدالة الخالدة؛ لكن، عملية البحث هذه تستوجب علينا العودة إلى التحولات التي يعرفها نمط الإنتاج والتبادل. لا يجب علينا التركيز في بحثنا عن هذه الأسباب في الفلسفة، لكن، في اقتصاد الحقبة التاريخية العالقة بدرجة عالية بتلك التغيرات الاجتماعية والسياسية." (Ibid., p. 91)
نفهم، من خلال هذا النص، أن إنجلز يفسر قضية مهمة قد طرحها ودافع عنها، من قبل، صديقه ماركس في كتابين له موسومان ب: "الإديولوجية الألمانية" الذي تم نشره عام 1845، وثم بعده "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" سنة 1857. ففي هاذين المؤلفان، نعثر على مقولة ماركس الشهيرة الآتية نصها:
"ليس وعينا هو من يحدد شروطنا المادية في الوجود، بل العكس من ذلك، إن الشروط المادية لوجودنا هي من تحدد وعينا." (Karl Marx, 1974, p. 5)
مما يدفع بنا إلى القول، أن الأفكار لا تتخذ حذوها وهي تنزل من السماء العالية المرصعة بالنجوم الساطعة، متجهة نحو الأرض التي تمثل في الأصل الأم الحنونة لهذه الأفكار. إن هذه الأفكار لا تحلق بطريقة عفوية في السماء مثل طيور الحقول الصغيرة الجميلة ذات اللون الرمادي في منقارها وتقدم في طبق شهي بعد طهيها. بل، إن عملية إنتاج الأفكار تبقى مرتبطة دائما بالممارسة والعمل الإنساني.
وعليه، إن ما يريد ماركس إيصاله لنا، هو أن الفلسفة في أصلها عملية، لأن الإنسان يعيش في التاريخ. أضف إلى ذلك، إننا كي نرتقي بملكة الفهم في المجال الفلسفي، ونحكم بأننا نستوعي المجال الفلسفي، وأن العقل يحكم ويسود التاريخ، هذا، أمر يستوجب علينا إنتاج وممارسة الفلسفة كنشاط فكري وعملي تجريبي في آن واحد.
من خلال هذا، إن ما أغفله هيجل – حسب ماركس – في هذا السياق، أنه فصل، في فينومينولوجيا الروح، بين النشاط العقلي (التفكير) وعملية إنتاج العقل عمليا.
بالتالي، أهمل هيجل تلك العلاقة المباشرة التي تجمع بين السيرورة العملية الإنتاجية والعقل العارف، واكتفى بإرجاع الذات إلى العالم الروحاني المغمور بالتصورات المثالية المجردة من العالم المادي. من هنا تتبين لنا حقيقة مفادها أن صحة القضية التالية: (سيادة العقل في التاريخ) منطبقة مع المسألة المطروحة من طرف ماركس والتي مؤداها أن موطن الفلسفة لا علاقة معه والسماء الزرقاء المزوقة بالنجوم، بل العكس، الفلسفة أو عملية التفكير، والفهم يستدعيان علينا ضرورة العيش من داخل الظروف الاجتماعية والشروط التي يمليها علينا المجال العملي الاقتصادي – التجاري.
وعليه، نفهم بأن مفهوم الفلسفة - في منظور ماركس – لا يفيد العيش فيما نفكره، بل هو التفكير فيما نعيشه.
علاوة على ذلك، ناهض ماركس، من جهة أخرى، وبشدة، موقف هيجل الذي يحاول من خلاله الغاء رأي الإقتصادي الإنجليزي "أدم سميث" الذي اكتشف أن الإنسان يسوق "بسائق أهواء أنانية وخبيثة في الغالب ويعتقد أنه واجد مصلحته في مجتمع يقوم على أساس المقايضة، نجم عن ذلك نمو المجتمع الرأسمالي." (هنري أرفون، ص: 84)
إن موقف هيجل الذي جاء لتصحيح هذه النظرة النفعية، بحيث كان يراها ضيقة وممثلة لما يسميه ب: مكر التاريخ (La ruse de l’histoire)، ومعتبرا بأن "الناس يحشبون أنهم يتبعون في أفعالهم مصالحهم الشخصية وحدها، ولكن جملة فاعلياتهم الفردية تتطلع في الواقع نحو هدف لا يتوخى تحقيق رغباتهم بل انتصار (العقل في التاريخ)، سيادة (الفكر)." (المرجع نفسه)
هذا كله خلق في ماركس قوة ثورية مناهضة لنظرة هيجل التي ترجع الإنسان إلى العقل وتحصره في نطاق ذاتيته.
وبالرغم من ذلك فإن انتقاد ماركس لا يبلغ أعماق الفلسفة الهيجلية ويقتصر على تناوله شكل هذه الفلسفة. ولئن هاجم (الفكر) الهيجلي في حدود تلاعب هذا الفكر بنفسه ضمن أنواره الخاصة وتراكيبه الخاصة، أي في حدود انبثاقه من التأمل النظري، فإن هذا الإنتقاد الماركسي يعترف مع ذلك بأن الفكر الهيجلي فكر منتج بصورة أساسية. اجل ان (الفكر) يطرح ذته ويجد ذاته في آخر المطاف داخل (الفكر المطلق). ولكن هذه الذات التي يغلق بها فمه هي فكر يحتاج، من أجل أن يعرف ذاته، إلى الخروج من ذاته، إلى التأثير في آخر قبل أن يكون هو ذاته. (المرجع نفسه، ص: 42)