- وظيفة المنهج الجدلي عند هيغل (تابع):
خلصنا في المحاضرة السابقة إلى أن التمزق والانشقاق الذي يعاني منه الوعي البائس في المرحلة الثانية، يدخله في صراع مع العالم الخارجي.
هذا الصراع بين الأنا والآخر بالنسبة لهيغل يشكل قانون الطبيعة الإنسانية. بمعنى، أن كل شيء، ليصل إلى ذاته، لابد أن يمر بنقيضه، ليحقق معناه. وهنا يقدم لنا هيغل عدة أمثلة من بينها:
مسألة الاعتراف: بحيث أن الاعتراف بالذات يتم عن طريق الآخر. هذا الأخير، يبحث عن معناه في ذاتي، من منطلق أنني أتمسك بوجودي ضده.
وهذا الصراع يمثله هيغل بجدلية العبد والسيد، ثنائية العبد والسيد. في الجزء الأخير من فينومينولوجيا الروح. وهو صراع مستمر حتى الموت بين العبد والسيد. والوعي الذي يخشى الموت ينجر عنه الخضوع للسيد، وهذا ما يشكل العبد. والوعي الثاني الذي يتزود بفضيلة الشجاعة، يفضل الموت حرا، على أن يكون عبدا، هو الوعي المنتصر، يشكل وعي السيد.
لكن، إذا كان هيغل يعتبر الحرية مطلبا أساسيا للفرد، فإنه يتساءل في هذا السياق قائلا:
كيف يمكن للعبد أن يتحرر من عبوديته، أي كيف يتخلص من تبعيته للسيد؟ لغرض حل هذه المفارقة أو الصراع القائم بين العبد والسيد. هل يتم ذلك بالتضحية بحريته، أم أنه يطلب التغيير والتحرر؟
التغيير لابد منه، والتحرر شيء أساسي. ولكن كيف يتحقق ذلك، هل عن طريق الثورة؟
للإجابة عن هذه المفارقة يقول هيغل ما يلي:
"إن الإنسان موجه إلى أعلى درجات الحرية" إلا أنه ضد الثورة. فتجاوز العبد وضعه البائس يمكن تحقيقه على نحو آخر.
- مسألة العمل عند هيغل:
يرى هيغل في العمل شرطا ضروريا وأساسيا للتحرر وتخلص العبد من تبعيته للسيد. في المرحلة الأولى، ثم يتحدث هيغل عن مسألة اليد الخفية في المرحلة الثانية.
- جدلية العبد والسيد:
*التبعية المزدوجة بين العبد والسيد:
يرى هيغل في العمل وسيلة للتحرر. فالعمل يزيد من قيمة الإنسان ويكشف عن أبعاده المتعددة. كما يقضي على الضروريات والحتميات التي تقيد الإنسان. بما فيها مسألة الاستغلال في اطار نمط الإنتاج الاقطاعي.
ويدلل هيغل على ذلك بكون العبد يحقق ذاته عن طريق العمل وما ينتجه. مما يسمح له بتطوير مهاراته وقدراته الذهنية والجسمية. وفي سياق سيرورة العمل، تتشكل وتتكون ذات العامل أو العبد، وتتجه نحو التحرر من العبودية، وذلك بعدما يتشكل وعي العبد في التاريخ عن طريق الدفاع والمطالبة بالحقوق.
أما بالنسبة للسيد سيتوقف عن كونه سيدا، بل ويتحول إلى عبد في تبعيته للعبد، في إطار المطالبة بحقوقه، فقد يؤدي ذلك إلى سن قوانين جديدة تحمل في طياتها آيات بطلان نمط الإنتاج الاقطاعي الذي سيتحول إلى نمط إنتاج جديد، وهذا الأمر يشهد عليه التاريخ بعد بروز الرأسمالية الليبرالية القائمة على فكرة الحرية.
*الذات شرط وجود الآخر:
العبد لا يمكنه أن يكون عبدا في غياب السيد.
والسيد من دون عمل العبد لا يتمتع بالموضوعات المنتجة من طرف العبد.
في هذه العلاقة، وهذا التفاعل، القائم على متناقضين (قضيتين) يظهر لنا أنكل طرف فرد أو ذات يحدد وجوده الاجتماعي وشخصيته عن طريق الآخر.
وهنا يجتمعان تحت غطاء التبعية، كل منهما بحاجة للآخر، بل إن كل واحد منهما لا يكون إلا بوجود الآخر. وبالتالي، فإن كل فرد هو شرط وجود الآخر.
يبين لنا هيغل، من خلال جدلية الوعي، أن الفكر في مساره الثلاثي هذا، سيحقق ويتجاوز التناقض بين الذات والموضوع، بقبول اندماج كل منهما في الآخر.
وهذا ما يوضحه في المرحلة الثانية مستندا إلى النظام الاقتصادي الإنجليزي بتطرقه لمسألة اليد الخفية.
*اليد الخفية:
يرى هيغل أن الفرد حينما يشتغل فهو لا يعمل لتحقيق مصالحه الشخصية فقط. ففي الوقت نفسه يعمل من أجل شخص آخر.
وعليه فاليد الخفية تمثل تأليف أو تركيب بين الأنا والآخر في منظومة الاقتصاد الحر. فعلى الرغم من أن المصلحة الشخصية تلعب دورا هاما في الاقتصاد الحر، وأنه لا وجود لشخص بإمكانه العمل ضد مصلحته الشخصية، إلا وأن الفرد وبتأثير اليد الخفية يشتغل لسد حاجات الآخر.
هنا يمكن القول بأن مصلحتي لا تتعارض مع مصلحة الآخر.
- خاتمة:
في الأخير نستنتج:
*أن الفكر عند هيغل هو تلك الحركة التي من خلالها نقبل ونندمج في نقيض الذات ونتجاوز هذا التتاقض ونخرج منه بتجربة أكثر قوة.
*أن إدراكنا لقلب الجدل الهيغلي هذا، جعلنا ندرك حقيقة أن (أنا) لست (أنا)، كيف لا أليست الغيتارة التي تسكن إليها نفسي هي نفسها قطعة الخشب التي حفرها ونحتها سكين من حديد. كذلك يتساءل "جبران خليل جبران" عن ماهية السعادة والحزن فيقول:
"هما وجهان لعملة واحدة". ارجع إلى نفسك ستجد أنه من كان سبب فرحك بالأمس هو نفسه سبب حزنك اليوم، فإن حزنت تأمل نفسك من جديد ستجد أنك حزين بسبب من كان مصدر سعادتك وبهجتك.