- وظيفة المنهج الجدلي الهيغلي:
1- مقدمة:
تشهد الحقبة الزمنية المعاصرة، التي نمر بها، من منظور منهجية البحث العلمي، سيلا جارفا من الأدوات العلمية المستخدمة في ميدان العلوم الاجتماعية والانسانية إلى درجة جعلت من المهتمين بالحقل الفلسفي الهيغلي التقليدي، يصرفون نظرهم عن ما يسمى من قبل: جدلية الوعي والتاريخ، فأدخلوا منهج هيغل الجدلي طي النسيان. بل قذفوه في سلة تاريخ المهملات العلمية. ليغدو شيئا ضمن مادة أرشيف المنهجية العلمية. بدعوى أنه لم يعد يجدي نفعا ولا يغني فتيلا.
هذا ما نستشفه لدى كثير من أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، لاسيما أعلام الماركسية أمثال لودفيج فيورباخ، فريدريك أنجلز، كارل ماركس. وأعلام الوضعية التقليدية عند أغيست كونت. والوضعية المنطقية الجديدة عند رودولف كارناب وآخرون... والفلسفة الأونجلو - ساكسونية المتعلقة بالتحليلية من برتراند راسل حتى لودفيج فيجنشتين، وأعلام الفلسفة التحليلية الماركسية، الذين أعلنوا أن الفلسفة التحليلية، في الأصل، تمثل ثورة عنيفة على النسق الهيجلي، وضد كل التصورات الفلسفية المثالية المجردة.
فلقد استحسنوا هؤلاء الأدوات الإبيستيمولوجية التي أثارها ماركس في كتابات النضج.
وسعوا أيضا إلى اعتناق أدوات المنطق الوضعي. في ذات الوقت استهجنوا الجدل الهيجلي، وأعلنوه عقيما، على الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها مفعمة كليا بالتناحر والتضاد بين أطراف المجتمع الفاعلة.
وفي هذا الجو، لا نملك سوى المساءلة في امكانية النظر فيما يجري من أحداث، على ضوء المنهج الجدلي. فهل يوجد متسع من المكان للجدل في قلب الصراعات والمتناقضات المتناحرة في منظور فريدريك هيغل؟
2- وظيفة الجدل الهيجلي:
في الحقيقة، هيغل فيلسوف ألماني، رائد المذهب المثالي، المنسجم في أجزاءه، وفق منهجه الجدلي الذي ينشد المطلق.
تطرق إلى ظاهرة الاغتراب، فاعتبره فكرة مركزية، إلا أنه يتميز بالتجريد، حيث رطها بعالم الفكر، وهو ما يعرف عنده ب: جدلية الوعي. فماذا يقصد هيغل بجدلية الوعي؟
يرى هيغل في العديد من مؤلفاته لاسيما "فينومينولوجيا الروح" و "محاضرات في فلسفة التاريخ: العقل في التاريخ الجزء1"، أنه تكمن علاقة غرابة بين الإنسان والعالم، أي بتعبيره هو بين الروح (الذات) والعالم الخارجي (الموضوع). فالإنسان يعيش في عالم من المتناقضات، وهو عاجز على الجمع بينهما من أجل نزع الغطاء السحري الذي يحجب الذات عن معرفة العالم الخارجي. لهذا، يرى هيغل، بأن الإنسان في هذا السياق التاريخي ممزق، هذا الشعور بالتمزق، هو العامل الذي يحتاج إلى الفلسفة وعملية التفلسف من أجل تعقل وفهم العالم الخارجي، بحيث يتحقق بعد ذلك التركيب والتأليف بين المتناقضات.
من هنا، قام منهجه على ركيزتين أساسيتين:
الأولى: أن الفكر هو مبدأ الوجود
والثانية: أن الفكر هو الذي يقوم بتحليل التناقض الموجود على الصعيد التاريخي. وعليه، فإن العقل هو الحكم في مسرح التاريخ.
والحق أنه في ذات السياق تتجلى وظيفة الفلسفة، أو جدل الوعي، الذي يمر بثلاث مراحل، قصد بلوغ المطلق.
يقول هيغل في هذا السياق ما يلي نصه:
"وظيفة الفلسفة تكوين الوحدة، الكلية، الروح المطلق".
ولتحقيق ذلك، أراد أن يحدد يوميات مسار الوعي للوصول إلى الحقيقة (المركب بين المتناقضات).
ومن هنا، يسير الوعي، حسب هيغل، أثناء دورته الدياليكتيكية بثلاثة مراحل.
في البداية، يمر بمرحلة الوعي الخالص، التي نشرحها كما يلي:
نتخيل الرضيع لحظة قدومه إلى هذا العالم، فهو لا يدرك حقيقة العلاقة التي تربطه بالعالم الخارجي، هذه المرحلة، تتميز بالبساطة والعفوية والتلقائية، فأنا هو العالم والعالم هو أنا. وهذا ما يدل على أن الأنا في هذه المرحلة الذاتية غير مستعدة لتعقل التاريخ. لأنها غير مزودة بالقوة والقدرة على التمييز، والنقد والسلب، لتحقيق ما يسميه هيغل بالتجاوز.
وبعد ذلك، وأثناء مسار حركة الوعي، عبر الخبرة الحسية، يكتسب الوعي قوة وقدرة على التمييز والتحليل والنقد. هذه المرحلة يسميها هيغل بمرحلة: وعي الذات ذاته. مما يعني أن الذات وصلت إلى مرحلة الوعي بوجود العالم الخارجي ووجود الأنا المفكرة. وأن الفرد أصبح في إطار هذه المرحلة الموضوعية ذات مفكرة ناقدة سالبة، بإمكانه رفض/ سلب انتماءه إلى العالم الخارجي بحكم أنه أصبح نقيضه بعد أن احتك به.
لهذا يرى هيغل، أن هذه المرحلة تتميز بالانشقاق والتمزق، فيطلق عليها تسمية الوعي البائس، نظرا لما تعانيه الذات من ألم وتمزق بينها وبين نقيضها العالم الخارجي.
من هنا، تنبثق حسب هيغل، رغبة الأنا في البحث عن تحقيق الانسجام والتوافق والسعادة.
هذا الصراع بين الأنا والآخر: أي الإنسان والعالم الخارجي، أو الإنسان وأقرانه، بالنسبة لهيغل يشكل قانون الطبيعة الانسانية. بمعنى، أن كل شيء، ليصل إلى ذاته، لابد أن يمر بنقيضه، ليحقق وحدته في معناه الكلي المطلق.
ويقدم لنا هيغل أمثلة متعددة حول مسألة الصراع ومن بينها أن مسألة الاعتراف بالذات تتم عن طريق الآخر. هذا الأخير، يبحث عن معناه في ذاتي، لأنني أنا أتمسك بوجودي ضده. وهذا الصراع يمثله بجدلية العبد والسيد في الجزء الأخير من فينومينولوجيا الروح. والحق أنه صراع مستمر بين العبد والسيد حتى الفناء والموت.
والوعي الذي يخشى الموت ينجر عنه الخضوع للسيد، وهذا ما يشكل وعي العبد.
والوعي الثاني الذي يتجرأ ويتزود بفضيلة الشجاعة ويفضل الموت حرا طليقا، على أن يكون عبدا، هو الوعي المنتصر، يشكل وعي السيد.
لكن، إذا كان هيغل يعتبر الحرية مطلبا أساسيا للفرد، فإنه يتساءل، من أجل حل هذه المفارقة أو الصراع بين العبد والسيد: كيف يمكن للعبد أن يتحرر من عبوديته؟ كيف يتخلص من تبعيته للسيد؟ هل بالتضحية بحريته أم يطلب التغيير والتحرر؟
التغيير لابد منه، والتحرر مسألة أساسية عند هيغل، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ هل يكون بالثورة؟
في الحقيقة، هي المساءلة التي نجيب عليها في المحاضرة القادمة حول وظيفة جدل الوعي عند فريدريك هيغل.