- نظرية المعرفة عند إيمانويل كانط:

قامت نظرية المعرفة الكانطية على تيارين:

الأول: تيار عقلي مثله رينيه ديكارت وغوتفريد ليبنيتز على وجه الخصوص، وهو التيار الذي ذهب أنصاره إلى أن الحقائق الطبيعية والميتافيزيقية إنما تدرك بواسطة العقل وحده مستقلا عن التجربة الحسية. 

والثاني: تيار تجريبي يمثله جون لوك وديفيد هيوم، يرى أن التجربة الحسية ينبوع الحقائق والتصورات.

وبين هذا وذاك، بين كانط فساد كلا التيارين:

الأول: لتجاوزه حدوده العقلية وطاقاته، حين ادعى أنصاره إمكان الوصول إلى كيانات، لا يمكن أن تكون موضوعات للإدراك الحسي مثل: الله، الحرية الإنسانية، خلود النفس، أصل العالم...إلخ

والثاني: لقصوره، حينما اقتصر على التجربة الحسية وحدها ولم يضع في اعتباره التصورات والمعاني العقلية التي هي اطارات فكرية لمعطيات الحس.

من هنا، ميز بين الحساسية والفهم الصوري.

وأساس هذا التمييز يرجع إلى أن الحساسية، هي قوة سلبية تتأثر بما يرد إليها من الخارج عن طريق الحواس.

أما الفهم فهو ملكة إيجابية تمكننا من تعقل الموضوعات المادية الحسية.

وعليه، ألف كانط في نظريته المعرفية بين الجانبين:

الجانب الحسي؛ وهو الذي أتاه عن طريق فلسفة ديفيد هيوم، التي تؤمن بالمعطيات الحسية وحدها، وتنكر كل دور فكري عقلي.

الجانب العقلي؛ وهو الذي أتاه من فلسفة وولف، ديكارت، ليبنيتز، الذين يؤمنون ايمانا شديدا بالعقل، ويغفلون دور الحواس، وما هو حسي.

نحن نعلم أن كانط كان دوغماطيقيا أول الأمر، أي عقليا، مثاليا، لكن حينما قرأ هيوم أيقضه من سباته الدوغماطيقي. وجعله يرى بعدا آخر للمعرفة لم يكن يراه من قبل.

من هنا، حاول أن يتوسط بين المعطى الحسي (نتائج الحساسية)، وبين العقل (نتائج قوة العقل). ليؤلف بينهما.

وعلى هذا الأساس، يرى أن الحساسية والفهم شرطان أساسيان لقيام المعرفة العلمية. وأن أي معرفة حقة لا يمكن أن تتم بدونهما من جهة، أو بدون أحدهما، من جهة أخرى.

إذ بينما تمدنا الحساسية بمادة المعرفة،

يمدنا الفهم بصورتها.

ولولا الحساسية لكانت المعرفة بغير موضوع أو مادة.

ولولا الفهم لكانت المعرفة غير قابلة للتعقل.

وأضحت المعرفة مجرد معرفة حسية مستتة، مبعثرة، لا ضابط لها ولا رابط.

من كل هذا، يرى كانط أن المعرفة الترنسندنتالية الحقة، إنما تنتج عن اجتماع واتحاد عالم الحس وملكة الفهم. وتوصل إلى اعتبار أن المعرفة البشرية لها عنصران رئيسيان هما: العنصر الحسي، والتصورات العقلية (الفهم).

- أنواع الأحكام عند كانط:

يرى كانط أن العلم يتناول الظواهر الطبيعية، وهو لا يصل إلى معرفة الأشياء في ذاتها كمسألة خلود النفس والله ...إلخ.

وبالتالي، العلم ممكن في دائرة الظواهر.

من هنا، فإن المعرفة تبدأ من التجربة، لكنها لا تنشأ منها. بل تنشأ مما هو قبلي، ممثل بمقولات: الكيف، الكم، الجوهر، العلاقة، العلية، الإمكان التي سنتطرق لها في حيز الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية والأحكام التركيبية القبلية.

يرى كانط أنه كي تتم المعرفة في العقل ينبغي أن (نحكم) على طبيعة الموضوعات الحسية، على ضوء ما تمليه علينا المقولات الذهنية الموجهة للتجربة. وفي هذا السياق يميز بين مجموعة من الأحكام:

أ- الأحكام التحليلية: وهي التي يكون فيها المحمول متضمنا في موضوعه، ومن ثم فالمحمول لا يظيف شيئا جديدا إلى الموضوع. من ذلك مثلا: (الأعزب رجل غير متزوج). إن كل ما قمنا به هنا، هو أننا شرحنا الموضوع (الأعزب) ولم نظف معنى جديدا إليه.

ومن ثم فإن الأحكام التحليلية هي أحكام شارحة. وبحكم أنها تشرح وتحلل الموضوع، هذا يدل أنها لا تقيم أو تعتمد التجربة الحسية، إنها تكون دائما أحكام قبلية. نعتمد فيها في عملية التحليل والشرح على مقولة الكيفية، أي شرح كيفية معينة بكيفية أخرى. أما بخصوص الكمية فمجالها التجربة الحسية أو بلغة كانط النوع الثاني من الأحكام وهي التركيبية حيث نشرح الكيفية بالكمية.

ب- الأحكام التركيبية: هي التي يظيف فيها المحمول شيء جديد إلى الموضوع. كقولنا: (الخشب قابل للإحتراق)، هذا النوع من الأحكام تركيبي وبعدي، ونعتمد فيه، على التجربة، التي تخبرنا بمعرفة بعدية، هي: قابلية الخشب للإحتراق.

في الحقيقة يرى كانط أن هذه الأمور كانت معروفة من قبل مع العقلانيون والتجريبيون. ومن ثم إن ما أراد كانط الإتيان به هي: الأحكام التركيبية القبلية؛ اعتقدا منه أن تأسيس العلم على مثل هذه الأحكام يجعل منه ممكنا.

ومعنى كلمة ممكن عند كانط هي الخضوع لشروط المعرفة (المقولات القبلية + المكان والزمان).

ج- الأحكام التركيبية القبلية: لقد تساءل كانط حول كيفية إقامة رياضيات بحتة خالصة ممكنة، قائلا: كيف تكون الرياضيات البحتة ممكنة؟

في الحقيقة، إن أكثر الأمثلة التي يأتي بها كانط في هذا السياق هي من الهندسة والحساب. لهذا اقتضت الضرورة المنهجية، في تصورنا، العودة إلى هذا السؤال المتعلق بالرياضيات.

وهو السؤال الذي يجيب عنه في الإستيطيقا المتعالية، وهو عنوان أحد أجزاء (نقد العقل الخالص) والمبحث الذي بحث فيه عن ما يسميه بالعناصر القبلية (أي غير المستمدة من التجربة الحسية). فتساءل هنا، عن علاقة الرياضيات بالإستيطيقا المتعالية (العناصر القبلية) كما يلي: ما علاقة الرياضيات بالإستيطيقا المتعالية؟

يرى كانط، بخصوص هذا الموضوع، أن الأحكام الرياضية تركيبية قبلية من حيث طبيعتها، في آن واحد، ويعني هذا، أن المحمول فيها غير متضمن في الموضوع. فهي ليست بأحكام تحليلية، بل هي قبلية، غير مستمدة من التجربة الحسية.

ومثاله: الخط المستقيم (موضوع  يعكس كيفية) أقصى مسافة بين نقاط غير متناهية (محمول يعكس كمية)

هذا الحكم، في رأيه، ليس تحليليا، لأن المحمول: (أقصى مسافة بين نقاط غير متناهية) ليست متضمنة في الموضوع (الخط المستقين)، لأن مسألة (الإستقامة) في رأيه، هي كيفية، لا تتضمن الكمية.  من هنا، فإن هذا الحكم قبلي، لأنه غير مستمد من التجربة الحسية.

وإذا كان هذا الحكم ليس تحليليا، فهو بطبيعة الحال، حكم تركيبي.

يتساءل كانط في موضع أخر، ما الذي جعل هذا الحكم قبلي وليس تجريبي؟

يجيب: هو صورة المكان، بصفته العنصر القبلي في الأحكام الهندسية، مع العلم، أن كانط ينظر إلى الهندسة، بصفتها نظرية للمكان.

- مسألة الميتافيزيقا عند كانط:

يتساءل كانط في موضع آخر حول ما يلي:

كيف يمكن أن يكون العلم الطبيعي ممكنا؟

كيف تكون الميتافيزيقا ممكنة؟

ويظيف بالنسبة إلى الميتافيزيقا، سؤال آخر، كيف تكون الميتافيزيقا، بصفتها علما، ممكنة؟

وهو الإشكال الذي دفعه ليميز بين نوعين من الميتافيزيقا:

أ- الميتافيزيقا المفارقة: وهي التي لا تخضع لشروط التجربة الحسية، ولا لشروط المعرفة النظرية، وبالتالي، فليس في إمكان العقل النظري والعلمي معرفته.

ب- الميتافيزيقا المحايثة: وتوصف أحيانا بأنها ميتافيزيقا التجربة أو الميتافيزيقا العلمية، وهي التي تحايث المعرفة العلمية، وتوفر لها الشروط القبلية التي تجعل منها معرفة ممكنة. وهذا النوع - حسب كانط – هو الذي يمكن أن يصير علما.

أما بالنسبة للميتافيزيقا المفارقة، فعلى الرغم من أن الإنسان، بميله الطبيعي، يطرح أسئلة مفارقة مثل: الله، خلود النفس، أصل العالم... إلخ، إلا وأن العقل النظري لا يبث فيها بالإجابة عنها، ما دامت تتجاوز شروط المعرفة الممكنة.  

 

 

 

 

   

Modifié le: Friday 24 November 2023, 01:16