- المنهج النقدي عند إيمانويل كانط:

1- خصائص الذات الكانطية:

لا ريبة، في أن كانط يتوخى من فلسفته النقدية تجاوز جل النزاعات الدوغمائية التي تدعي وتؤمن بالحقيقة المطلقة. كما يسعى إلى تجاوز ادعاءات السلطات التي تمنع الإنسان من ممارسة حقه في حرية التفكير والنقد. فلقد صرح كانط في إجابته عن سؤال ما الأنوار؟ بأنها تتمثل في خروج الإنسان من حالة القصور التي فرضها على نفسه، ذلك القصور الناشئ من عجزه في استعمال فكره دون توجيه من غيره، بسبب نقص في التصميم والشجاعة على استعمال الفكر دون الرجوع إلى الغير، "تشجع وفكر بنفسك" ذلك هو شعار التنوير. فالأنوار هي بنية فكرية نقدية اجتماعية سياسية واقتصادية يسعى لتجاوز أشكال الوصاية الميتافيزيقية واللاهوتية من أجل تأسيس فلسفة جديدة تحرر الإنسان من القيد اللاهوتي- الكنسي لخلق علاقة بينه وبين الدين.

إن الأنوار هي وعي الإنسانية التي تريد الرجوع إلى ذاتها، إنها بمثابة استراتيجية جديدة للمعرفة تقوم على الحرية، وتقوم أيضا على إحداث تغيير جذري في طريقة التفكير.

إن السمة الرئيسية التي تميز الفلسفة الكانطية أنها مزودة بروح النقد. ويشبه نفسه، في هذا السياق، بالعالم  (كريستوف كولومبس) مكتشف الأراضي الجديدة في كتابه الموسوم ب: "L’histoire générale de la nature" باعتباره يعد هو أيضا مكتشف روح النقد الذي لم يبلغه بصورة واضحة إلا في كتابه المعنون: " نقد العقل المحض" سنة 1781. وهذا يدل على أن المشروع الفلسفي الكانط قبل سنة 1781 كان بمثابة مشروع ميتافيزيقي لا نقدي، إذ يمكن القول بملئ الثقة أن النقد عند كانط عرف بزوغه الأول في كتاب نقد العقل المحض  حيث أكد بأن النقد لا يتمثل في تطوير الفلسفة السابقة، بل فضلا عن ذلك، يتوخى ميلاد جديد للميتافيزيقا، التي تتمثل في المجال الذي يدرس فيه العقل الذات ويتأمل فيها بغية اكتشاف حدودها التي سيصل من خلالها إلى أراضي فكرية جديدة.

ومما لا شك فيه، أن بدايات المثالية الكانطية الأولى كانت مع منظومة (Crusius)- (1526-1607) الدينية، وذلك من خلال مقولته الشهيرة "الله هو الذي وضع في ذواتنا قوانين ومسلمات، قواعد ومفاهيم قبلية في عقولنا". إلا وأن الإختلاف الذي يمن بينهما هو أن الأول ينطلق من الذات إلى القوة الخارجية (الله)، بينما كانط ينطلق من الذات إلى الذات، لأن في نظره، المثالي يرى بأن ك شيء يحدث في حيز الأنا. وهذه الأنا حسب كانط الذات بالمفهوم المثالي، التي ليس لها أية علاقة بدراسة الأنا دراسة سيكولوجية بل لها علاقة بالبحث الفلسفي وليس بعلم النفس التجريبي، لأنه يقصد بها العقل الإنساني الكلي وليس العقل الفردي الذي يختص به ويحلله ميدان علم النفس التجريبي. وهذا العقل في نظر كانط ليس مطلقا وإنما هو فهما فقط، بمعنى فهم العالم من خلال المفاهيم القبلية الموضوعة قبليا في ذواتنا، وهذا الفهم أو العلم هو نسبي لأن العلم الحقيقي هو العلم الذي يعترف بوجود الحدود، لهذا كان كانط يرى بأن الفلسفة هي العلم بحدود العقل البشري، وأن الذات التي تعرف نفسها هي تلك الذات التي تعلم بحدودها إنطلاقا من مفهوم النقد.

- الأنا الدياليكتيكية: إعترف كانط ل (Garve)- (1712-1798) أنه ليس هيوم ديفيد هو الذي أيقضه من سباته الدوغمائي وإنما هي نقيضة العقل الخالص، حيث صرح كانط في نقد العقل الخالص  بن طبيعة العقل دياليكتيكية، وأنه يتواجد في النقيضة مظهرين متناقضين متوازيان على شكل أفقي، ولا يمكن معالجة هذا التناقض إلا بازدواجية ثانية تكون بشكل عمودي وهي عملية النقد، بحيث يتبنى النقد، هنا، موقفا متعاليا، وهو في الحقيقة ما يتمثل في المحكمة التي تعقد الصلح بين طرفين متناقضين.

- الأنا بوصفها التركيب قبلي: والذات عند كانط لها ما يميزها عن تلك التي تتسم بها الفلسفة التقليدية، فهي بمثابة التركيب القبلي الذي يدل على أننا نطلق أحكاما لا علاقة بها بالأشياء الخارجية التجريبية: كل الأجسام الثقيلة، بحيث يجد الفكر آخره في التركيب القبلي دون توسط الانطباعات الحسية فيستقبل محمولات أجنبية، باعتبار أن التركيب يتعلق بما ينبغي إضافته للمفهوم كي يصبح الشيء فعلا، وما نظيفه هو المحمول. بمعنى، التركيب هو عملية وصل أو جمع بين المفاهيم قصد تحقيق المعرفة.

- العفوية: لكن هذه المفاهيم هي أعراض والجوهر هو الذات التي تركب القضايا فتجمع بين المفاهيم المختلفة وقولنا أن الجوهر هو الذات يدل على أن قبل التركيب توجد ذات فعلية والتي هي القدرة المشتركة لكل نشاط معرفي، إنها المبدأ الخاص لقدرتنا على التركيب القبلي، إنها العفوية الأصلية للفكر الذي عندنا. وإن دل هذا على شيء معين، فإنما يدل على أن التركيب القبلي هو في الأساس فعل ربط ليس مشتقا من معطيات مادية، بل هو فعل الذات، فعل عفوية الذات التي تعيش النشاط الفعلي. من هنا، يريد كانط أن يوصل لنا فكرة هي في الغاية من الأهمية، وهي أن الإدراك الواعي، أي أن إدراك الذات الخالصة يعود إلى العفوية، وهذا الإدراك الواعي لا يشير لا إلى محتويات مادية ولا إلى حقائق متعالية، وإنما يشير بكل بساطة إلى الذات كما هي بذاتها، كوعي خالص وعفوية خالصة، وهذه الأخيرة ليست من طبيعة قبل-عقلية، بل هي عقلية في تجردها من المادة تشير إلى الفكر الخالص.

- الأنا المتعالي: من هنا، فالذات هي الأنا المتعالي، الذي لا ينبغي فهمه كأنانا أو أنا الآخر، فهو ليس زيد وهو يفكر، وإنما فقط المجهول (+) فكانط حفظ الإدراك المتعالي من كل إدراك ذاتي شخصي، فهو ليس ذات خالصة معينة، بل هو كلي، كوني. ويظيف كانط قوله بأنه موضوع مجهول للوعي، بمعنى له فقط ذات وليس له موضوع، إنه فارغ من موضوع المعرفة، في هذا الصدد تصبح الذات هي موضوع المعرفة حيث تقصد نفسها بغية معرفتها وفهمها. بصيغة أخرى، إن الأنا المتعالي الذي هو مجرد من الموضوع، فإنه مزود بالذات التي تفكر في ذاتها. ألا يدل هذا الفعل الذاتي على أن للذات الخالصة الدور الفعال في عملية التفكير؟ كما يدل ذلك أيضا على أنه ليس هناك ذات دون تفكير، والفكر هنا هو المنطق، أي ليس هناك منطق بدون تفكير.

2- الدور المركزي لوظيفة النقد عند كانط:

لا ريب في أن المفاهيم لا تختلف من حيث شكلها اللغوي بل من حيث محتواها ووظيفتها الفلسفية. فلو قلنا مثلا بمفهوم العقل لوجدناه من الناحية الغوية واحدا، ذلك أن ديكارت يستعمل هذا المفهوم وكذلك عصر التنوير الذين ينتمي إليهم كانط. بل إن هذا العصر يوصف أحيانا بأنه عصر النقد والعقل، غير أن هذا المفهوم من الناحية الدلالية، أي من حيث استعماله، يختلف. فإذا كان عند ديكارت يمتلك أفكارا فطرية ويتخذ المعرفة الرياضية ومنهجها الاستنباطي نموذجا له فإنه عند فلاسفة التنوير يقوم أساسا بدور النقد، وهذا ما جعل بعض المؤرخين للأفكار بل وكانط نفسه يصف هذا العصر بأنه "عصر النقد" ولعل هذه الممارسة النقدية هي التي جعلت كانط يطلق على فلسفته إسم " الفلسفة النقدية.

لكن إذا كان العقل قد وظف توظيفا نقديا في القضايا التي يتبادلها، خاصة القضايا التي تتعلق بالمسائل السياسية والاجتماعية والدينية فإن نظرة كانط تختلف عن نظرة معاصريه، ذلك أن العقل نفسه صار موضوعا للنقد. يقول كانط في هذا السياق، في افتتاحية الطبعة الأولى من نقد العقل الخالص، ما يلي نصه:

"إنه نداء إلى العقل ليضطلع بأكثر المهمات صعوبة: معرفة الذات (معرفة العقل نفسه)، وليقيم محاكمة يضمن بها مزاعمه المشروعة، ويطرح جانبا كل الإدعاءات التي لا أساس لها من الصحة، ولا يكون ذلك بقراءات استبدادية بل يكون وفق قوانينه الخالدة والثابتة. هذه المحاكمة ليست إلا نقد العقل الخالص. ولا أعني بهذا نقد الكتب والأنساق (الفلسفية) بل حكمة العقل عامة. وتحديد كل معرفة يمكن العقل أن يسعى جاهدا للحصول عليها مستقلا عن التجربة."

ذلك هو المعنى العام لكلمة "نقد" كما تظهر في عنوان الكتاب.          

          

Modifié le: Friday 24 November 2023, 01:19