- المنهج الرياضي عند روني ديكارت:
1- الخلفية الفكرية:
أفرز غليان العقل المتمدن في قلب ظلامية العصور الوسطى الخرقاء، في صورته الأدبية والفنية، إبان عصر النهضة الأوروبية الذي تزامن وتقاطع مع الثورة العلمية التي كانت تكيل ضرباتها المركزة فوق سحابة القرون الوسطى العتية، الباردة والمظلمة، لتثلم تحت آثار أشعة شمسها ونورها، مناخا ثقافيا دافئا نيرا واضح المعالم والمرامي، فاستوجب ضرورة إعادة النظر في كل مستويات حياة الإنسان العملية والنظرية والعقائدية على حد سواء. ومن النتائج الجسيمة المترتبة على أعمال كوبرنيكوس وكبلر وغاليلي العلمية التي تم تكريسها وتثبيتها وتطويرها فيما بعد على يد إسحاق نيوتن (1643- 1727)، وأعمال ليوناردو دا فانتشي ورفائيل الفنية، وأعمال مكيافيللي السياسية، وأعمال أدباء عصر النهضة، تصدع الثقافة البابوية، فدأب العقل العلمي الجديد بمعاينة الظواهر الطبيعية الجامدة منها والحية معا، داخل مستوى الأشياء القابلة للضبط والقياس والتحديد الوضعي الكمي، على أساس اعتبار أن اختلاف طبيعة الأشياء والظواهر لم يعد يُرد إلى الاختلافات الكيفية فحسب، إنما تُرد ذات الاختلافات أساسا إلى خصائص الظواهر والأشياء الوضعية المادية من حيث إنها قابلة للقياس الكمي، على نحو الحجم، الشكل والوزن والحركة، لتتحول على إثر ذلك، نظرة الإنسان إلى الطبيعة، إلى نظرة من خلال الجزئيات ذات الخصائص الأربع المذكورة دون سواها.
والحال تلك، يبدو واضحا أن مدركاتنا وشعورنا باللون والرائحة والطعم والسخونة، ليست أكثر من تلك الطريقة النوعية التي تتجاوب بها عقولنا من حيث الفوارق الكمية، ومن ثم، تغدو هذه المدركات قابلة للتقدير الكمي. يقول هوبرت بترفيلد (1900- 1970) أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة كانبريدج ما يلي نصه: "من مستلزمات هذا الكون أن هناك أيد خفية تعمل باستمرار، بينما تحرك عقول ممتازة دوائر الأجرام السماوية حركة دائرية. وفي نفس الوقت، كان من الواجب منح الأجسام أرواحا وأهدافا، وكذلك استعدادا إلى بعض أنواع الحركة، بحيث بدت المادة نفسها وكأن لها صفات روحانية. إن النظرية الحديثة في الحركة كان بمثابة العامل الكبير الذي ساعد في القرن السابع عشر على اخراج الأرواح من عالم الظواهر الطبيعية وفي ذات الوقت فتح الأبواب على مصراعيه إلى إقامة الطبيعة على نحو تعمل كالساعة."
المقصود من هذا القول هو تدمير وتقويض البعد الروحاني الذي كان يلازم الظواهر الطبيعية في ذهن الإنسان، من خلال الإشارة إلى تفطن العقل العلمي في طور تكوينه وفي مساعيه إلى البحث عن سبل استكناه حقيقة الطبيعة، والحث إلى ضرورة التنصل من ذهنية اسناد جوهر حركة الأجسام الطبيعية إلى القوى الروحية الغيبية التي سادت على مدى القرون الوسطى.
من هنا، يحق لنا أن نشير إلى السيل الجارف من المستجدات العلمية التي حلت بالعصر الحديث، فضلا عن جموح العقل الجديد وما لزم عنه من مواقف ثورية التي زعزعت معتقدات راسخة، فزحزحت عدة ثوابت عتية، مما استوجب التفكير في ضرورة إعداد ميثاقا للعقل العلمي الجديد وفي صياغة نظرة شاملة للكون تعبر عن واقع الإنسانية في سيولة حياتها العملية داخل إطارها الحضري وتكشف عن جدلية مضامينه العلمية. ومن هذا المنطلق انبثقت فلسفة جديد، سنعرض لها في حينها، وهي العقلانية الحديثة عند روني ديكارت.
2- المذهب العقلي:
العقلانية في أبسط صورها، في بعدها الشامل، هي نسق فلسفي ومنحى فكري يتوخى أصحابه إظهار فعالية العقل في توليد المعرفة. وهو بذلك، موقف علمي يرد أصل معرفة الواقع الحقيقي إلى العقل الاستنتاجي الخالص raison discursive pure من حيث هو المرجع الوحيد الضروري والكافي للإهتداء إلى حقيقة الأشياء والظواهر في مختلف أنواعها ومستوياتها. ولهذا النسق ثلاثة أشكال أساسية نلمسها في مختلف محطات تاريخ الفلسفة المتعاقبة:
- الشكل الأول: وهو الذي يتمثل في موقف بعض الفلاسفة اليونان القديمة الذين استمالتهم العقلانية الفيثاغورية نسبة إلى فيثاغورس، في بعدها الرياضي، التي امتدت إلى المدرسة الإيلية عند زينون الإيلي، وبارمينيدس، والتي أثرت في سقراط تأثيرا لا يتسلل إليه الشك، فورث ذات الأثر أفلاطون الذي اعتبر الحواس عاجزة عن الاهتداء إلى حقيقة الأشياء والظواهر من منطلق أنها تعتمد على ما هو متغير ولا يثبت على حالة واحدة، اعتبارا أن كل متغير ناقص وبالتالي فاسد. وعلى هذا الأساس جعل أفلاطون الرياضيات شرط الاهتداء إلى المعرفة الحقة، مما جعله يرفض في الأكاديمية غير الرياضيين، وهو الأمر الذي دفعه إلى وضع لافتة على مدخل الأكاديمية تحمل عنوان: "يمنع دخول غير الرياضيين." (Que nul n’entre ici s’il n’est pas géomètre)، ذلك لأن ممارسة الرياضيات، في تقديره، يجعلنا نتجرد من حواسنا في مساعينا لاستكناه حقيقة الأشياء، من ماهيتها.
- الشكل الثاني: أما الشكل الثاني من العقلانية، فإنه يتمثل على وجه التحديد في النسق العقلاني الكلاسيكي أي العقلانية الحديثة كما تسمى الآن، والتي يتزعمها كل من روني ديكارت وباروخ سبينوزا (1632- 1677) وغوتفريد لايبنيتز (1646- 1716)، وسنعود إليها حينا لسبر غور فحواها، مركزين في ذلك على الأنموذج الديكارتي، نظرا لما تمليه علينا الضرورة المنهجية.
- الشكل الثالث: ظهر في صورة "العقلانية النقدية" التي نلمسها بدءأ من إيمانويل كانط (1724- 1804) إلى عقلانية هيغل (1770- 1831) الجدلية، وغاستون باشلار (1884- 1962) العقلانية المطبقة، وكارل بوبر (1922- 1994) وإلى العقلانية القارية. وهذا الشكل لا يهمنا في موضوعنا هذا وخلال هذا السداسي، بل فضلا عن ذلك، سنركز اهتمامنا على العقلانية الحديثة وبالتحديد مع روني ديكارت.
3- مؤلفات روني ديكارت:
اقترنت العقلانية الحديثة أو العقلانية الكلاسيكية باسم روني ديكارت باعتباره مؤسسها الشرعي، بل هو في تقدير معظم فلاسفة التاريخ أبو الفلسفة الحديثة. ديكارت فيلسوف ورياضي ورجل علم؛ فكان عمله في الفلسفة والرياضيات ذا أهمية جسيمة بالنظر إلى اسهامه العميق في الهندسة من خلال قوله بجوهر المادة الذي هو الإمتداد الهندسي في العالم الخارجي. إهتم بالعديد من المجالات المعرفية مثل الفلسفة، الرياضيات، الفيزياء، الفلك، وحتى الطب.
ومن أهم آثاره نذكر الكتاب الذي قدم فيه معظم نظرياته العلمية هو "مبادئ الفلسفة" الذي نشره عام 1644 وجاء موسوما في طبعته الأصلية باللسان اللاتيني ب: "Principia philosophiae"، ونشر قبله في عام 1637 كتابا لا يقل أهمية، بعنوان "خطاب في المنهج"، كما نشر في عام 1641 كتابا بعنوان "التأملات الميتافيزيقية" الذي جاء في طبعته الأصلية موسوما ب: "Meditationes de prima philosophia".
هذا، تميز وامتاز ديكارت بمواقفه الجذرية حيال المنظومات التأملية وكذلك كانت مواقفه إزاء طبيعة المادة العلميةونوعية مقاربات الباحثين في تعاطيهم للمادة المعرفة السائدة في عصره وقبل عصره.