2-3- تصنيف العلوم:
الغرض منه ترتيب العلوم القائمة وبالأخص الدلالة على العلوم التي لم توجد بعد. وهو يرتبها بحسب قوانا الداركة، ويحصر هذه القوى في ثلاث: الذاكرة وموضوعها التاريخ، والمخيلة وموضوعها الشعر، والعقل وموضوعه الفلسفة. التاريخ قسمان: تاريخ مدني أي خاص بالانسان، وتاريخ طبيعي أي خاص بالطبيعة. فالتاريخ المدني ينقسم إلى قسمين: تاريخ كنسي وتاريخ مدني بمعنى الكلمة ينقسم بحسب الوثائق التي نستخدمها من مذكرات وعاديات وتراجم وتواريخ سياسية وأدبية وعلمية وفنية. والتاريخ الطبيعي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وصف الظواهر السماوية والأرضية، ووصف المسوخ فإنها تكشف عن القوى الخفية في الحالات العادية، ووصف الفنون فإنها وسائل الإنسان لتغيير مجرى الطبيعة وهي تستخدم القوى الطبيعية. ويرى بيكون أن القسمين الثاني والثالث لم يوجدا بعد. أما الشعر فقصصي ووصفي وتمثيلي ورمزي، فإنه عبارة عن تأويل القصص والأساطير واستخلاص ما تنطوي عليه صورها من رموز ومعان علمية، ومثل هذا التأويل قديم وكان شائعا في عصر النهضة. (كامل محمد محمد عويضة، فرانسيس بيكون، ص: 35، 36)
وأما الفلسفة فتتناول ثلاثة موضوعات: الطبيعة والإنسان والله. وتنقسم الفلسفة الطبيعية إلى: ما بعد الطبيعة أو علم العلل الصورية والغائية، وإلى الطبيعة أو علم العلل الفاعلية والمادية وهي تنقسم إلى الميكانيكا والسحر. وتنقسم الفلسفة الخاصة بالإنسان إلى ما يتناول النفس: علم العقل أو المنطق، وعلم الإرادة أو الأخلاق وما يتناول العلاقات الاجتماعية والسياسية. وأخيرا الفلسفة الإلهية أو اللاهوت الطبيعي يمهد له بعلم الفلسفة الأولى أو علم المبادئ الأولية مثل أن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات نتجت كميات غير متساوية، وأن الحدين المتفقين مع حد ثالث فهما متفقان، وأن كل شيء يتغير ولكن لا شيء يفنى وما إلى ذلك، وهذا العلم هو الجذع المشترك بين علوم العقل.
والتاريخ والشعر والفلسفة ثلاث مراحل متتالية يجتازها العقل في تكوين العلوم: التاريخ تجميع المواد، والشعر تنظيم أول للمواد أو هو تنظيم خيالي وقف عنده القدماء، والفلسفة تركيب عقلي. (المرجع نفسه)
3-3- نظرية الأوثان:
إن عاقبة الخطيئة الأصلية هي حرمان الإنسان من معرفة الطبيعة وحرمانه بالتالي من السيادة عليها. وقد بقي هذا الحرمن فيما يرى بيكون خلال عصور الفلسفة القديمة والفلسفة المدرسية لأن الإنسان بقي على ادعائه وكبريائه نائيا من الطبيعة عاكفا على ذاته. وربما مضي به العلم المدرسي على الابتعاد عن الطبيعة وإلى الإمعان في النظر العقلي والجدل العقيم، فبانت بوضوح أكثر عواقب الخطيئة، وظهرت في آفات المعرفة، سواء عند عامة الناس أم عند خاصتهم من المفكرين والفلاسفة والعلماء. هذه الآفات التي تظهر في الكبرياء الإدعاء وفي الأنانية وفي الجدل العقيم وفي العلم النظري يتعين معرفتها وحصرها والاحتراز منها. وقد أطلق عليها بيكون أسماء يتضح فيها امتزاج الصيغ العلمية والمصطلحات الفلسفية والأساليب البلاغية. (حبيب الشاروني، ص: 49) فهو يسميها بالأوهام أو الأوثان وهي أربعة أنواع: أوثان القبيلة وأوثان الكهف وأوثان السوق وأوثان المسرح.
3-3-1- أوثان القبيلة:
وهي ناشئة من طبيعة الإنسان، لذا كانت مشتركة بين جميع أفراده، فنحن ميالون بالطبع إلى تعميم بعض الحالات دون إلتفات إلى الحالات المعارضة لها، وإلى تحويل المماثلة إلى تشابه وتواطؤ، وإلى أن نفرض في الطبيعة من نظام أو اطراد أكثر مما هو متحقق فيها، وإلى أن نتصور فيعل الطبيعة على مثال الفعل الإنساني فنتوهم لها غايات وعللا غائية. (كامل محمد محمد عطية، ص: 38)
3-3- 2- أوهام الكهف:
أطلق على هذه الأخطاء إسم أصنام الكهف لأنها ترجع إلى أن كل فرد منا يعيش عي عالم خاص به يشبه الكهف له طبيعته الخاصة وتربيته ونشأته وصلاته بالآخرين وظروفه العقلية والصحية. فالأفراد يختلفون أحدهم عن الآخر: فبعضهم أقدر على ملاحظة أوجه الإختلاف بين الأشياء، في حين أن بعضهم أقدر على ملاحظة أوجه التشابه بينها. وبعضهم يظهر إعجابا كبيرا بكل ما هو قديم من فنون وآداب وعلوم بينما يظهر بعظهم حبا وشغفا بكل ما هو جديد. وبعضهم يبحث عن أصول الأشياء وعناصرها، في حين يقصر بعضهم البحث عن الظواهر. وبعضهم ينزع إلى التحليل فيرى الجزئيات دون أن يرى الكل، وبعضهم ينزع إلى التركيب فيرى الكل دون أن يرى الجزئيات. وللتغلب على هذه الأخطاء ينبغي على الباحث أن يشك في كل ما يضع عليه يده وأن يتأمل فيه لأن الحق لا يعرف الممالأة ولا الحيز. (كريم متي، الفلسفة الحديثة. عرض نقدي، ص: 42)
3-3- 3-أوثان السوق:
وهي الناشئة عن الألفاظ. ويرى بيكون أنها أكثر الأوهام مثارا للإضطراب. وقد سميت بأوهام السوق لأن الناس متى اجتمعت كما تجتمع في الأسواق لا تملك أداة للمناقشة وتبادل الأفكار وما يتكون منها من قضايا. والألفاظ تتكون أصلا طبقا للحاجات العملية والتصورات العلمية، ثم تسيطر بعد ذلك على تصورنا للأشياء. فإذا شئنا مثلا أن نصنف الأشياء اعترضتنا الألفاظ بتصنيفاتها المصنوعة من قبل. وكثيرا من الألفاظ لها معاني مختلفة غامضة كما أن كثيرا منها قد وضع لأشياء لا وجود لها. (حبيب الشاروني، ص: 53، 54)
3-3-4 أوثان المسرح:
وهي الناشئة مما تتخذه القضايا والنظريات والمذاهب الفلسفية المتوارثة عن الفلاسفة من مقام ونفوذ. فهذه كلها يتلقاها الناس عن الفلاسفة القدماء كما يتلقى المشاهدون في المسرح كلمات الممثلين تلقى عليهم من عل. ولدينا من تاريخ الفلسفة ما هو حافل بهذه الأوهام. وحسبنا من هذا افتراق الفلاسفة إلى فرقا ومذاهب متعارضة. وهنا يحمل بيكون على أرسطو وأفلاطون وغيرهما، فيقول عن أرسطو إنه أسوأ السوفسطائية، يصوغ القواعد حسب الأقيسة، ثم يبحث عما يؤيدها في ظواهر الطبيعة. ويقول عن أفلاطون أنه شاعر ماجن متعجرف ولاهوتي مفعم بالحماس؛ فهو يجعل العالم المحسوس تابعا للعالم المتخيل قبل وجوده. لذلك يوجه بيكون اللوم للتجريبيين الذين يرى أنهم يجمعون الوقائع كما تجمع النملة غذاءها، وانهم يدعون أن العالم مرآة لما لاحظوه من ظواهر محدودة شغفوا بها دون غيرها. أما العقليون فيرى بيكون أنهم، بعيدا عن أي تجربة أو خبرة، ينشئون من نظرياتهم نسيج العنكبوت. (المرجع نفسه، ص: 55)
4- المنهج الإستقرائي:
هذا المنهج هو القسم الإيجابي من المنطق الجديد والحاجة إليه ماسة لأن تصور العلم قد تغير، فقد كان العلم القديم يرمي إلى ترتيب الموجودات في أنواع وأجناس فكان نظريا بحتا، أما العلم الجديد فيرمي إلى أن يتبين في الظواهر المعقدة عناصرها البسيطة وقوانين تركيبها بغية أن يوجدها بالإرادة، أي أن يؤلف فنونا عملية. وكان العلم اللاحديث يحاول استكناه "الصورة" أي ماهية الموجود مثل صورة الأسد أو الذهب أو الماء أو الهواء، فكان مجهوده ضائعا. أما العلم الجديد فيبحث عن "صورة" الكيفية أو ماهيتها، أي عن صور البضائع المدلول عليها بهذه الألفاظ: كثيفن مخلخل، حار، بارد، ثقيل، خفيف، وما أشبهها من حالات الموجود سواء أكانت تغيرات في المادة أم حركات. فبيكون يحتفظ بلفظ الصورة الوارد عند أرسطو ولكنه يعنى به شرط وجود كيفية ما، أو هو يعدل عن الصورة الجوهرية إلى شروط وجود الصورة العرضية، وكان ذلك شلأن القدماء الكيميائيين إذ كانوا يعتقدون إمكان تحويل المعادن بالتأثير في كيفياتها، وبالفعل كان بيكون يأمل أن نطاق سلطاننا على الطبيعة باستكشاف صور الكيفيات إذ إننا حينئذ نستطيع أن نولد كيفية أو أكثر في جسم غير حاصل عليها فنحوله من الحرارة مثلا إلى البروردة أو بالعكس، وأن نركب الكيفيات بعضها مع بعض فنوجد الأشياء أنفسها، نوجد الذهب مثلا أو أي معدن آخر. فلا يعد بيكون مبتكرا لهذا العلم الذي ينعته بالجديد. (محمد محمد عويضة، ص: 40)
ولا سبيل إلى استكشاف الصورة سوى التجربة أي التوجه إلى الطبيعة نفسها إذ لا يتسنى التحكم في الطبيعة واستخدامها في منافعنا إلا بالخضوع لها أولا. إن الملاحظة تعرض علينا الكيفية التي نبحث عن صورتها مخطلطة بكيفيات أخرى، فمهمة الإستقراء استخلاصها باستبعاد أو اسقاط كل ما عداها. وآفة الاستقراء ما ذكر بين أوهام القبيلة من الاكتفاء بالحالات التي نلاحظ فيها ظاهرة ما والاعتقاد بأنها تكفي للعلم بطبيعتها، هذا النوع من الاستقراء يسمى استقراء بمجرد التعداد، ونتفادى هذه الآفة ونصل إلى العلم بالصورة بتنويع التجربة وتكرارها ومدها وتطبيقها وجمعها. (المرجع نفسه)