1- تمهيد:
بينما كانت الجامعات والمعاهد الدينية مسيطرة في العصر الوسيط الكنسي، تشتد من حولها ثورة علمية فكرية بدأت في عصر النهضة، حيث نرى رجالا مستقلين يعملون على تنمية العلم الجديد، الرياضي منه والطبيعي، فيؤلفون الجامعات والأكاديميات ونرى رجالا آخرين يستحدثون مذاهب فلسفية كانت تمثل الأصول التي نسج عليها الفكر الحديث، ففي فرنسا برز ديكارت بفلسفة عقلية روحية، نستطيع أن ننعتها بالجديدة، وفي إنجلترا يتأسس المذهب الحسي على يد كل من فرانسيس بيكون وتوماس هوبز وجون لوك ودافيد هيوم. وستضل الفلسفة في أيامنا تابعة إلى هؤلاء.
2- ماهية الفلسفة التجريبية:
قامت التجريبية بدور هام في التصدي للاهوت والنزعة المدرسية اللذان كان يقفان عائقا أمام تطور العلوم التجريبية. كما ثارت ضد النزعة الإنسانية التي مثلت في عصر النهضة نزعة هروبية إلى إعادة إحياء المنطق الأرسطي العقيم في عصر ظهور علم الميكانيكا أو ما يسمى بعلم الحركة الذي يفرض المادة كمجال لإحداث التجربة. كما هاجمت الفلسفة العقلية برفض التسليم بالأفكار الفطرية الموروثة، والمبادئ العقلية الحدسية والبديهية، منكرين أولوية العقل على التجربة في تحقيق المعرفة الصحيحة.
هذا، ويؤكد التجريبيون على أن المعرفة لا تتأسس عن طريق التأمل في الفضاء العريض وفي الطبيعة الشاسعة، ولكننا نؤسسها بعد خروجنا مباشرة من مكاتبنا المريحة إلى العالم الخارجي، والملاحظة (النظر والمشاهدة) فيه باستخدام حواسنا الطبيعية، وبالتركيز على الوسائل والأدوات العلمية التجريبية التي تعين حواسنا في مشاهدة مجمل هذه الظواهر الطبيعية. مما يعني أن التجريبية ترد المعرفة إلى الحواس، وبالتالي، تقابل النزعة العقلية من حيث الإهتداء إلى ماهية الأشياء وفهمها. وتفهم المعرفة على أنها حصيلة تأثير أشياء العالم الخارجي وظواهره على حواس الإنسان. ولا ريبة في أننا نبين ذلك من خلال التطرق إلى أنموذج دافيد هيوم.
3- المنهج الإستقرائي عند فرانسيس بيكون:
1-3- فرانسيس بيكون، حياته ومصنفاته:
ولد بلندن وكان أبوه السر نقولا بيكون حامل الخاتم الأكبر في خدمة الملكة اليزابت. دخل كمبردج في الثالثة عشر وخرج منها بعد ثلاث سنين دون أن يحصل على إجازة علمية وفي نفسه ازدراء لما كان يدرس فيها من علوم على مذهب أرسطو والمدرسيين. رحل إلى فرنسا واشتغل مدة في السفارةالانجليزية بباريس وتوفي أبوه سنة 1579 فعاد إلى وطنه، ولما لم يكن هو الإبن الأكبر لم يرث إلا شيئا ضئيلا. أقبل على دراسة القانون وانتظم في سلك المحاماة سنة 1582، وبعد سنتين انتخب عضوا بمجلس النواب فكانت خطبه فيه موضع اعجاب عام. وبعد خمسة سنوات أخذ يتعلم بمدرسة الحقوق، ثم عينته الملكة مستشارا فوق العادة للتاج فتفانى في مرضاتها، حتى لقد غدر غدرا دنيئا برجل أحسن إليه ووهبه أرضا، هو الكونت أسكس إذ تغيرت عليه الملكة واتهم بالتآمر عليها، فترافع بيكون ضده طالبا توقيع الحكم الصارم عليه، ولما آل العرش إلى جاك الأول اصطنع بيكون الملق والدسيسة ومالأ الملك في استبداده وقضاء مصالحه ومصالح الأسرة المالكة فبلغ إلى أرقى المناصب القضائية حتى صار الوزير الأول سنة 1618.(الشيخ كامل محمد محمد عويضة، فرانسيس بيكون، 1993)
إلى جانب شواغله الدنيوية كان يعالج فكرة عرضت له في الخامسة والعشرين هي اصلاح العلوم، وإحياؤها بالتعويل على الطريقة الاستقرائية دون الطريقة القياسية. والغريب في أمره أنه كان يتصور العلوم على ما رأى بالجامعة وظل طول حياته قليل الالمام بمكتشفات القرن الرابع عشر وعصر النهضة جاهلا بالرياضيات وربما اتخذ من شأن في تكوين العلم الطبيعي، بل إنه رمى كوبرنيك بالدجل ولم يدرك أهمية قوانين كيبلر وبحوث جليليو ، فهو لم يشغل بالعلم وإن كان أجرى بعض التجارب فهي لا تذكر. وقد وثق بالأمور وجاء بتعديلات غاية في الغرابة فاعتقد بالسحر الطبيعي وبالكيمياء القديمة وبالتنجيم ولم يكن أكثر تقدما من سميه روجر بيكون في القرن الثالث عشر، وإنما مانت فكاره بالجملة أفكار العصر الوسيط المنقولة عن الرواقية والأفلاطونية الجديدة، لذا نجده يرمي علم عصره بالجمود والغرور ويتنبأ له بالاضمحلال ويعتبر نفسه داعية لعلم جديد يزيد من سلطان الانسان على الطبيعة، والحق أنه نفذ إلى ماهية العلم الاستقرائي وفطن إلى أغراضه ووسائله ثم حاول أن يرسم بنائه فوضع تصنيفا للعلوم وفصل القول في الطريقة التجريبية. (المرجع نفسه، ص: 34، 35)
ونحن لو نظرنا في إنتاجه في جملته لوجدناأنه يتميز بمظهر فريد: ذلك أنه كان لديه منذ زمن مبكر تصور عن مؤلفه في مجموعه، وهو الذي أطلق علسه بعد ذلك "الإحياء العظيم". والعنوان ذاته يبين عن طموح بيكون في مجال المشروعات العلمية. وخطة هذا الإحياء العظيم قد وردت في مقدمة كتابه الآلة الجديدة أو الأورجانون الجديد الذي يشكل أحد أجزاء الإحياء العظيم. هذه الخطة تحتوي على ستة أقسام: الأول تقسيم أو تصنيف العلوم. والثاني الأورجانون الجديد أو فقرات تتعلق بتفسير الطبيعة. الثالث ظواهر الكون أو التاريخ الطبيعي أو التجريبي لتأسيس الفلسفة. والرابع السلم العقلي أو دليل المتاهة. والخامس تمهيدات أو مقدمات للفلسفة الجديدة. والسادس الفلسفة الجديدة أو العلم الإيجابي. وتحقيق هذه الخطة يقتضي سلسلة من الأبحاث تبدأ أولا من الحالة الفعلية للعلم كما تصوره بيكون في وقته. ثم تمضي إلى دراسة الأورجانون الجديد ليحل محل أورجانون أرسطو. (حبيب الشاروني، فلسفة فرانسيس بيكون، 2005)