تمهيد:
لا أحد يمكن أن ينكر حقيقة أن العجز اللغوي قد تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على التنظيم العقلي والنفسي للفرد، مع ذلك فان أي نوع من العجز اللغوي لا يعني بالضرورة سوء توافق وهو لا يعني أيضاً أنه لا يؤثر على الخصائص النفسية والانفعالية وحتى الإدراكية للفرد. إذا أخذنا بالنتائج العلمية، فان اللغة والتواصل لا تقلان أهمية عن سلامة الجهاز العصبي في اكتساب القدرات اللازمة والمهارات الاجتماعية الضرورية لضمان حياة جيدة كالاستقلالية وتحقيق الحاجيات. وهذا ما سنتطرق إليه في هذه المحاضرة.
1- اللغة والتواصل:
لو عدنا إلى الجانب التقني للتواصل، سنجد أن عملية التواصل ومحاولات فهمها وتفسير الظواهر المتعلقة بها بدأت مع علماء المواصلات السلكية واللاسلكية وبمساعدة علماء الرياضيات، ولعل أحد أشهر النظريات في هذا المجال هي نظرية المعلومة لشانون Shanon (1952) وكانت تهدف إلى البحث في طرق إيصال المعلومة بأقل جهد وتكلفة مقابل أكثر فعالية.
تتم عملية التواصل من خلال نقل رسالة المرسل إلى المرسل إليه (المستقبل) وهذا يتطلب على الأقل طرفين، طرف الأول الذي يرسل (شخص أو أكثر) والطرف الثاني الذي يستقبل (شخص أو أكثر).
التشفير هي عملية إرسال المعلومات عبر لغة يفهمها المستقبل، وتسير هذه اللغة عبر وسيلة (صوت، كتابة، حركات، إيماءات...) تسمى قناة، وهي الوسيلة التي تصل بها الرسالة الى المستقبل، ومن خلال عملية فك الشفرة يفهم المستقبل معنى المعلومة. ولكي يكون هذا النظام فعال يجب أن يحدث داخل نسق يسمح له بالتحكم، تعديل ومعالجة الأخطاء وهذا ما يسمى بالتغذية الراجعة مما يشكل حلقة تفاعل بين المرسل والمرسل إليه.
تبنى هذا النموذج التقني علماء النفس المتخصصين في سيكولوجية التواصل وأضافوا إليه بارامترات نفسية-اجتماعية التي يمكنها أن تؤثر في عملية التواصل كالخصائص الشخصية، المكانة الاجتماعية والسياق الاجتماعي وما يفرضه من معايير (Abric. J C., 2019).
إذا نظرنا داخل المخطط وما يحمله من محددات سنجد أن اللغة هي أحد أهم محددات التواصل، إذ يمكن تقسيمها إلى شقين حسب وظيفتها.
أ- اللغة التعبيرية (encodage): تشير إلى قدرة الطرف المرسل (الفرد أو مجموعة من الأفراد) على التعبير عن احتياجاتهم ونقل معلومة ما بعد تحديد الرسائل المناسبة لتخرج على شكل كلمات أو بديلها.
ب- اللغة الاستقبالية (décodage): وهي نوع من اللغة غير اللفظية وتتمثل في قدرة الدماغ على تلقي واستقبال الرسائل والمعلومات من مختلف المستقبلات الحسية ومن ثم تحليلها، تفسيرها وفق الخبرات المخزنة في الذاكرة (Paul, R. & al, 2017).
2- أهمية اللغة والتواصل:
يمكن تلخيص أهمية التواصل في إمكانية الفرد في التعبير عن حاجياته الأساسية، إذ تبدأ عملية التواصل عند الكائن البشري قبل ميلاده عندما يكون في جوف أمه، فيركل الجنين جوانب الرحم وينتظر رداً مطمئناً من قبل الأم، فالأم عندما تلامس بطنها وتمسحه بحنان ينتج عنه نوع من الإشباع لحاجات الجنين إلى الأمن، الحب والانتماء. إن الحمل غير المرغوب فيه سينتهي بمولود لم يتدرب على أولى عمليات التواصل مع الأم (بصفتها ممثل المجتمع الأول) وبهذا سيكون لديه عوامل مُهيِئة للإصابة باضطرابات اللغة والتواصل واضطرابات انفعالية ونمائية (Colas, P. & al, 2021). وتساعد عملية التواصل الفرد على تحقيق مشاعر الانتماء لجماعة ما أو مجتمع أو الأسرة، كما تسمح له بتلبية حاجاته من الحاجات الأولية القاعدية إلى قمة هرم الحاجات كتأكيد الذات وتحقيقها، وتساعده اللغة في اكتساب المعرف والخبرات وتعديلها باستمرار. كما يؤدي نجاح التواصل مع المحيط إلى تخفيف التوتر وزيادة التوافق النفسي، وتنموا بفضل اللغة والتواصل كل المهارات والقدرات، ولا يقتصر هذا عن المهارات اللغوية بل حتى القدرات الحسية الحركية والمهارات النفسية والاجتماعية (فاضل ريما مالك، 2015).
3- اضطرابات اللغة والتواصل والعجز اللغوي:
اضطراب التواصل هو مفهوم يطلق على أي نوع من القصور في قدرة الفرد على التفاعل والتواصل مع الآخرين وقد يكون هذا الاضطراب على مستوى التواصل اللفظي فيمس العجز هنا جوانب كالنطق، الطلاقة، الصوت، اللغة مثل حالات الصمم، التأتأة. أما اضطراب التواصل غير اللفظي فيمس العجز على مستوى استخدام الرموز والإشارات اللغوية والإيماءات والحركات مثل الإصابات بالتخلف العقلي واضطرابات طيف التوحد. وغالباً ما تكون هذه الاضطرابات متزامنة فتمس الجانب اللفظي وغير اللفظي معاً تماماً مثل حالات التوحد (Colas, P. & al, 2021).
إن التواصل اللفظي يساعد الطفل على النمو العقلي، النفسي، الاجتماعي ويسمح بتنمية المهارات وتحقيق الحاجيات، وبالمقابل فان أي نوع من القصور على استخدام اللغة لترجمة الأفكار إلى كلمات تنقل رسائل أو تعبر عن مشاغل واحتياجات الفرد ستضع المصاب في مواقف صعبة حرجة قد يستجيب لها بطرق سلوكية اقل نضجاً.
4- اثر العجز اللغوي على المصاب وأسرته:
لنحاول أن نحلل عدداً صغيراً من الاضطرابات التي تتميز بنوع من العجز اللغوي. وسنأخذ باختصار شديد اضطرابات طيف التوحد والتأتأة كنموذجين لذلك.
4. 1- التوحد:
إن عدم قدرة المصاب بالتوحد على فهم واستخدام اللغة بشكل سليم وقصوره على مستوى التواصل والخوف الشديد من المثيرات التي لا تبدو للآخرين (غير مصابين بالتوحد) على أنها تهديد، أو ذلك التجنب للاتصال البصري المباشر سينجم عنه قصور على مستوى العلاقات الاجتماعية وعجز واضح على مستوى التقليد والمحاكات، كما يفتقر إلى التفاعل الاجتماعي فقير، وفي مرحلة الرشد إذا لم يتلقى التكفل بما يسمح له بتطوير قدراته ومهاراته أكثر سيفتقر إلى المشاركة الوجدانية مع أفراد المجتمع، مما يجعله معزولاً ويحرمه من الانتماء إلى شبكة اجتماعية قوية يكون له بداخلها فعالية تسمح له بادراك نفسه في الوجود. ومن الشائع أيضاً وجود اضطرابات المزاج وانتشار الاكتئاب عند المصابين باضطرابات طيف التوحد في مرحلة الرشد، ويستجيب الجسم لنوبات التوحد المتكررة فنلاحظ وجود أمراض مصاحبة أهمها نوبات الصرع (Thommen, E., & Sapin, V., 2012).
بالنسبة للوالدين ومن اللحظة الأولى التي يشكان فيها بوجود أي نوع من الاضطراب ستنتابهم نوبات من الشك والقلق، وتعد مرحلة طلب التقييم والتشخيص عند غالبية الأولياء مرحلة متقدمة من مواجهة العائلة للصعوبات، ويكون إخضاع الطفل إلى التقييم والتشخيص كمحاولة لخفض التوتر وقطع الشك. ومن الشائع جدًا رؤيتهم وهم يشعرون بالغضب ويشكون في شخص الفاحص، وقد يظهر الوالدين تجاه الممارس الذي يطرح التشخيص بعضاً من العدوانية، وسرعان ما يكون بعضهم تصورات غير عقلانية حول حالة ابنهم كالشعور بالإقصاء وغياب العدالة الإلهية أو إلقاء اللوم دون مبرر على أحد الوالدين. ويعتبر الجو الأسري الذي يسوده التوتر في هذه المرحلة نتيجة للإحباط والمشاعر الفشل كالعامل يرفع من احتمالية حدوث الاكتئاب ويشعر الوالدين بأن طفلهم لا يبعث إلى توقعاتهم وآمالهم ويواجه الآباء صعوبة في الاعتراف بغضبهم فتتحول أفكاره السلبية إلى سلوكات عدوانية تخل بتوازن الأسرة وتضع التوفق الزواجي على حافة يصعب ملاحظتها، كما تنشئ الضغوط النفسية بسبب العبء الذي تتطلبه عملية التكفل والمتابعة، ويؤثر سلوك المصاب بالتوحد في قرارات العائلة إذ يجب أن تفكر جيداً قبل أن تحل ضيفة نظراً لاستجابات ابنهم الى المثيرات الجديدة (غير معتاد عليها) بنوع من العدوانية كالصراخ والعض ونتف الشعر (Denis, J., 2013).
4. 2- التأتأة:
قد يكون من الصائب لو عرفنا التأتأة على أنها نوع من اضطرابات التي تمس مجرى الكلام فتخل بطلاقته، ولكن مثل هذه التعاريف مجحفة وقد لا تحتاج لأن نطلق عليها صفة اضطراب إذا بقيت على هذا المستوى فقط، إذ نجد العديد من المصابين بالتأتأة يعيشون حياة جيدة. لكن إذا تمعنا في محكات تشخيص الدليل الخامس لاضطراب التأتأة والذي نجده بتسمية (trouble développemental de la fluence de la parole) نجد أن وصف الاضطراب يدور حول السلاسة وتوقیت الكلام بصفة مستمرة في الزمن، وتتمیز بالحدوث المتكرر والملاحظ لواحد أو أكثر من الأعراض التالية:
- التكرار أو التمديدات في الأصوات أو المقاطع.
- تكرار الكلمات ذات المقطع الواحد (monosyllabe).
- تمديد على مستوى الحروف.
- توقفات على مستوى الكلمات.
- تشنجات مسموعة أو صامتة (توقفات مفاجئة أثناء الكلام مملوءة أو فارغة).
- الإطناب (استعمال بدائل الكلمات لتجنب الكلمات الإشكالیة).
- توتر شديد عند إنتاج بعض الكلمات.
هذه الملاحظات العيادية لا تشكل إلا المحك الأول وهذا لأن المحك الثاني يدور حول ما یسببه هذا الاضطراب من قلق وتوتر عندما يتحدث المصاب والقیود التي يفرضها عليه فيحد من قدراته على التواصل الفعال، ومهارات المشاركة الاجتماعية، أو الأداء الأكادیمي أو المهني، بشكل فردي أو في أي مجموعة (Mioullet, É., 2016).
أثناء مرحلة المراهقة تزيد حدة الآثار النفسية للتأتأة فتظهر أعراض أكثر خطورة من التأتأة في حد ذاتها كتجنب أخذ الكلمة أمام الآخرين، الحساسیة المفرطة والتركيز على النقص، الخجل وسهولة الاستثارة، لوم الذات، الشعور بعدم الأمان، القلق والتوتر وتوقع الرفض من قبل الآخرین. هذه المشاعر والمعتقدات حول الذات ينجم عنها سوء التوافق وضعف التكییف في المواقف الاجتماعية، وتبدو في شكل سمات مثل الانطوائية، سرعة الاستثارة وعدم الثقة بالنفس فيسجل غالبيتهم انخفاضاً في الاستقلالیة الذاتیة والمهارات الاجتماعية ونقص روح المبادرة (Rezaeian, M., 2020).
ما يجب الاحتفاظ به:
لو اعتبرنا أن التأتأة أقل الاضطرابات من حيث العجز اللغوي، فان الطفل المصاب بالتأتأة قد يتعرض لتعليقات ساخرة تحرجه فيتحول إلى "فريسة لزملائه" ضحية تنمر، ليجد نفسه مجبر على التجنب بما في ذلك المواقف البيداغوجية التي تتطلب المشاركة. وقد يتطور هذا التجنب إلى مخاوف مرضية متعلقة بالمدرسة، وتنخفض نتائجه، وفي غياب القدرة عن التعبير على مشاكله، يجد أخصائيو المدرسة صعوبة في تحديد مشكلات الطفل، فقد يشكون في ذكاءه، في صعوبات التعلم، ذهان الطفولة، أعراض التوحد..... دون أن نشك في أن التأتأة ومخلفاتها هي وراء كل هذا.
خلاصة:
إن المصاب بأي اضطراب على مستوى اللغة والتواصل سيجد صعوبة في تطوير قدراته ومهاراته الاجتماعية التي تعتبران من الدعائم الأساسية في تعزيز الصحة وجودة الحياة، وعلى الأخصائي أن يعمل على تدعيم الصحة ورفع جودة الحياة من خلال العمل ليس فقط على تنمية القدرات والمهارات اللغوية بمفهومها الضيق، بل وكذلك تنمية المهارات الاجتماعية والقدرات الحسية الحركية ومساعدته على استخدامها للحصول على أكبر قدر من الاستقلالية والتمتع بها.