تمهيد:

جودة الحياة مفهوم واسع وشامل، وهذا لأنه يتضمن العديد من المفاهيم المتعلقة بمجالات مختلفة. في هذه المحاضرة سنتطرق الى أهم التوجهات النظرية في تفسير جودة الحياة. ولكي نكون منصفين، هناك العديد من النظريات التي تتناول جودة الحياة ومن جوانب مختلفة، وبل هناك من كل جانب عدد كبير من النظريات بحيث لا يسعنا ذكرها جميعاً في محاضرة واحدة، كما لا يمكن أن نتكلم عن نظريات لا تخدم أهداف الدرس، ولهذا تم تصميم هذه المحاضرة خصيصاً بما يتماشى وفهم الأخصائي لجودة الحياة من الجانب الصحي ولماذا اعتمدت منظمة الصحة العالمية على جودة الحياة كمحك للصحة.

1- الخلفية الفلسفية لتفسير جودة الحياة:

      تذكروا أن الرفاهية الذاتية هي الجانب الذاتي من جودة الحياة، وتفسر الرّفاهية الذّاتية نظريا وفق وجهتين من خلال التمييز بين مفهومين آخرين هما مفهوم اللذة (Hédonique) ومفهوم التوجه في الحياة (Eudémonique).

1. 1- جودة الحياة واللذة (Hédonique):

 يطلق لفظ (Hédonisme) على مذهب فلسفي يفيد بأن المتعة أو اللذة بكافة أشكالها وكافة صيغ إشباعها هي الهدف الرئيسي في الحياة. وتفيد كلمة (Hédonique) على هذا الأساس، الشخص المتمتع المستغرق في طلب المتعة أو اللذة معتبرا المتعة واللذة هي تجسيد للسعادة القصوى وأنها في نفس الوقت الخير الأول والرئيسي في الحياة. ومدخل اللذة في دراسة السعادة يعرف السعادة والرّفاهية الذّاتية بأنها السعي للذة أو للمتعة وتجنب الألم (بورجي شاكر أ، 2016)، في هذا الاتجاه قد يكون الإنسان في حالة نشوة (لذة قصوى) أثناء ارتكابه عملاً إرهابيا على سبيل المثال أو لعب البوكر الذي لا يسهم بالضرورة في الصالح الاجتماعي العام (أبو حلاوة 2013) وبالتالي لا يكون للذة في هذا الاتجاه بالضرورة توافق مع المعايير والقيم والأخلاق.

1. 2- جودة الحياة والتوجه في الحياة:

      كلمة (Eu démonique) صفة تسقط على شخص يعتبر السلوك الأخلاقي المدخل الرئيسي لتحقيق السعادة، والاسم منها (Eudémonisme) تعني فلسفة السعادة: وهي نظرية تجعل السعادة أساساً دالة للسلوك الأخلاقي ومحكاً له. ووفق لتعريف ألان كار لهذا المصطلح (Eudémonique) فهي تشير إلى مدخل لدراسة الخير والرّفاهية الذّاتية. ويعرف السعادة والرّفاهية الذّاتية أو الحياة الطيبة استناداً إلى محكات تحقيق المرء لكامل إمكانياته النفسية أو تحقيقه لممكنات أو قابليات النمو النفسي لديه إلى حدها الأقصى وهذه السعادة لا تتحقق إلا من خلال خبرات التدفق التي يتعايش معها المرء أثناء مسيرة حياته (محمد السعيد أبو حلاوة، 2013).

     من الجانب العلمي (القابل للقياس والتجريب) فان أهم النظريات التي فسرت الرّفاهية الذّاتية تؤكد على التوجه (Eudémonique) وارتبط هذا المفهوم بالأهداف وتنمية القدرات. فيمـــا يـلـــي أهـــم الـــنظريات الـــتي قدمـــت دعـــائم علــمية يمـــكن الارتكـــاز علـــيها في الـــجانب الـــصحي.

2- الاتجاه الإنساني:

        يرى أبراهام ماسلو Abraham Maslow, H, (1954) أن السلوك يخضع لدوافع ناتجة عن حاجات لا يمكن للفرد أن يستغني عنها لأنها جزء من طبيعته وهي القوة الكامنة التي تحدد ملامح الذّات. وقد وضع ماسلو الحاجات على شكل سلم أو هرم متدرج يبدأ بالحاجات القاعدية كالحاجات الفزيولوجية والحاجة إلى الأمن، ليرتقي نحو حاجات أعلى كالحاجة إلى تحقيق الذّات، ولا يمكن للفرد إشباع الحاجات العليا في قمة الهرم دون أن يمر على إشباع الحاجات القاعدية في الهرم، ومع تطور قدرات الفرد ونمو وظائفه وتقدمه في السن، تنموا حاجاته معه وترتقي دوافعه إلى إشباع حاجات أسمى، ولا يمكنه أن يشبع الحاجات العليا إلا بعد أن يتحرر من سيطرة وإشباع الحاجات الدنيا.

      اقترح ماسلو أنه بوسعنا أن نسأل الناس عن فلسفتهم للمستقبل وما الحياة المثالية التي يودون تحقيقها ... ونحصل بذلك على معلومات ذات دلالات على الحاجات التي أُشبعت لديهم والحاجات التي لم تشبع (عادل محمد هريدي، 2011).

      مع تقدم نمو الوليد، يبدأ في تمييز خبراته والشعور بأنه يملك ما يكون جزء من كيانه وحياته، وبذلك يكتسب شعورا نسميه بمفهوم الذّات، وهو عملية ديناميكية مستمرة يظهر منها سلوك ويكون موجه نحو هدف ما لتحقيق وإشباع حاجاته، ويفترض أن يتفق السلوك مع مفهوم الذّات وإذا حدث تعارض بينهما (بين مفهوم الذات والسلوك) يحدث عدم توافق نفسي وبالتالي تدني في جودة الحياة، وفي هذه الحالة حتى خبراته التي يعيشها في زمان ومكان معينين ويتفاعل معها (والتي يفترض أن يحولها إلى رموز يدركها ويقيمها وفق مفهوم الذّات ووفق المعايير الاجتماعية) سينكرها أو يشوهها، وينتج هذا غالباً عن الحاجات التي لم تأخذ صورة رمزية لها (لم يتم إشباعها) (بورجي شاكر أ، 2016).

      ملخص هذه النظرية إذن هو أن مفهوم الذات يشير إلى ذلك التنظيم العقلي المعرفي المتناسق للمدركات والمفاهيم والقيم والصور والتقييمات الخاصة بالذّات، هدفه البحث عن التوافق والتوازن بيونفسي اجتماعي، وينموا بالتدريج نتيجة للنضج والتعلم، ويصبح الهيكل الذي يؤطر الإدراك والمركز الذي تنتظم حوله الخبرات، وهو عالم شخصي ذاتي ويعتبر من وجهة نظر الفرد حقيقة. فمثلاً قد يدرك الطفل المصاب بالتأتأة أن الآخرين يسخرون منه ويرفضونه إذا اكتشفوا أمره، وهذا قد يكون صحيحا أو غير صحيح، ولكن بالنسبة له يعتبر واقعا وحقيقة تحدد استجاباته وسلوكه.

3- نظرية الأهداف في الحياة:

       لقد اقترح كل من كايسر وريان (Kasser, 1993 et Ryan, 1996) نموذج نظري لتحليل محتوى الأهداف وقد قسمها إلى قسمين حسب طبيعتها: داخلية (Intrinsèque) وخارجية (Extrinsèque).

         محتوى الأهداف                                      داخلي                                                    خارجي

الحاجة إلى الكفاءة

      التطوير الذّاتي                      

تحقيق الثروة

الحاجة إلى الاستقلالية

       تقبل الذّات                           

امتلاك السلطة والنفوذ

الحاجة إلى الانتماء

      الانتماء إلى المجتمع

حب الشهرة

الحاجة إلى التقدير

    الصِّحة الجسمية                     

المكانة الاجتماعية

شكل يبن نموذج كايسر لتحليل محتوى أهداف الناس حسب توجههم في الحياة.

 

       مع ذلك فان أهداف الفرد في حياته التي تتوجه نحو الذّات (محتوى الأهداف داخلي) هي التي تشبع في الحقيقة حاجات الأساسية للفرد وتطفئ المشاعر السلبية كالشعور بالنقص والدونية. وحسب هذه النظرية فان إشباع الحاجات القائم على محتوى الأهداف الخارجية هي إشباعات عابرة وسطحية تقوم على اللذة العابرة ولا تترك أثر عميقا إذا لم تلبي الحاجات الداخلية. وإذا أصبحت هذه الأهداف الخارجية ضرورة وأولوية للفرد فان رفاهيته الذّاتية هشة لا تتحمل فقدان المكتسبات الخارجية التي بُنِيَت عليها (تغير نظرة الآخرين لتلاشي الشهرة أو فقدان نفوذ...). وللتأكد من هذه النظرية، قامت مجموعة من الدراسات التي تبحث في العلاقات بين كل من هذه الأهداف الداخلية والخارجية من جهة والرّفاهية الذّاتية من جهة أخرى بكل مكوناتها (تقدير الذّات، الرضا عن الحياة، المشاعر السلبية والأعراض الجسمية... (Kasser, 1993 ; Ryan, 1996 ; Ryan, Chirkov, Little, Sheldon, Timoshina & Deci, 1999 ; Schmuck, Kasser & Ryan, 2000) وقد توصل الباحثون إلى أن الفرق بين الرّفاهية الذّاتية القائمة على الأهداف الداخلية وتلك القائمة على الأهداف الخارجية هي أن الأولى ذات توجه داخلي تقوم على إشباع حاجات نفسية قاعدية فتقضي على المشاعر السلبية وتبعث على درجة من السرور والرضا. مع ذلك فإنها لا تتحدد بهذه المشاعر السلبية والايجابية، بل تتحدد بالمعنى الذي نعطيه لحياتنا والطريقة التي نحيا بها كاملة بنقائصها ومتمماتها بسلبياتها وايجابياتها والتذبذب القائم بينهما، وكيف يمكن للفرد أن يترجم قدراته إلى انجازات ملموسة (Ryan, Huta & Deci, 2008). وعلى العموم فان هذه الدراسات وأخرى أثبتت من خلال الملاحظات على مجموعة من الأفراد أن هؤلاء الذين يولون اهتماما كبيرا للأهداف الخارجية (جمع الأموال...) على حساب الأهداف الداخلية يميلون إلى عيش حياة تتصف برفاهية ذاتية أقل بكثير من هؤلاء الذين يتميزون بتوجههم إلى الذّات والى تحقيق أهدافهم الداخلية (Bandura, 1997 ;Carver & Sheier, 1990) (Galand, B., et al, 2012).

4- نظرية السعادة  (Autentic Happiness):

     لا يختلف سليجمان (Martin Seligman, 2002) في نظريته حول السعادة الحقيقية عن هؤلاء الباحثين في التوجه، فقد اقترح هو الآخر علم النفس الايجابي كتسمية لاتجاه جديد يدرس الفضائل والقوى الإنسانية عوض أن يدرس الأمراض والاضطرابات النفسية. هذه القوى تعبر عن نقاط قوة الفرد داخل مجتمعه وحتى وإن لم تكن فطرية في الفرد فإنها يمكن أن تنموا مع ممارستها وتكرارها والانتفاع من حكمتها التي ترفع حياتنا إلى المزيد من الايجابية (Seligman, M., 2004, p 59). وتشير هذه النظرية إلى ثلاثة مستويات للسعادة:

- مستوى الانفعالات الايجابية (émotions Positives): من المؤكد أن للانفعالات قاعدة بيولوجية يولد بها الطفل، إلا أنها تتشكل وتظهر أولى الانفعالات انطلاقاً من مرحلة الطفولة المبكرة حسب أنماط التعلق التي حددها بولبي (Bowlby, 1969) في علاقة الطفل بأمه، مع ذلك يمكن أن يكون هناك تغيير نسبي في هذا التشكيل.  

- مستوى الاندماج (Engagement): وهو ذلك الالتزام بالمعايير الاجتماعية والأعمال الاجتماعية والانغماس أو الاندماج في الحياة التي تستغرق طاقات ونشاطات الإنسان. هذا يعني أن الفرد متكيف مع بيئته، بل أكثر من ذلك أنه عنصر فعال يستطيع استغلال طاقاته وتسخيرها للاخرين ويشعر بالمقابل أنه فعال من خلال ردة فعل الآخرين  (Noltemeyer & al, 2012).

- مستوى معنى الحياة (Le sens de la vie): في هذا المستوى يكون الفرد معنى للحياة إذ تكون لديه العديد من الأهداف الواقعية والمنطقية في حياته استطاع أن يحقق منها أجزاء مهمة ولا يزال يصبوا إلى أخرى أو يرفع ويزيد ويعدل من الأهداف حسب قدراته لتصبح حياته ذات معنى وذات دلالة أو القيمة.

          من الناحية الفزيولوجية يعد مفهوم سليجمان عن الاندماج في الحياة مماثل تماما لمفهوم التدفق والخبرة المثالية لدى ميهايلي (Csikszentmihalyi, 1975)، ولكن اجتماعياً يخالف ميهايلي طرح سيليجمان. فقد أشار ميهايلي إلى أن قوة التدفق الشعوري يمكن أن يبتعد عن القيم والمعايير الاجتماعية (Value-Free). [فقد يشعر الفرد بقوة التدفق الشعوري وهو يقوم بعمل غير أخلاقي فيه لذة بالنسبة له] مثل لعب البوكر الذي لا يسهم بالضرورة في الصالح الاجتماعي العام. مع ذلك يؤكد ميهايلي أن الحياة ذات المعنى والدلالة هي تلك التي تتضمن أهدافاً مترابطة في الحياة، وتحمل درجة من التحدي لتحقيق أغراض ايجابية وتتناغم مع قيمه ومعايير المجتمع (محمد أبو حلاوة، 2013).

      في نفس السياق ذكر ماسلو أن إشباع الحاجات الأساسية البيولوجية والنفسية والاجتماعية ومواجهة التحديات بأقصى حدود القدرة، يعد مصدرا مباشرا للشعور بالبهجة، وما يطلق عليه بقمة الخبرة، والتي تعبر عن أسعد لحظات العمر. مما يعني قدرا أكبر من السعادة لدى من هم في المستويات العليا من هرم الحاجات (تحقيق الذّات). حقا إن تحقيق الأهداف يبعث على الشعور بالرضا والسعادة حيث يتم إشباع مختلف الحاجات (بشير معمرية، 2015).

خلاصة:

        كل هؤلاء المنظرين وآخرين يؤكدون على اللذة القائمة على العمق والديمومة في صنع الرضا عن الحياة والرّفاهية الذّاتية كتحقيق الذّات وتحويل القدرات والطاقات إلى ثروة من الانجازات، والتحكم بقدر معين في الحياة. هذا ما يجب أن يصبوا إليه أي ممارس في المجال الصحي، إذ يجب أن نتكفل بالحالة وليس بالاضطراب، ومن هنا فان نمو مهارات المصاب وقدراته أو استرجاعها (على الأقل جزء منها) يحقق المزيد من الكفاءة الذاتية عند الفرد وتتوسع دائرة الأهداف والطموحات، فتصبح للحياة معنى بمجرد اكتشاف بأنه قادر على تحقيقها.

آخر تعديل: Monday، 22 May 2023، 7:48 PM