الوحدة الثالثة: مصادر القانون الدولي الجنائي
القانون الدولي الجنائي شأنه شأن كل فروع القانون الأخرى له نوعين من المصادر :هي المصادر الرسمية وهي أساليب وطرق تكوين هذا القانون ،و المصادر المادية وهي العوامل السياسية والإنسانية والأخلاقية والاقتصادية التي حتمت وجود هذا القانون وتطوره.
ومن الجدير بالذكر ان تبعية القانون الدولي الجنائي للقانون الدولي العام يجعلهما مشتركين في ذات المصادر.
وإذا كان الفقه يستند بصفة عامة إلى نص المادة (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي تحدد القانون الواجب التطبيق أمام تلك الأخيرة والتي يمكن ان يستنبط منها غالبية مصادر القانون الدولي العام، إلا أنه يمكن الاعتماد ايضا على نص المادة (21) من النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية والتي تبين غالبية مصادر القانون الدولي الجنائي.
اذ تبين المادة (38) وظيفة محكمة العدل الدولية التي هي الفصل في المنازعات التي تعرض عليها وفقاً لأحكام القانون الدولي ، وان هذه الأحكام تستقى من المعاهدات الدولية والعرف الدولي والمبادئ العامة للقانون وأحكام المحاكم ومذاهب كبار الفقهاء ومبادئ العدل والإنصاف، أما المادة (21) من النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية التي تنص في الفقرة /1 على أن:
"القانون الواجب التطبيق أمام المحكمة: هو في المقام الأول هذا النظام الأساسي وأركان الجرائم والقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الخاصة بالمحكمة، و في المقام الثاني حينما يكون ذلك مناسباً المعاهدات الواجبة التطبيق ومبادئ القانون الدولي وقواعده بما في ذلك المبادئ المقررة في القانون الدولي للمنازعات المسلحة وإلا فالمبادئ العامة للقانون التي تستخلصها المحكمة من القوانين الوطنية للنظم القانونية في العالم بما في ذلك حسبما يكون مناسباً القوانين الوطنية للدول التي من عادتها أن تمارس ولايتها على الجريمة.شريطة ألا تتعارض هذه المبادئ مع النظام الأساسي ولا مع القانون الدولي ولا مع القواعد والمعايير المعترف بها دولياً"
وبهذا يمكن القول ان مصادر القانون الدولي الجنائي هي المعاهدات الدولية ، العرف الدولي ، المبادئ العامة للقانون ، أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين ، مبادئ العدل والإنصاف ، قرارات المنظمات الدولية .
حيث تعد المعاهدات الدولية من أهم مصادر القانون الدولي الجنائي على الإطلاق فهي تضع قواعد قانونية مكتوبة تتمتع بدرجة عالية من الوضوح والدقة وهما أمران على درجة كبيرة من الأهمية في إطار هذا القانون (حيث كان للمعاهدات الدولية الدور الكبير في تكوين وتثبيت المبادئ الأساسية لهذا القانون وكذلك تحديد المسؤولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين المسؤولين عن الجرائم الدولية وبهذا تصبح هذه المبادئ مصادر للقانون الدولي الجنائي) وتجدر الإشارة إلى المعاهدات الدولية التي تعد مصدراً للقانون الدولي الجنائي هي الاتفاقيات التي تقوم بوضع قواعد عامة مجردة وملزمة أي أنها تقوم بدور التشريع في المجتمع الدولي وهي تقابل التشريعات في القانون الداخلي المصدر الأساسي للقانون الوضعي خلافاً للاتفاقيات العقدية التي يقتصر أثرها على تقرير حقوق والتزامات متبادلة بين الدول.
والمصدر الثاني من مصادر القانون الدولي الجنائي هو العرف الدولي الذي يعبرعن الموقف الذي تتخذه إحدى الدول في علاقتها مع دولة أخرى اعتقاداً منها انه ينطوي على الحق أو الالتزام وتستقبله هذه الأخيرة بالفكرة ذاتها ، والعرف الدولي الذي يصلح أن يكون مصدراً للقانون الدولي الجنائي يتكون من اعتياد أشخاص هذا الأخير التعرف على نهج معين لشعورهم بإلزامية ذلك التصرف وإذ كان مجال تطبيق العرف العالمي يمتد ليشمل كل دول المجتمع الدولي فانه لا يشترط على الرغم من ذلك مشاركة كل هذه الدول في تكوينه.
وفي إطار القانون الدولي الجنائي يؤدي العرف الدولي العالمي دوراً مهماً حيث أن مجال تطبيقه يعد في جميع الأحوال اكثر اتساعاً من مجال تطبيق المعاهدات الدولية إذ آن أهمية العرف بالنسبة لهذا القانون هي كبيرة مما أدى ببعض الفقهاء إلى القول أن للمعاهدات والعرف قوة متساوية .
ويطلق على المصدر الثالث من مصادر القانون الدولي الجنائي، المبادئ العامة للقانون: ويقصد بالمبادئ العامة للقانون التي تشكل مصدراً من مصادر القانون الدولي الجنائي مجموعة القواعد المشتركة بين مختلف الأنظمة الجنائية الرئيسة في العالم التي تصلح للتطبيق داخل النظام الدولي الجنائي.
واستنادا لذلك لا بد من توافر شرطين في المبادئ العامة للقانون : فمن جهة يجب إثبات أن هذا المبدأ يعد مشتركاً بين غالبية الأنظمة الجنائية في العالم وليس كلها ومن جهة أخرى يجب أن لا يتعارض ذلك المبدأ مع طبيعة النظام الدولي الجنائي.
ولم تشر المادة 21 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية إلى الفقه كمصدر للقانون الواجب التطبيق أمام المحكمة . ولكن رغم أن المادة 21 تجعل من الأحكام الصادرة من المحكمة فقط مصدراً احتياطياً للقانون الواجب التطبيق كما أنها لا تعد الفقه مصدراً لهذا القانون ، لكن هذا لا يمنع من القول أن أحكام المحاكم وأراء الفقهاء يمكن اعتبارهما مصدرين احتياطيين للقانون الدولي الجنائي مع اختلاف الأهمية والدور في إطار هذا القانون عن القانون الدولي العام.
وفي إطار القانون الدولي الجنائي لا توجد أية إشارة لمبادئ العدل والإنصاف كمصدر للقانون الواجب التطبيق من قبل المحكمة الجنائية حيث لا يوجد فقرة في المادة (21) تقابل الفقرة (2) من المادة (38) ولكن الفقرة (3) أشارت إلى بعض القواعد والأسس التي يمكن اعتبارها ركيزة مهمة لأي حكم قضائي يبتغي تحقيق العدل والإنصاف ، فهي تلزم المحكمة عند تطبيق القانون الواجب التطبيق أمامها بضرورة احترام حقوق الإنسان وفي مقدمتها مبدأ عدم التمييز بين المتقاضين لأي سبب من الأسباب، ويمكن القول أن مبادئ العدل والإنصاف يمكن اعتبارها مصدراً غير مباشر للقانون الدولي الجنائي ويمكن أن تؤدي دوراً مهما حين يتعرض القاضي الدولي لبعض مسائل القانون الدولي الجنائي . وذلك كتقديره على سبيل المثال لحالات أسباب الإباحة وموانع المسؤولية.
وتعد قرارات المنظمات الدولية من المصادر المباشرة للقانون الدولي الجنائي وتتمتع بأهمية خاصة ، فقد تم إنشاء المحكمة الدولية الجنائية الخاصة ليوغسلافيا 1993وروندا 1994بقرارين من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة والمادة (13) من النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية الدائمة تمنح مجلس الأمن طبقا للفصل السابع من الميثاق السلطة في إحالة أي حالة إلى المحكمة يبدو فيها أن جريمة دوليه أو اكثر من تلك الداخلة في نطاق اختصاص المحكمة قد ارتكبت.
فضلاً عن سلطتها في طلب إرجاء وتأجيل المقاضاة أو للتحقيق التي تجريه المحكمة استناداً إلى المادة (16)ولمده (12) شهراً ، ولكن على الرغم من هذا الدور المهم الذي يضطلع به مجلس الأمن في إطار القانون الدولي الجنائي فانه لا يمكن أن يكون مشرعاً جنائياً للجماعة الدولية ، فهو لا يستطيع بقراره خلق جرائم دوليه جديده ، وإنما قد يساهم في الكشف عن القواعد القانونية المحددة لجرائم موجودة بالفعل.
ويجب القول بخصوص قرارات المنظمات الدولية كمصدر للقانون الدولي الجنائي ان دورها يقتصر على تطوير القواعد الاجرائية لهذا القانون وبصورة خاصة انشاء المحاكم الدولية الجنائية، ولا يمكن للقاضي الدولي الجنائي ان يطبق هذه القرارات في النزاع المعروض عليه فهو ملزم بتطبيق القواعد الواردة في المادتين (38) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية والمادة (21) من النظام الاساسي للمحكمة الدولية الجنائية.