1- حياة موسى بن ميمون ومؤلفاته:
أ-حياته:
موسى بن ميمون* فيلسوف وفقيه وطبيب يهودي ولد في 30 مارس 1135 بقرطبة عاصمة الأندلس التي كانت آنذاك تحت الخلافة الاسلامية، وتوفي في القاهرة بمصر سنة 1204. عاش بن ميمون في بيئة ثقافية اسلامية مزدهرة عرف العديد من الفلاسفة والمفكرين أمثال أبو بكر ابن باجة وابن طفيل وابن رشد حيث تأثر في ميدان الفلسفة بشكل كبير بأرسطو ويعتبره صاحب الفلسفة الكاملة، وأن عقله من أرقى العقول، وكان ينصح من أجل فهم فلسفته بضرورة الاستعانة بشراحه: افروديسيس وثيماستيوس وابن رشد، أما الفلاسفة المسلمين الذين تأثر بهم بشكل كبير فيذكر الفارابي وابن باجة وابن سينا وابن رشد، ولكن يذكر أكثر الفارابي الذي يصفه بأنه ارسطو الثاني، وفي ميدان الفلك يذكر أنه تعلم من عامل الفلك الاسلامي ابن افلح الاشبيلي، وفي الطب يذكر أنه تعلم الطب في الأندلس لما كان في عمر العشرين وتأثر بأعمال الطبيب اليوناني جالينوس.
ب-مؤلفاته موسى بن ميمون:
كتب موسى بن ميمون في العديد من المجالات الفكرية ونجد أغلب الدارسين يقسمونها إلى ثلاثة محاور رئيسية: الشريعة، الفلسفة وأخرى في الطب.
أولا: مؤلفات في الشريعة: بدأ بن ميمون التأليف في الشريعة وهو لم يبلغ الثالثة والعشرون من عمره حيث كتب رسالتين الأولى بالعبرية تتناول ميقات الأعياد اليهودية وأخرى بالعربية "مقال في صناعة المنطق"، وله كتاب آخر في "تفسير المشنا" الذي بدأ كتابته في فاس سنة 1161 وأتمه في مصر سنة 1168 وكتب هذا المؤلف بالعربية ولكن بحروف عبرية.
أما الاعمال الأساسية التي حققت له الشهرة فهي: "تثنية التوراة" 1168- 1180 وقد كتبه باللغة العبرية، حيث يعد هذا الكتاب مصدرا للتشريع اليهودي لأنه يتناول البحث في الاحكام والقوانين والمعاملات التشريعية في التلمود
ثانيا: مؤلفات في الفلسفة: في مجال الفلسفة كتب "دلالة الحائرين" وهو الكتاب العمدة عند موسى بن ميمون وكتبه بالعربية بحروف عبرية بين عامي 1185-1190 وهذا الكتاب موجه لقراء الكتب المقدسة وفق المنظور الفلسفي. وقد قسم محتوى هذا الكتاب إلى ثلاث أجزاء، الأول يتناول: موضوع الرؤية الفلسفية لله وصفاته وأسمائه، وانكار التجسيم، ومسألة ادراك الله بالسلب لا بالإيجاب، ومناقشة مسألة قدم العالم التي طرحها أرسطو والتأكيد على حدوثه، أما الجزء الثاني فيتناول أدلة وجود الله، وحدوث الكون وقدمه وحقيقة النبوة وماهيتها، أما الجزء الثالث فيتناول: مسألة العناية الالهية، ومسألة الشر الموجود في العالم وعلاقته بالعناية الالهية، ومسائل أخلاقية متعلقة بالنفس والبدن، ومسائل أخرى متعلقة بالسعادة والكمال. ويعد كتاب دلالة الحائرين ذروة ما بلغه التفكير الفلسفي اليهودي. وقد سارع اليهود إلى ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العبرية وحصل ذلك في 1204 قبل وفاة ابن ميمون بأربعة عشر يوما وكان ذلك على يد المترجم شموئيل بن تيبون، ولم يحض كتاب دلالة الحائرين بالقبول في البداية فقد تعرض للهجوم والنقد وتم حرق نسخ الترجمة من قبل حاخامات اليهود، ولكن سرعان ما انتشر هذا الكتاب في العالم المسيحي وتمت ترجمته إلى اللاتينية وأصبح مرجعا فلسفيا هاما في العصور الوسطى.
ثالثا: المؤلفات الطبية: إلى جانب الاعمال اللاهوتية والفلسفية كتب موسى بن ميمون أيضا في الطب حيث كتب عشرة مقالات في هذا المجال طيلة المدة الممتدة من 1190 إلى غاية وفاته 1204. تم ترجمة بعضها إلى العبرية واللاتينية. كان بن ميمون مطلعا على أفكار الأطباء المعروفين مثل جالينوس و أبوقراط ومعاصره ابن سينا والرازي. حيث كان يفصل في بحوثه الطبية عن الأمور اللاهوتية؛ أي كان يفصل الطب عن الدين وكان يعتبر أنه يجوز انتهاك الشريعة بغرض العلاج وحدث أن أوصى السلطان الناصر صلاح الدين بشرب الخمر حينما كان يعاني من الاكتئاب، ومن الأمراض التي كتب فيها نذكر البواسير والامساك وسوء الهضم والربو والمشكلات الجنسية، ومن كتبه الطبية التي كانت بالعربية نذكر: "عن الربو"، "فصول موسى"، النظام الصحي" ومقال أخر "عن الجماع" تناول فيه موضوع الجماع من منظور طبي حيث تطرق إلى العجز في القدرة الجنسية والانتصاب والأدوية المقوية المتعلقة بالجماع.
2- في علاقة العقل بالنقل:
يعتبر بن ميمون أن التوفيق بين العقل والايمان اليهودي أمر ضروري، لأن الاكتفاء فقط بالعقل والفلسفة يحمل في طياته امكانية فقدان الايمان اليهودي، كما أن اختيار الايمان على حساب العقل يهدد بتقويض الأساس المعرفي للدين اليهودي، لهذا يجب الجمع بينها لأن التمسك فقط بأحدهما يعني التخلي عن الآخر. وهذا التوفيق هو في الأصل توفيق بين موسى كليم الله وأسطو كبير الفلاسفة.
ويدرك موسى بن ميمون أن هناك من الناس من تعتريه الحيرة في علاقة العقل بالإيمان اليهودي لهذا جاء كتابه "دلالة الحائرين" موجه لهؤلاء الحائرين الذين تتملكهم الحيرة بين ما يمليه عليهم العقل وما اكتسبوه من خبرة واقعية وبين الحقائق الايمانية التي جاءت بها الشريعة، إلى الذين تشبعوا بالشريعة وآمنوا بها وآمنوا أيضا بالعقل وقدسيته، فوجدوا تعارضا بينهما وهذا التعارض قد يؤدي ببعضهم إلى رفض أحد الطرفين إما العقل أو الشريعة الموسوية، فكتب بن ميمون هذا الكتاب ليرفع عنهم هذه الحيرة ويبين أن التعارض بينهما هو فقط ظاهري نابع عن سوء فهم إما للعقل أو للحقائق الايمانية.
يؤكد موسى بن ميمون أن الشريعة منوطة بالعقل فلا شريعة دون عقل حيث يقول في كتابه دلالة الحائرين أنه:" لا تكون الوصية للبهائم ولمن لا عقل له"[1] وهذا يعني أن أداة تلقي وفهم الوصايا الموسوية هو العقل وأن ما جاء فيها لا يمكن أن يتعارض مع نمط اشتغال هذه الملكة. ولكن من جهة أخرى يؤكد بن ميمون أن الناس درجات في مستوى الفهم والادراك حيث يعتبر أن هناك حقائق لا يمكن شرحها للعامة لهذا على الفيلسوف أن يتوخى هذا الجانب في الكشف عن الأفكار الفلسفية ويتبع منهج الاخفاء أي اخفاء بعض الحقائق عن بعض العقول وإذا كان موسى بن ميمون يعتد أنه ينبغي التوفيق بين العقل والايمان فإنه أيضا يؤمن أن هناك حقائق تتجاوز العقل ولا يمكن فهمها. ويقسم نطاق المعرفة إلى ثلاثة: الأولى يدركها ويفهما الإنسان، وأخرى يدرك بعض جوانبها وتغيب عنه بعضها، وأخرى تتجاوز نطاق ادراكه، ويبرر بن ميمون عجز العقل عن ادراك بعض الحقائق بطريقة غير منطقية حيث يرجع الأمور التي لا يمكن معرفتها إلى أن الأرواح البشرية لا تشتاق إلى معرفتها.
3- التأويل عند موسى بن ميمون:
يرى موسى بن ميمون أن كتب الأنبياء تحمل الظاهر والباطن، فأما الجاهل فيراها على ظاهرها وأما الحكيم فيفهمها على باطنها، إلا أن هناك من تعتريه الحيرة في التوفيق بين الظاهر والباطن حينما يتعلق الأمر ببعض الأمور، فكان كتابه دلالة الحائرين طريق لإرشاد هؤلاء الحائرين. كما أنه يعترف أنه لا يمكن لأحد أن يبلغ كل معاني التوراة لأنه لا أحد يمكن له أن يفهم كل معانيها، كما يؤكد أن المعاني الباطنية لا يمكن كشفها لكل الناس بل للصفوة منهم مثل تلك المتعلقة بقصة الخلق والأمور التي تعنى بالعلم الالهي، ولما كان كتابه دلالة الحائرين يخوض في مثل هذه المسائل والمعاني حرص على توضيح ذلك في مقدمة كتابه أنه غير موجه لجمهور العوام بل لصفوة الناس من أهل العلم والفلسفة.
إذا كان بن ميمون يعتبر أن التوراة تحمل معاني مجازية فإن عملية التأويل في نظره ينبغي أن تستجيب لبعض الشروط المهمة قد عمل على استخلاصها محمد يوسف موسى انطلاقا من كتاب دلالة الحائرين على النحو التالي:
1- يجب أن يكون في الظاهر ما يرشد المتأمل بعقله إلى المعنى الخفي.
2- أن يكون هذا المعنى الخفي أليق من المعنى الذي يدل على عليه النص بظاهره.
3- أن نصير إلى الـتأويل إذا كانت النصوص لو أخذت حرفيا تؤدي إلى التجسيم، أو جواز النقلة أو الكون في مكان على الله، ونحو هذا مما يتصل بصفات المخلوقين التي يستحيل عقلا أن تنسب إليه؛ ولهذا يجب إذاعة تأويل هذه النصوص وأمثالها للعامة والخاصة على سواء.
4- أن يصار إلى التأويل متى قام الدليل العقلي الصحيح على بطلان المعنى الذي يؤخذ من ظاهر النص؛ ولهذا تركت النصوص التي تشهد بظواهرها لحدوث العالم، مع إمكانية تأويلها؛ لأنه لم يقم الدليل القاطع على قدمه حتى من أرسطوطاليس.
5- أن لا نصل بسبب التأويل إلى معنى يهدم أساسا من أسس الشريعة؛ ولهذا كان السبب الثاني في عدم تأويل النصوص التي تشهد بظاهرها لحدوث العالم، وأن القول بقدمه كما يرى أرسطوطاليس يستأصل الدين من أساسه، ويدمغ كل المعجزات بأنها أكاذيب.
6- وأخيرا ألا يذاع من التأويل إلا القليل الذي يكفي لفهمه، وأن يكون ذلك للمستعد له فحسب.