الفلسفة العملية وأزمة التنظير (الجزء الثاني)

مقدمة :

      من الواضح جدا أن المقاربتين الفينومينولوجية والانطولوجية قد توصلت إلى نوع من التوحيد إذ تبقى في نظر فلسفة التنوع شديدة الأهمية ، لأنها توصلت إلى حقيقة راسخة بأن إشكالية اليومي ممكنة الفهم من دون تجاوزها أو انعدامها ، غير أن هناك مقاربة ثالثة تنطلق من نتائج المقاربة الفينومينولوجية وهي المقاربة التنوعية الاختلافية ، التي تنظر إلى اليومي من حيث تنشيط الاختلاف ليكون خلاقا في فهمنا لواقعنا ، من خلال ذلك يمكن أن نتساءل : ما مدى تأثير فلسفة التنوع والاختلاف على فهم اليومي ؟

3 – المقاربة الاختلافية التنوعية

       إذا نظرنا إلى المقاربة المتعلقة بفلسفة التنوع ، تبدو لنا على أنها طريفة ، لا لأنها تحتوي على أشياء متنوعة ، بل لأنها مؤهلة لفهم التغيرات أو التحولات التي تصنع اليومي بالاعتماد على التوجهين الانطولوجي والفينومينولوجي ، لأن الحياة في حقيقتها هي انتصار للحياة على العدم . حيث يقول فريدريك نيتشه في هذا الصدد «هي القبول الأعلى للحياة » ، فهي عنده ليست الحياة العادية  المجردة كتصور ، بل الحياة بتغيراتها و نضالاتها . إن تصور الوجود يعود إلى الفيلسوف اليوناني بارمينيدس الذي ربط الوجود بالعقل نتيجة ثبات قوانينه واستمرايتها ، أي الخلود إذ ما يوجد في هذا العالم هو ما نفكر فيه عن الحقيقة دون أي اعتبار للحظة الآنية وللحدث ، فهي في نظر بارمينيدس لا وجود . لأنه لا يظهر للعقل في استمراريته ، ولا يستوعبه الفكر العقلي باعتباره شديد التغير ، وهي تقابل فكرة المثال عند أفلاطون ، وتصور الفكرة عند ديكارت ، مصطلح المفهوم عند كانط . ومن هذا المنطلق نؤكد أن آنية الفلسفة تكمن في القضاء على تصور الوجود من حيث هو نموذج ، وفتحه على الهنا والآن ، أي الحالة التاريخية كبعد زمني .

    إن الناظر إلى الفلسفة بنوع من التأمل يلاحظ أنه ليس للفلسفة وجود خارج هذه الحالة ، لأنها انفتاح على كل العوالم عقلية كانت أو حسية . ففلسفة اليومي هي وعي بالحاضر ، ومعاناة وبحث عن معنى الوجود كما يتمظهر في حاضرنا ، غير أن التوجه الفلسفي الحالي هو الانفتاح والتنوع والالتصاق باليومي والواقعي وقضايا الفرد المتنوعة . لأنها تريد التماشي مع التطورات العلمية والمجتمعية ، وهذا ما جعل هناك اقتران للعمل الفلسفي بالممارسات القولية المختلفة ، وهو في الحقيقة معرفة لأبعاد اليومي معرفة حقيقية .

     إن قيمة الفلسفة تظهر على وجه الخصوص في كونها تدافع عن القضايا التي تعتبرها ذات أهمية ، وهو ما يجعل الفلسفة اليوم تصبح مبدعة وخلاقة – البحث العلمي للظواهر – وذلك من خلال البحث عن مشروعية العلم ، كما لا تكتفي بالبحث العلمي في تفسير الظواهر فحسب ، بل تعمل على تحديد أخلاقيات العمل السياسي والاقتصادي والديني ...... فهي إذن مبدعة وخلاقة من حيث تنوع موضوعاتها والتصاق قضاياها باليومي ، إضافة إلى اهتمامها بالحداثة التي تبني أفقها على فكرة التغير الحضاري الشامل . فالتغير هو تعبير عن روح العصر . إن ما يميز الفيلسوف عن غيره هو التنظير ، وفي خضم أبحاثه يجعل من اليومي الذي يبدو عاديا نقطة انطلاق نحو الكلي ، حيث عبر ادموند هوسرل على ذلك في قوله بأنه ما تبقى من العالم هو اليومي الكلي وهو العالم بأسره . أما ايمانويل كانط فيذكر في مسوداته التي نشرت بعد وفاته أن الغاية الطبيعية لكل شيء تكمن في تنمية المؤهلات الطبيعية الخاصة ، حيث يتحدد مصير الإنسان الإنساني باعتباره الغاية الطبيعية في ثلاثة نقاط :

1-   تنمية مؤهلات الإنسان الطبيعية من حيث هو مخلوق متعقل

2-   الإنسان حر لا لذاته فقط بل داخل المجتمع وتحت سلطة القوانين

3-   يصبوا الإنسان إلى السعادة من حيث يكون هو نفسه صانع سعادته وذلك بتأسيسها على مبادئ  الخير الكوني الأسمى .

ومن هذه المعايير الأخلاقية الثلاث  تكون لليومي صبغة أخلاقية وديني وصبغة مدنية . 

Modifié le: Monday 22 May 2017, 08:13