مدخل الى الفلسفة واليومي

مقدمة: 

        عند محاولتنا لتحديد مجال الفكر الفلسفي يجب أن ننتبه إلى الدور الذي تلعبه الفلسفة في الحياة اليومية، خاصة في تحديد معطياتها. لكن ما يلفت انتباهنا هو أن اليومي أصبح موضوعا متميزا يتعلق بالتفكير عامة، والتفلسف خاصة. ولتحديد علاقة الفلسفة بالحياة اليومية يجب أن ننطلق من ضرورة تناول إشكالية علاقة الفلسفة الحالية بالواقع المعيش ، وان يتم إلقاء الضوء على مقاربات اليومي الممكنة من وجهة نظر فلسفية ، ليتم تطبيقها على مجتمعنا الحالي ، بعد هيمنة النظريات الاقصائية التي ترتدي تارة ثوب التكنولوجيا وتتغنى بمنجزاتها مؤكدة أن الفلسفة ما هي إلا عبارات خارج نطاق التجريب والواقع ، وتارة أخرى ثوب التدين لتعلن أن الفكر الفلسفي يعادي في كنهه الإيمان . غير أننا لا يمكن دحض هذه الأفكار المسبقة والجاهزة إلا بمنهج فلسفي متميز ، ذلك أن الفلسفة من حيث هي ممارسة فكرية ذات تقنيات خاصة ومآرب محددة ، هي في الأساس عملية توضيح ونقد وتشخيص ضرورية تهم كل من يريد أن يتعامل بذكاء ونجاح مع واقعه ومجتمعه ، ومن خلال ذلك يمكن أن نتساءل : كيف يمكن للفلسفة أن تتعامل مع الحياة اليومية دون أن تكون هناك حاجة إلى معاداة الإيمان ؟ لأن مبدأ الفلسفة المعاصرة هو الاعتراف الصريح بالتنوع الفكري ومحاولة التفاعل معطيات هذا التنوع ، وفي خضم ذلك يجب عليا التمييز بين الفلسفة واليومي وطبيعة العلاقة التي تجمع بينهما .

1 ـ اليومي بين القريب والبعيد

      عندما نريد معرفة اليومي وما يحمله من إشكاليات، يجب أن نتوجه إلى هذا اليومي ومساءلته من اجل استخراج معانيه. لأنه يحمل مجموعة هائلة من الأفكار، غير أن هذه الأفكار مخفية وراء ممارسات الإنسان العادية. كما أن التعابير الإنسانية تحاول من حين إلى آخر استئصال هذه المعاني من اليومي في ذاته ، وهذا من خلال الممارسات اليومية التي يقوم بها الإنسان عبر وسائل متنوعة مثل تكنولوجيات الإعلام والاتصال أو التكنولوجية العلمية والثقافية وغيرها ....غير أن هذه التقنية لفهم اليومي تفرض علينا تصوير الحياة اليومية العادية على أنها خوارق وظواهر ليست بالبسيطة من حيث فهمنا لها، مما تجعلنا نمعن النظر فيها ، ونصبح مجبرين على إعارتها اهتماما بالغا .

     إن اليومي بما يحمله من إشكاليات يدخل فجأة في مجال التفكير فنكتسبه كقيمة لم نعتدها من قبل، وهذا يعني بالنسبة إلينا أن الإنسانية بدأت قيمها الروحية تتلاشى، مما أدى بها إلى العودة  للعادي والمألوف من أجل تقديسه والإعجاب به ، ليس لكونه حاضرا لنا فقط ، بل وكأن هذا اليومي نراه دائما نافعا لنا ومفيد . إذ لا يمكن فهم اليومي على أنه بديهي وساذج وعادي ....بل هو يقبل أن يكون إشكال ويستدعي منا تفكير .

    يعتقد موريس بلانشو M – Blanchot  في كتابه القول اليومي la parole quetidienne أن اليومي يأتينا مبتورا إذا اقتصر على مجال حياتنا فقط الضيقة ، ومجال اليومي القريب ، أي إذا لم يضم داخله تجارب الآخرين التي سنحصل عليها بواسطة المعرفة ، والعلوم والتكنولوجيا . وهذا يقودنا بالضرورة إلى الإقرار بعدم اختصار اليومي في حياتنا الذاتية الضيقة، كما لا يمكن استبعاد البعيد من خلال استقراب العادي وتأصيل القريب .

2ـ اليومي علاقة توتر :

    إن ما تزمع عليه معظم الفلسفات الكلاسيكية أن العلاقة التي تربط الفلسفة باليومي هي علاقة توتر وخصام، فمنذ الفيلسوف اليوناني أفلاطون والناس ينظرون إلى العادي واليومي نظرة استبعاد  لأن الحقائق لا يحتضنها الواقع المعاش بل يحتضنها العقل وعالم المثل ، لأن اليومي واقع وبالتالي فهو ظن وريب وشك ، ومعرفته معرفة نسبية لأنه لا يستند إلى عقل ، بل إلى حس . فالعملية التعقلية هي انتزاع من العادي والنسبي والعامي، أي تعاليا عليه . إذ يتفق مؤرخو الفلسفة أن التفلسف بدأ بالاستعلاء عن ما هو بديهي وساذج ، وما العودة إلى اليومي إلا هي عودة بيداغوجية تعلمية تصبو إلى استعلاء اليومي ، لا من اجل الإشادة به واحتكاره بل من اجل نقده ومحاكمته.

     إن الإنسان الذي تطمح الفلسفة إلى معرفته هو كائن خارق للعادة وإنسان خارق لليومي . فاليومي إذن هو في نظر الفلسفة مجال الدوكسا والنسبية والذاتية .غير أنه مع مجيء هوسرل ونيتشه وهيدغر وفتجنشتين كل حسب منهجه طريقة بحثه في قضايا اليومي أصبح اليومي مجال اهتمام فلسفي ومنه كان اليومي بما يحمله من قضايا تحيط بالإنسان من كل حدب وصوب بمثابة اكتشاف .ومع اكتشاف اليومي في الفلسفة قلب مجالها رأسا على عقب ، من الاعتقاد بأنه عادي ومألوف وبسيط وساذج إلى اعتباره نقطة تحول من نقاط تحول حياة الإنسان. وهذا ما أعطى التفكير الفلسفي طريقة خاصة في التعامل مع اليومي والراهن ، الأمر الذي قاد التفكير الفلسفي إلى مقاربات فلسفية متعددة خاصة باليومي تتمثل فيما يلي :

   ٭ مقاربة اليومي فينومينولوجيا هرمنيطيقيا

   ٭ مقاربة اليومي اجتماعيا سياسيا

   ٭ مقاربة اليومي أخلاقيا وإيطيقيا

   ٭ مقاربة اليومي أنطولوجيا وميتافيزيقيا

ومن خلال هذه الإحاطة بفلسفة اليومي يمكن أن نطرح الإشكالية الآتية : ماذا نعني باليومي ؟ هل هو كل ما هب ودب لدى الإنسان ؟ وكيف يكون اليومي في تنوعه الشديد حاملا للمعنى ومؤسسا لفكر ولمنطق تستطيع الفلسفة ملاحظته؟

أ ـ معنى اليومي

   لقد تعددت وجهات النظر بالنسبة لفهمنا لليومي ، فمنهم من يعتبر اليومي هو :

-         اليومي هو كل ما يحيط بي وأدركه حالا من دون واسطة ليصبح قريبا مني وحاضر في ذهني حضورا مستمرا.

-         اليومي هو فضاء الحياة اليومية بما تتضمنه من عائلة أو حي أو قرية أو مدينة .....كما يعني الفضاء الواسع كالبلد أو مجموعة البلدان التي ينتمي إليها الفرد  بصفة حميمية. ومنه يبدو اليومي على أنه محيط مكاني  تجعل قرابتنا منه قرابة مباشرة .غير أن التصور الزماني لليومي يجعل الحدث الذي يكونه يمكن أن يكون عنصرا محددا ، شريطة أن يضمن زمانية الحدث واستمرار يته استمرارية ممكنة .

-         الحياة اليومية مجموعة من الأحداث متعددة ومتنوعة ، وان الحدث قد ينتهي في اللحظة التي يولد فيها . لكن هناك أحداث قد يكون تواصلها في الزمان ممكنا ، وذلك من حيث ثقل الحدث أو من حيث رمزيته .

فاليومي إذن هو كل الأشياء التي تحدث بصفة منتظمة في عالمنا وتصبغ هذه الأحداث حياتنا العادية بصبغة مميزة لتجعل منه أمرا متميزا . غير أن الحدث إذا تمظهرت تمظهراته في نظام الأشياء أصبح واقعا يوميا مألوفا ،لأن اليومي هو كل الأشياء العادية أو كل ما سيجعل الأشياء تتحول إلى وقائع عادية. ومنه تبدو مهمة اليومي هي تقريب الحدث الخارق ليصبح عاديا .

    إن فلسفة اليومي هي تلك التي تحاول معرفة أنماط الأحداث التي نلتقي بها في العالم ، والتي ستتأهل حتى نتمكن من تدبيرها أو تدبير شؤوننا في ضوئها . يقول بيار ماشري Piere Macherey في استدعاء اليومي ليكون موضوعا للتفكير الفلسفي ، لأن الفلسفة صعبة الاستئصال باعتبارها ترتبط بالإنسان جسما وروحا ، وان أي محاولة للاستئصال هي في الحقيقة مجازفة . كما أن التقليد والابتكار يضلان في تضاد داخل فلك اليومي ، ليبدو اليومي واضحا وجلي على انه ليس هو العادي . ومن هذا كله لا يمكن القول بأن اليومي بعيدا ذهننا وتصوراتنا ،لأننا نؤمه دون أن نفكر فيه ، وعدم التفكير فيه هو ما يجعل قربه منا شيئا غامضا . إن معرفة اليومي يمكن الحكم عليها بأنها معرفة ما قبل فلسفية يصعب علينا إدراكها حقا ، باعتبار أن هناك التفكير في البديهي لأن البديهي بين بذاته لا يحتاج إلى تفكير أو واسطة ، لأن التفكير الفلسفي يقتضي الفكر .

ب ـ معرفة اليومي معرفة فلسفية : 

     كما هو معلوم أن التحليل النفسي مهما كانت اتجاهاته فإنه في تناوله للواقع يحاول أن يتعالى عن معطياته ليستخرج المعنى الكامن فيه . غير أن المعنى لا يمكن أن يكون دائما موجود في ظاهر الشيء مما يتطلب استبطانا . فإذا كان ظاهرا لا يعني أن الظرفية تتحكم فيه ، الأمر الذي يجعل تجاوز الظرفية هو مفتاح كل عمل فلسفي ، لأن العمل الفلسفي  ما هو إلا دراسة فلسفية وعملية متعلقة بالظاهرة المدروسة والفعل وهو ما يسميه راسل بظاهرة حذف الأنوي .

    إن فلسفة اليومي غايتها ليست فهم عالم يومي معين حسب خاصيته ومعطياته ، وهو ما يجعل الفعل يدخل ضمن علم الاجتماع اليومي الذي يتولى مهام وصف الظاهرة اليومية . كما أن فلسفة اليومي همها الوحيد هو استخراج المعنى المؤسس لليومي وطبيعة الحركة التحولية ، موضحا شروط إمكان هذا المعنى الذي يبدو بديهي في عالم الحياة . ومنه تبدو الفلسفة تتميز بالتعالي والتجريد والبحث عن الكليات . ليصبح اليومي فلسفيا دون أن نصبغه نحن بصبغة فلسفية ، لأنه نابع من صميم حاجة الإنسان الملحة على فهم الواقع أو الراهن .  

Modifié le: Monday 22 May 2017, 11:41