تأسست هذه المدرسة ـ التي سماها نقادها أيضا مدرسة الشكلانيين الروس ـ سنة1915 على يد مجموعة من الباحثين على رأسهم رومان جاكبسون (1896ـ 1982) الذي كان مولعا بعلم اللغة التاريخي ودراسة الآداب ونقد الأساليب وبالفلكلور، إلى جانب الاهتمام بتحليل الشعر ونقده وبالموسيقى وسائرالفنون. ومن أعلامها أيضا الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (1893ـ 1930)، وعالم اللغة الروسي سيرجي كارتشفسكي (1884ـ 1955) الذي التحق بالحلقة سنة 1917 بعد أن تتلمذ في جونيف على يد دو سوسير، وقد كان التحاقه عاملا بارزا في نقل آراء دوسوسير وبثها في المدرسة الوليدة، فتلقف جاكبسون تلك الآراء والمبادئ وأسس عليها أعماله فيما بعد مع مراجعات وتعديلات وانتقادات في أحيان أخرى.

وقد طبعت الحياة العلمية لجاكبسون ثلاث مراحل أساسية: تتمثل الأولى في تأسيس حلقة موسكو اللسانية وتلقي آراء سوسير، أما الثانية فكانت مع الهجرة إلى تشكوسلوفاكيا سنة 1920 والإسهام في تأسيس حلقة براغ اللغوية مع تروبتسكوي (1890ـ 1938) وهنا بدأ الاجتهاد في تلقي الآراء السوسيرية ونقدها وطرح البدائل، أما المرحلة الثالثة فإيذانها الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الغزو الألماني لتشكوسلوفاكيا، حيث استقر جاكبسون في معهد ماساشيوست للتكنولوجيا (MIT) وتفرغ لدراسة قضايا اللسانيات العامة وتعليمية اللغات السلافية وآدابها.       

أ ـ استلهم جاكبسون رفقة تروبتسكوي مبدأ النظام الذي قال به دو سوسير القاضي بأن اللغة كيان مكتف ذاتيا وهي في جوهرها نظام من العناصر التي تعمل من خلال الفروق بين لغة وأخرى دون إعارة اهتمام للأنظمة الصوتية (اللغة شكل لا مادة)، لكنهما انفتحا على دراسة تلك الأنظمة الصوتية، فقد اتجه الأول إلى دراسة التطورات التاريخية للأنظمة الصوتية اللغوية، وتعهد الثاني باعتماد مفهوم النظام المكتفي في تحليل النظم الصوتية في كل الألسن البشرية. غير أن دراستهما بينت هشاشة المبدإ السوسيري؛ نظرا لأن النظام الصوتي ليس من طبيعة واحدة تماما، وإذا كان دوسوسير يرى أن لا شيء يربط المادة الصوتية سوى مبدإ الاختلاف، فإنهما يعتقدان بأن أصوات مثل (t)(d)(f) لا رابط بينها إلا كونها فونيمات متمايزة ما دامت تعمل على التمييز بين المعاني، في وقت أن (t)(d) تربطهما علاقة أكثر مما يرتبطان بالصوت (f)؛ وذلك بالنظر إلى أن أعضاء النطق تأخذ نفس الوضع في نطقهما مع قيمة خلافية جوهرية هي الجهر في (D) دون (T).

وهنا يطرحان مصطلحات مهمة في ضبط المفاهيم: (الارتباط) عندما تقوم علاقة مفهومة وواضحة بين صوتين أو أكثر و(القطع) عندما تنعدم تلك العلاقة، ولا تكون عندئذ إلا قيمة المفارقة والاختلاف لا غير، (الفونيم الأساسي) ويقصدان به كل الخصائص المشتركة التي توحد بين صوتين أو أكثر بغض النظر عما قد ينفرد به صوت منها من الخصوصيات  المسماة (علامة) كالجهر الحاضر في (d)  الغائب في (t).

ب ـ البنيوية الهرمية:

    اقترح جاكبسون في إطار هذا التصور سلما هرميا للأصوات في كل اللغات الإنسانية، فصوت مثل (a / ا) صوت غير معلم، وهو يخرج بأقل قدر من الإغلاق للمجرى، إلا أنه كلما أضفنا إليه درجة ما من درجات الإغلاق (اللسان/ اللسان مع الشفتين/ الحنجرة بالنسبة للأصوات الصامتة) كان ذلك تعليما نطقيا مؤثرا على الصوت الأساسي (غير المعلم/ المتحرر/ المطلق). وتتمثل أعلى درجة لتمييز في أولى الكلمات التي يكتسبها الطفل (ماما/ بابا) التي تحمل تضادا بين أدنى السلم وأعلاه (الصائت المتحرر في مقابل الصامت الشفوي الانفجاري).

    كما أن صعوبة اكتساب أصوات معينة أو سهولة أخرى راجع عند جاكبسون إلى العقل ومدى اكتمال بنياته لا إلى اللسان بوصفه عضوا مكتملا، ونظير هذا مهارتي القراءة والكتابة، فالأمر إذن يتعلق بسهولة إدراك العقل لأصوات دون أخرى أو بصعوبته، وقد أشار إلى أن رتبة صوت معين ضمن السلم الكوني للاكتساب الصوتي عند الأطفال يتطابق مع درجة توزيعه بين لغات العالم، فهم يتعلمون الفوارق القوية قبل الضعيفة، وعليه فإن اكتساب الأصوات الاحتكاكية (فوارق ضعيفة) يعني بالضرورة اكتساب القطعية الموقوفة الانفجارية. أما عند الفقدان بسبب مرض الحبسة الكلامية فالأمر يأخذ مسارا عكسيا، فتكون الأصوات غير المعلمة أكثر ثباتا من المعلمة التي يسرع إليها التأثير، والحال نفسها بالنسبة إلى الأكثر والأقل تعليما.

ج ـ أسباب التغيرات الصوتية:

  إذا كانت قناعة النحاة الجدد من أنصار مدرسة "ليبزغ" الذين أثروا كثيرا في دوسوسير مفادها أن التغيرات التي تحدث في المستوى الصوتي في تاريخ لغة من اللغات لا يمكن تفسيرها إلا بتحكمية القوانين الداخلية التي تحكم اللغة ولا شيء غير ذلك، فإن جاكبسون يعتقد بأن ما يصيب أصوات اللغة في تاريخها الطويل يرجع إلى سبب رئيس يقبع خارج البنية وهو (الوظيفة)، وهو ما يعد امتدادا لرأي سقراط في عمل اللغات، كما عرضه أفلاطون في محاوراته، وبخاصة محاورة كراتيليس.

وعندما ينص جاكبسون على أن "اللغة في الواقع أداة انتظمت بقصد التعبير عن الأفكار"، يكون بذلك قد فتح الباب لتجاوز تحكمية الوظيفة إلى مجال الأساليب، وخاصة ما يعرف بالأسلوبية التعبيرية التي أرسى دعائمها شارل بالي. لكن الإشكال الذي ينهض أما ما يذهب إليه جاكبسون هو دعوته إلى نسبة التغيرات إلى الوظيفة وإلى نفي أي قصدية تقف وراء ذلك التغير، وهذا يشبه إلى حد بعيد فكرة اليد الخفية التي قال بها آدم سميث في نظريته في الاقتصاد.

   كما تبني جاكبسون في محاولة معرفة أسباب التغيرات اللغوية الصوتية مقاربة تحمل هي الأخرى إشكالا واضحا، وذلك عندما قال بأن العلامة اللغوية تاريخية سكونية في الوقت نفسه، وهو يقصد استصحاب التاريخ في فهم الحالة الراهنة التي ليست سوى سلسلة من التغيرات في التاريخ، حتى استقرت على ما هي عليه.

د ـ نظرية وظائف اللغة:

  اقتبس جاكبسون مبادئ نظرية الاتصال التي ظهرت سنة 1948 في معالجته اللغة، فرأى أن اللغة تؤدي في مجموع استعمالاتها مجموعة من الوظائف بحسب أطرافها وسياقات استعمالها ما يرتبط بها وأهدافها، وخرج من ذلك بخطاطة سداسية للمكونات وللوظائف:

ـ المرسل: ويرتبط بالوظيفة التعبيرية أو الانفعالية

ـ المرسل إليه: ويرتبط بالوظيفة الإفهامية أو التأثيرية

ـ السياق: ويرتبط بالوظيفة المرجعية

ـ الرسالة: وترتبط بالوظيفة الإنشائية

ـ السنن: ويرتبط بالوظيفة ما وراء لغوية.

ـ القناة/ الصلة: وترتبط بالوظيفة الانتباهية.

وقد استثمر ذلك في معالجته للأدب وتحليله للأساليب النثرية والشعرية، وقد نبه إلى أن موضوع علم الأدب ليس هو البحث في الأدب، بل في الأدبية، وهو ما يكون به نص ما أدبا.           

آخر تعديل: Wednesday، 5 May 2021، 12:14 PM