النص الأول: البحث في نشأة اللغة [1]

... لا ريب أن أبا البشر آدم – عليه السلام – قد نزل إلى الأرض، في حقبة من الزمان وكانت له لغته التي تفاهم بها مع بنيه وقومه، وتلقّى بها الوحي من الله عز وجل، وقد حكى القرآن الكريم جانبا كبيرا من الحوار الذي دار بينه وبين الملائكة وسبب استخلافه في الأرض، وكذلك حديث الله تعالى معه، والوحي إليه، وكان هذا مثار جدل بين الباحثين في نشأة اللغة الأولى، ويحكي السيوطي في المزهر بعض هذه الآراء.

وحول لغة الإنسان الأولى اختلفت الآراء، وكلّ منها يثبت وِجهة نظر خاصة، قامت على تفكير معيّن، وأدلّة ارتآها أصحابها مناسبة لهم، ومؤيّدة لقصدهم.

وقد اعتمد كثير من أصحاب هذه الآراء، على نظريّات فلسفية، وأدلّة غير واقعية، أثبت البحث الحديث عدم نضجها أو صحّتها.

وفسّرت بعض الآراء نشأة اللغة الأولى بناء على دراسة الظواهر اللغوية، والمؤثّرات عليها، فوصلت إلى نتائج تحتمل الصدق.

والذي سبّب تشعّب الآراء هو عدم قيام الدليل الأوكد على الطريقة التي نشأت بها لغة الإنسان الأوّل، فلم يأت الوحي بذلك على لسان نبيّ، مؤكدا نشأتها بهذا الطريق أو ذاك، ولم تأت كتب تاريخية معتمَدة ببيان كيفية النطق الأوّل للإنسان، ولم ترد تجارب معيّنة أو تسجيلات صوتية قديمة تثبت ما خفي علينا من أمر هذه اللغة الأولى.

ومن هنا يعدّ البحث في نشأة اللغة الأولى ميتافيزيقيا (غيبا) يعتمد على الحدس والتخمين، لكنّنا لا نرى مانعا من إثارة هذا البحث – وإن كان لا يزال غامضا – فإن البحوث الحديثة تتوالى في الكشف عن أسرار الكون وخفاياه، وربّما كشفت التجارب الحديثة والمعلومات التي تتأكّد لنا كلّ يوم عن جديد في هذا البحث، يؤيّد الرأي الذي يستحقّ القبول.

 

النص الثاني: باب القول على لغة العرب: أتوقيف أم اصطلاح؟[2]

... أقول: إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قولُه جلّ ثناؤه: )وعلّم آدم الأسماء كلّها( فكان ابن عبّاس يقول: علّمه الأسماء كلّها، وهي هذه التي يتعارفها الناس من: دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

وروى خصيف عن مجاهد قال: علّمه اسم كلّ شيء.

وقال غيرهما: إنمّا علّمه أسماء الملائكة.

وقال آخرون: علّمه أسماء ذريّته أجمعين.

والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس، فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثم عرضهنّ أو عرضها" فلمّا قال "عرضهم" عُلِم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب يقال لما يَعقِل "عرضهم" ولما لا يعْقِل "عرضها أو عرضهنّ" قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلّب ما يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب، وذلك كقوله جل ثناؤه:  

(والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) (سورة النور) فقال: (منهم) تغليبا لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم.

فإن قال: أفتقولون في قولنا: سيف، وحسام، وعضب إلى غير ذلك من أوصافه أنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مصطَلَحا عليه ؟ قيل له: كذلك نقول والدليل على صحة ما نذهب إليه إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتّفقون عليه، ثم احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة مواضعةً واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.

ولعلّ ظانّا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد، وليس الأمر كذا، بل وقف الله جلّ وعزّ آدَمَ - عليه السلام - على ما شاء أن يعلّمه إياه ممّا احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم عَلَّم بعد آدم عليه السلام من عرب الأنبياء - صلوات الله عليهم - نبيّا نبيّا ما شاء أن يعلّمه، حتى انتهى الأمر إلى نبيّنا محمّد - صلّى الله عليه وسلم - فآتاه الله جل وعزّ من ذلك ما لم يؤته أحدا قبلَه، تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدّمة، ثم قرّ الأمرُ قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت، فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجد من نقّاد العلم من ينفيه ويردُّه...

وخلّة أخرى، أنه لم يبلغنا أنّ قوما من العرب في زمان يقارب زمانه أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلِحِين عليه، فكنّا نستدلّ بذلك على اصطلاح كان قبلهم.

وقد كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم - وهم البلغاء والفصحاء- من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به، وما عَلِمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدّمهم.ن الله أوحىأ

النص الثالث: باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح؟[3]

هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف، إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوما: "هي من عند الله"، واحتجّ بقوله سبحانه: (وعلم آدم الأسماء كلها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدرَ آدمَ على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة، فإذا كان ذلك محتمَلاً غيرَ مستنكَر سقط الاستدلال به، وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال به في بعض كلامه، وهذا أيضا رأي أبي الحسن [الأخفش] على أنه لم يمنع قول من قال إنها تواضع منه، على أنه قد فسّر هذا بأن قيل: إنّ الله سبحانه علّم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات؛ العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللّغات، فكان آدم وولده يتكلّمون بها، ثم إنّ وَلَدَه تفرّقوا في الدنيا؟، وعلِق كلٌّ منهم بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحلّ عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.

وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به.

فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكلّم المعلَّم من ذلك بالأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خصّ الأسماء وحدها؟ قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بدّ لكلّ كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلّة عن كلّ واحد من الحرف والفعل، فلمّا كانت الأسماء من القوّة والأوّلية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يُكتفى بها مما هو تالٍ لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.

ثم لِنعد فلْنقُلْ في الاعتلال لمن قال بأنّ اللغة لا تكون وحيا، وذلك أنّهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بدّ فيه من المواضعة، قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد سمة ولفظا، إذا ذُكر عرف به ما مُسمّاه، ليمتاز من غيره ولِيغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقرب وأخفّ وأسهل من تكلّف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله، بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني وحال اجتماع الضدّين على المحلّ الواحد كيف يكون ذلك لو جاز، وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه، فكأنّهم جاءوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأيُّ وقت سُمع هذا اللّفظ عُلم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك، فمتى سمعت اللفظة من هذا عُرف معناها وهلمَّ جَرًّا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف.

ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مَرْد، والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر، وعلى هذا بقية الكلام.

وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد منها لغات كثيرة، من الرومية والزنجية وغيرهما.

النص الرابع: نظرية محاكاة الأصوات الطبيعية في نشأة اللغة[4]

... وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلّها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوّي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب، وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهبٌ متقَبَّل.

 

النص الخامس: العامل الديني والبحث في أصل اللغات[5]

... القرن التاسع عشر هو الذي شهد في أوروبا، التأريخ للّغات وتصنيفَها في عائلات ... وهو وقت متأخّر جدًّا بالنسبة لظاهرة كان ينبغي أن تشدّ انتباه العلماء من قبل، فما السبب في ذلك؟

إلى جانب روح الصراع بين اللاتينية الفصحى وبناتها العامّيات وما كان يمليه من نفور ومقاومة في حلقات العلم الرصينة المحافظة، كان هناك عامل آخر له صفة دينية؛ ذلك أن الكتاب المقدَّس الذي تدين به أوروبا كان أصله باللغة العبرية، وكان اليهود منذ حقبة التّلْمود قد أشاعوا أن هذه اللغة التي كلّم الله ‎بها موسى لغة أبدية أزلية سماوية، نستطيع أن نقول إنها في اعتقادهم اللغة الرسمية لله، ووافقهم على ذلك آباء الكنيسة المسيحية، فظلّوا حتى القرن السابع عشر يقولون: إنه ما دامت هذه اللغة هي لغةَ الوحي فإنه يترتّب على ذلك ضرورة الاعتقاد بأنها اللغة الأولى للبشر التي عنها تفرّعت جميع ألسنتهم، وإن كانت حكاية برج بابل التي وردت في سفر التكوين من التوراة تخفّف كثيرا من سلطان هذه العقيدة، ومع ذلك فقد وُجِد من يقول بأمومة العبرية لِلُغات البشر، ومنهم (كيشار E.guichard) الذي ألّف في ذلك في أوائل القرن السابع عشر دراسة عن "النسق الاشتقاقي للغات المنحدرة من العبرية" ولكن الفيلسوف "ليبنيز" (Leibniz) يحمل على هذه العقيدة وعلى أشباهها حملة شعواء.

إلا أن النظرية البديلة التي قدّمها "ليبنيز" لم تكن قد وصلت إلى حدّ الكمال، فهو يحاول أن يجعل لغات أوروبا وآسيا ترجع إلى أصل واحد يضمّ اللغة المصرية القديمة، ولكنّنا على كل حال نقترب شيئا فشيئا بهذا الشكل من اكتشاف اللغات الهندية الأوروبية وما بينها من صلات، وهي صلات لاحظ بعضها منذ القرن السادس عشر الإيطالي "ساسيتي" (Ph.Sasseti) والفرنسي "كيردو" (P.coeurdoux) والإنجليزي "جونز" (W.jones) بعد ذلك.

وتاريخ اللغات وتقسيمها إلى عائلات، إذا كان يرجع في أوروبا إلى القرن التاسع عشر، فإنه في الشرق العربيّ أقدم من ذلك بكثير، فاللغوي الفرنسي "جان بيرو" يذكر في كتابه (علم اللغة) أن الإمام ابن حزم الأندلسي المتوفَّى في القرن الخامس الهجري قد ذكر أن اللغة العربية والعبرية والسريانية متفرّعة من أصل واحد، كذلك قال الإمام اللغوي علي بن أحمد بن سِيدَة في كتاب (المخصّص): "... وكنعان بن سام بن نوح، وإليه ينسب الكنعانيون، وكانوا أمّة يتكلّمون بلغة تضارع العربية."

 


النص السادس: آراء ساذجة في تأويل نشأة اللغات[6]

لقد ظلّ العالَم غافلا عن تلك الرموز اللغوية حتى أواخر القرن السابع عشر، فكان يحاول تأويل نشأة اللغات في سذاجة عجيبة، حتى أوشك كثير من العلماء أن يجزموا بأن العبرية لغة الوحي هي لغة الإنسانية الأولى التي تشعّبت منها لغاتُ العالم المعروفةُ كلُّها، وكان على آباء الكنيسة أن يستندوا إلى الكتاب المقدّس لتأييد هذا الرأي، وقد وجدوه في سفر التكوين... وكذلك استند العرب من قبل إلى آية قرآنية حين مال كثير منهم إلى أن لغة العرب توقيف لا اصطلاح، واضطرّ ابن جني إلى تأويل تلك الآية على غير ما فَهِمها عليه أشياخه، فنَسَب إلى أكثر أهل النظر القولَ بأن أصل اللغة تواضعٌ واصطلاح لا وحي ولا توقيف...

فإذا استثنينا رأي هذا العبقري ابن جنّي الذي سبق إلى القول بوضع اللغة، وبأنّ وضعها لم يكن في وقت واحد، بل على دفعات؛ إذ تلاحق تابع منها بفارط، وأنها بدأت بصورتها الصوتية السمعية فكان أصلُ اللغاتِ كلِّها الأصواتَ المسموعة، واستثنينا أيضا آراء من تابع ابن جنّي على هذا المذهب السديد، وجدنا أئمة العربية الباقين يكادون يُطْبقون على أن اللغة إلهام وتوقيف، ويكادون لا يختلفون في تصوّرهم نشأة اللغة الإنسانية عمّا كان سائدا في الغرب حتى أواخر القرن السابع عشر في الأوساط الكَنَسيّة إلا في فرق ضئيل لا يُؤبه له: أن لغة الوحي في نظر الإسلام كانت لغةَ القرآن، على حين كانت في نظر آباء الكنيسة لغةَ الكتاب المقدّس !

ومن أعجب صور التلاقي على صعيد الفكر أن العرب حين غَلَوا في لغتهم، لأنها لغةُ الوحي، فخصُّوها بالمناسبة الطبيعية بين ألفاظها ومدلولاتها، نافسهم الغربيون بتخصيص هذه المناسبة بالعِبرية، لأنها لغة الوحي كذلك، فهبّ "كيشارد" E. Guichard  في مطلع القرن السابع عشر يبرز فكرة التناسق الصوتي في اللغات المتفرّعة عن العبرية.

وكان لـــ "ليبنز" (Leibnis) الفضل في مقاومة هذا التفكير الأسطوري الذي يبدأ بافتراض الرأي وينتهي سريعا إلى التسليم به، ثم إلى فرضه على الناس، ورأينا كثيرا من الباحثين – بعد "ليبنز" – ينكرون القول بأصل اللغات، وينادون باستحالة الوصول إلى نتيجة قطعية تبيّن الصورةَ التي بدأ الإنسان يتكلّم عليها.

 




[1] عبد الغفار حامد هلال، العربية خصائصها وسماتها، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1425هـ / 2004م، ص 23

[2] أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1418ه/ 1997م، ص 12

[3] عثمان بن جني، الخصائص، تحقيق: محمد على النجار، دار الكتاب العربي، بيروت، (د ت)، 1/ 40

[4] ابن جني، الخصائص، 1/ 46

[5]  حسن ظاظا، اللسان والإنسان، دار القلم، دمشق، ط2، 1410ه/ 1990م، ص144

[6] صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 33


Modifié le: Thursday 15 April 2021, 12:10