المحاضرة الثامنة : المدرسة الانجليزية ( مدرسة لندن لفيرث) 

تمهيد:

     إنّ النظرية اللّغوية المتميّزة، والاعتراف بعلم اللّغة العام باعتباره موضوعاً أكاديمياً في بريطانيا مدينان بالكثير لـ"فيرث" أستاذ علم اللّغة العام في جامعة لندن من 1944 م إلى 1956 م، و أول حامل للقب في علم اللّغة في هذا البلد، و« قد كان لـ"فيرث" اهتمام خاص باللّغات الشرقية، فقد عاش فترة من الزمن في الهند وتأثر بجهود علماء الهنود القدماء... كلّ ذلك أهله لوضع نظرية لغوية حجر الزاوية في هذه النظرية هو فكرة السياق».

1- مصطلحات السياق والمعنى والوظيفة والعلاقة عند فيرث:

      اعتمد "فيرث" ـ مثل اللغويين الأمريكيين ـ على عمل الأنتروبولوجيين وتفكيرهم، و تأثر خصوصاً بالأنتروبولوجي "مالينوفسكي" الذي واجه مشاكل في ترجمة اللغات القديمة، و وجد أنّ من الضروري وضع الكلمات في السياق داخل العبارة الكاملة في موقفها؛ أي السياق من خلال الموقف... هذا الموقف الذي لا يجب أن ننظر إليه ـ برأي "مالينوفسكي" ـ على أساس أنّه غير متعلق بالتعبير اللغوي.

      وينتقد "فيرث" المنطقيين والفلاسفة الذين يرون أنّ الكلمات والعبارات لها وظيفة في ذاتها منفصلة السياق، فيقول: « اعتقد أنّ الأصوات لا ينبغي أن تكون مفصولة نهائياً عن النظام الاجتماعي الذي توجد فيه، وهكذا فإنّ كلّ المستويات اللغوية الصوتية، والصرفية، والمعجمية، والدلالية في اللغات الحديثة يجب أن ينظر إليها على أساس أنّها نتاج سياق شامل من خلال الموقف».

      واعتبر "فيرث" المعنى مجموعة مركبة من العلاقات الوظيفية داخل السياق،... وهو يشبه المعنى وانتشاره عبر المستويات اللغوية المختلفة، بانتشار الضوء المركب من أطوال موجية مختلفة في موشور زجاجي.

     ونتيجة لما سبق يقرّر "فيرث" بأنّ: « المعنى الكامل لكلمة هو دائماً مرتبط بالسياق، ولا يمكن أن تؤخذ أي دراسة بعين الاعتبار إذا لم يهتم بهذا الجانب؛ أي السياق».

2- أنواع السياق عند فيرث:  السياق عند "فيرث" ينقسم إلى نوعين:

أـ السياق اللّغوي:

     ويتمثل في العلاقات الصوتية و الفونولوجية و المرفولوجية والنحوية والدلالية، والسياق اللغوي، هو ذو أهمية بالغة عند "فيرث"، حيث يميز بين العلاقة القائمة في المحور التركيبي والتي يطلق عليها اسم "البنية" و بين العلاقة القائمة في المحور الاستبدالي و التي يطلق عليها اسم "التنظيم".

    ويشرح "موريس لوروي" معنى هذين المصطلحين، بأنّ « البنية تعني سلسلة العناصر ذات العلاقة التركيبية فيما بينها، أما التنظيم فهو التجميع الاستبدالي للعناصر المسموح بها».

ويعزو" بالمر" أهمية السياق اللغوي إلى أمرين:

أولاً: أنّنا غالباً نستطيع أن نميز المعاني المختلفة بالنظر إلى السياقات اللغوية للكلمات؛ وذلك أنّ الكلمة تأخذ في سياق ما معنى يختلف عن معناها في سياق آخر.

ثانيا: أنّ الكلمات يكون لها معنى أكثر تحديداً في حالة تضام معين.

     وهنا تكمن أهمية المعنى انطلاقا من السياق اللغوي، ذلك « أنّ العديد من الكلمات لها معاني خاصة، لا تظهر إلاّ في استعمالاتها مع كلمات أخرى، حيث تكون معرفة معناها شيئا مستحيلاً خارج إطار هذه التركيبات الخاصة».

ب ـ سياق الحال أو المقام:

     ويمثله العالم الخارج عن اللغة، بما له صلة بالحديث اللغوي، و يتمثل في الظروف الاجتماعية والبيئة النفسية والثقافية للمتكلمين أو المشتركين في الكلام. وعمد "فيرث" إلى تطوير هذه المفاهيم والتوسع فيها، و" قد اعتبر أنّ المعطيات الاجتماعية هي بمثابة الخلفية التي يجب الرجوع إليها لتحديد القصد من تلك الكلمات أو الجمل التي توحي بأكثر من معنى، وقد ربط اللغة بالمجتمع برباط أوثق، واعتبر أنّ الإنسان إنّما يتخاطب مع غيره ضمن مواقف اجتماعية مختلفة تحدد شكل الخطاب الذي عليه أن يعتمده و نوعية الكلمات التي عليه اختيارها".

     وقد حدّد فيرث عناصر المقام في قوله:« إنّ سياق الحال يقودنا إلى الحديث عن العناصر الآتية:

أ‌- الأشخاص والشخصيات التي لها علاقة بالموضوع (أفعال الأشخاص المترجمة بالأقوال، الأفعال غير المترجمة بالأقوال).

ب‌- الأشياء التي لها علاقة بالموضوع.

      هذه العناصر التي لابد من الرجوع إليها للاقتراب من سياق الحال أو المقام عند "فيرث"، غير أنّ بعض الذين تناولوا نظرية "فيرث" بالشرح، توسعوا في هذه العناصر وفصلوها أكثر فأصبحت تشمل:

أ‌-      طبيعة المشاركين وعلاقاتهم فيما بينهم.

ب‌-    عدد المشاركين.

ت‌-    أدوار المشاركين؛ أستاذ/ طالب، طبيب/مريض، بائع /زبون...

ث‌-    وظيفة فعل الكلام؛ إثبات، طلب، تمن، إغراء...

ج‌-    طبيعة الوسيلة؛ كلام، كتابة: كلام مكتوب، كلام محقق بالحركات.

ح‌-    صنف الخطاب؛ كلام سياسي، شعر ملحمي...

خ‌-    موضوع الخطاب؛ تجربة علمية، رياضية، أدبية...

د‌-     الوضعية الحالية؛ ضجيج، هدوء...

4- الانتقادات التي وجهت إلى "فيرث" ونظريته:

      لم تسلم نظرية السياق ـ كغيرها من النظريات ـ من سهام النقد الموجهة إليها، ويمكننا تلخيص ما وجه إليها من نقد فيما يأتي:

أ‌-      لسنا في حاجة إلى السياق لمعرفة المعنى، و يمكننا أن نعرف معنى الكلمة أو الجملة دون أن نستخدمها في السياق.

ب‌-    أنّ نظرية السياق ـ باعتبارها تعرف المعنى بالنظر إلى الإشارة (أي ما تشير إليه الكلمة) ـ تجعل مجال علم الدلالة غير متناه.

ت‌-    أنّ "فيرث" نفسه كان غامضاً في استخدامه لكلمة (معنى)، خاصة عندما قرر أنّ المعنى يتوزع على المستويات اللغوية، و أنّ سياق الحال هو أحد هذه المستويات.

ث‌-    أنّ نظرية "فيرث" ليس لها إلاّ قيمة محدودة للغاية، فسياق الحال قد يكون صحيحاً بالنسبة للهجة معيّنة... و لكن لا يمكن تعميمها على اللغات الأخرى.

الخاتمة:

       ونخلص إلى أنّ أهم ما وجه إلى "فيرث" و نظريته من نقد يتلخص في عدم جدوى السياق اللغوي، و كذا لا محدودية سياق الحال، غير أنّنا إذا أمعنا النظر في هذه الانتقادات، وجدناها تطمح إلى نظرية (جامعة مانعة) في اللغة، يكون بمقدورها التصدي لتفسير كلّ ظواهر اللغة الإنسانية المعقدة، لكن ذلك أمر عسير إن لم يكن مستحيلاً، ويكفي نظرية "فيرث" أنّها تستطيع أن تفسر و توضح الكثير من القضايا الدلالية، و أنّها أعادت الاعتبار إلى الجوانب الأخرى غير اللغوية، فأثبتت أنّ الدلالة لا يمكن أن نظفر بها بالاقتصار على العلاقات النحوية و الصرفية وحدها.

Last modified: Wednesday, 10 March 2021, 8:55 PM